أزهار أحمد
لا أذكر أني قرأت ربع قائمة وجبات في أي مطعم أومقهى في حياتي فهي من أكثر الأشياء التي تضجرني، وغالبا ما أختار وجبتي من صورتها. لكن أخيرا وبالصدفة تأسرني قائمة وجبات مستطيلة زاهية فقرأتها من الغلاف للغلاف أكثر من مرة وصورتها صفحة صفحة سعيدة بما بين يدي. أن تتحول قائمة وجبات مطعم إلى صفحات فنية وموسيقية وكأنك تسمع الألحان تخرج منها فهذا أمر ساحر ولا يتكرر كثيرا وبالتأكيد يعني أن صاحبها فنان لديه إحساس فني عال وشغف لا حدود له، فليس من السهل النفاذ إلى قلوب الناس بالألوان والكلمات والموسيقى، لكن من الذكاء دمجها مع الوجبات لإثارة الحواس. ومن الممتع أن تقرأ هذه العبارة على الغلاف: «لا يقاس الطبق بطعمه فقط بل كيف يثير حواسنا فالوجبات هي الحب والعطاء بسخاء». فتشعر فجأة وأن جاهزيتك للاستمتاع قد استيقظت وأن الألحان حولك تمد لك ذراعها لتضمك.
تحتل صورة المطربة الهندية المعروفة آشا بوسلي صاحبة سلسلة مطاعم آشاز وصاحبة أكبر رقم قياسي عالمي في عدد الأغاني، الصفحة الأولى المزينة بالزخرفة الهندية المعروفة والمطبوعة على عدة ألوان زاهية يغلب عليها البنفسجي والبرتقالي كي ينسحر بها من يمسكها فتفتح شهيته قبل أن يقلب الصفحة الأولى. تتكرر صورة المطربة في عدة صفحات وهي في مراحل مختلفة من عمرها بابتسامتها الساحرة، تحيط بها الزخارف الجميلة التاريخية ذات الرموز المتنوعة، والتي يشبه بعضها النوتات الموسيقية على صفحات ذات ألوان أخاذة. هل بالغت في وصفي؟ إذن انتظروا لتتذوقوا الوجبات.
والحقيقة أنه رغم أن الأكل كان شهيا جدا فالحديث هنا ليس عن الوجبات ولا عن تنوعها، بل عن طريقة تحضير الزبون للأكل، وعن الفن الذي لم نألفه، عن الكلمات البسيطة التي قد ترافق قوائم الوجبات بالمطاعم أو حتى في المقاهي والأماكن العامة. الكلمات التي تتملك قلب الإنسان وتدفعه للطيران أو السكون والطمأنينة، عن أبسط الأشياء التي نحبها ونوثقها مع بعضها كي نصنع منها حبا وجمالا. لا يغيب عن ذهن صاحبة المطعم أن تذكرنا بأنها هي الفنانة التي تعشق الغناء أيضا وأن الطبخ فن يجلب السعادة إن أعددناه بحب وأضفنا له بعض البهارات. «يشبه الطهي الغناء كثيرا، فهو يجلب السعادة. والفرح إلى جمهوري؛ أو كما أفضل اعتبارهم ضيوفي الخاصين». مثل هذه العبارات كفيلة وحدها بأن تجعلك تأكل كما لو كنت تسمع أغنية عذبة أو تأكل وجبة شهية. أيهما أقرب إلى نفسك.
كيف يصل الإنسان إلى تسخير حبه وطموحه للأشياء التي يحلم ويصنع منها واقعا يبث في نفسه حياة جديدة، كيف يمكن للإنسان أن يبقي الشغف بداخله فيضيف إلى عمره عمرا كل يوم، ويضيف للآخرين الذين يصلهم ذلك الشغف أعمارا وأحلاما جديدة. لم يكن صعبا على واحدة مثلي أن تقع في غرام كلمات وألوان وزخارف وروائح تخرج من ورق سميك مصقول بالمحبة والفن، فلطالما كانت روحي تواقة لهذه الأجواء.
لا تكتفي آشا بالتعبير عن حبها للفن والطبخ وعلاقتهما ببعض، بل هي أيضا لا تنكر مصدر طرق إعداد بعض الوصفات، فعند كل وجبة لها معها ذكرى أو تحتاج إلى إحالة تاريخية تذكر ذلك بمحبة، وهنا أيضا هي تلعب على الذاكرة فتعطي الزبون إحساسا جديدا يدفعه لتجربة عيش الأجواء المجهولة. «كان راهول ديف بورمان أحد أمراء العائلة الملكية في تريبورا بشمال شرق الهند وامبراطور الموسيقى الهندية الشعبية وتأتي هذه الطريقة بقلي الربيان من إقليمه الأصلي وقد عشق هذا الأسلوب «. هذه العبارة كانت من الشروحات التي ذكرتها عند إحدى الوجبات فجذبتني ودفعتني لفضول البحث عن والتقصي عن هذه العائلة المالكة.
«إن الوصفة الرائعة تشبه لحنا خالداً، فهي تحدث ولكن مرات قليلة في عمر المرء»، هذا الدمج الحسي والوجداني لا يعرفه إلا من جرب متعة الفن ومتعة التلذذ بوجبة شهية يبقى مذاقها بين لسانه عمرا لأنها لم تكن مجرد مكونات عادية للأكل، بل بما أضيف لها وبكيفية إعدادها والاستعداد النفسي لتناولها. ماذا كان سيحدث لو تغير مفهوم الأكل لدينا؟.
أحببت جميع الصفحات بألوانها وتناغمها وكلماتها وطريقة عرضها، وكانت تلك الوجبة التي تناولتها تشبه لحنا خالدا كما أرادت صاحبة المطعم الفنانة العظيمة آشا. ومع محاولاتي لسرقة و اختطاف تلك القائمة إلا أن النادل رآني وطلب مني أن أتركها مع اعتذاري وتكرار طلبي بأن يعطيني اياها. لكنه رفض فاكتفيت بما صورته في ذاكرة هاتفي وفي ذاكرتي.
جريدة عُمان