*آمال الديب
خاص- ( ثقافات )
قد لا يرغب الكاتب أن يتماس مع واقعه حين يبدع، لكنه رغمًا عنه يتقاطع، أو يتوازى معه، أو على الأقل يتكئ على الكثير من معطياته. نعم هي المعطيات.. بمعالجة غنية واسترسال تلقائي كنهر تأخذنا الروائية المصرية المبدعة منى الشيمي في جولة داخل ذات ملتاعة بتفاصيل توقُّع فقد وشيك مضفَّرة بفقد قديم حفرت بقاياه ندوبًا في الروح هو أقرب إلى فقد الهوية الإنسانية ذاتها من وطأة ممارسات بيئية ومجتمعية فرضت قهرًا على البطلة المتماهية مع الصوت الراوي الأحادي للأحداث مؤصلاً لقاعدة الصدق الفني الروائي، والذي لا يتفق بالضرورة وصدق الواقع المعيش.
تبدأ الرواية باكتشاف مرض الابن الأصغر للبطلة. وعلامات التعجب التي يثيرها فزع الأم منذ لحظة معاناة الابن التي تكتشفها الأم بالصدفة، وتعدد بعض مظاهرها بدءًا من عصبيته وإهماله للمذاكرة، وثقل حركة يده اليسرى، واحتكاك قدميه بالأرض عند المشي، وترصد مشهدًا يتكرر حين تفتح باب غرفته فتفاجأ برعشة تظنها حالة احتلام “كنتَ نائمًا على جانبك الأيسر وجانبك الأيمن يرتعش بطريقة لفتت انتباهي. تسمَّرتُ بجوار الباب وابتلعتُ العبارة. هل كنتَ غارقًا في الاحتلام؟ لم أر من قبل شابًّا يحتلم. مرت فترة بداية المراهقة مع أخيك عبد الرحمن دون أن أضبطه مرة يرتعش مثلك، كنتُ أرى آثار احتلامه صباحًا على الملاءة. أدَّعي الغفلة وأغيِّرها مبتسمة. تغمرني فرحة أمٍّ تُعايش وقت اكتمال ابنها واتجاهه إلى الرجولة”.
ولكن مع تكرار المشهد يتسرب إليها القلق الذي صار منذ تلك اللحظة أحد أبطال الرواية. زياد/ الابن/ المستقبل بما يحمله من أمل وألم “النار في طرف جلبابي، لن يشعر أحد مهما انزعج بالصورة كما أراها. هذا ما أحسستُ به في هذه اللحظة”، في مقابل ماضي الأم بوقائعه المرة وصراعاته غير المتكافئة بين أنثى مهما بلغت قوتها “أثق أن مرضك وليد كل ما مرَّ بي: طفولتي الحائرة، ومراهقتي المشوَّشة، سفر بكر إلى ألمانيا وتخليه عني، طريقة زواجي بأبيك وحالتي النفسية التي دفعتني لقبول الزواج به. الظلمة التي غشيت صالة البيت”.
فهي منفردة تخوض صراعها أمام أسرة صعيدية متسيدة بينها سبعة إخوة ذكور، وقبضة حديدية لأم صعبة لم تشعر أبدًا البطلة بأمومتها أو شيئًا من حنانها “وبعد أن تقرِّعني أمي كعادتها لأن البائع لم يعطني سوى أسوأ ما عنده، أسألها بصوت خفيـض: “هوا أنا بنت؟” تنظر إليَّ بدهشة ولا تجيب”.
وكأنها تصر على عدم منحها جواز مرور لممارسة أنوثتها منذ ذلك الوقت الباكر، وتواصل “عامان مَرَّا قبل أن أصِرَّ على سماع إجابتها، وقفتُ أمامها في حالة عصيان، رافضة التزحزح من مكاني ومهدِّدة بكسر زجاجات مياه الثلاجة على بلاط الصالة قبل أن أعرف:
“هوا أنا بنت؟”.
جاء جوابها مُريحًا هذه المرة:
“أيوة.. أنتِ بنت، لابسة حلق جميل في ودانك”.
صار الحلق/ المعادل الموضوعي لأنوثة البطلة على طول الرواية. حتى إذا أرادت الأم أن ترعبها دعت عليها “إلهي يضيع حلقك”، فتشعرها بالرعب، وتتحفز لتقديم فروض الطاعة والولاء فورًا. وتصر على تعقيد الدائرة تمامًا حول نفسها حين تورد مشهد ضياع حلقها “لقد قبل الله دعوة أمي لسبب في نفسه. على الرغم من ثقتي في عقابها كانت ملجئي الأخير الذي أعود إليه. أخبرتها بضياع الحلق، وفي فورة غضبها أنبأتني أني الآن ولد.”
وتنجح الراوية/ البطلة في اللعب على وتر برود العلاقة بين كثير من الأمهات وبناتهن بحكم هذا المجتمع شديد القسوة على المرأة “نعم يا زياد، هذه هي طبيعة علاقتي بأمي، حتمًا لاحظت هذا الفتور، على الرغم من تظاهري أمامكم بعكس الحقيقة. ثمة أحداث وقعت قبل مجيئك، لكني مصرَّة على أن ما يقع لنا في الماضي يؤثر على الحاضر والمستقبل”، أُمُّ البطلة بالفعل أسهمت في جزء كبير من تعاستها الأولى، وأكملت دورها في إتعاسها لفترة طويلة عقب زواجها واعترافها بأنها ليست سعيدة في هذا الزواج، لكن الأم كانت تتجاهل شكواها وأحيانًا توجِّه إليها نظرات لائمة رافضة مستنكرة حتى شكواها.
ذلك الصراع لأنثى من أعماق الصعيد مع واقع ذكوري ما زال، وربما سيظل إلى فترة ليست قريبة، رغم العولمة التي يتشدق بها ملايين البشر، وشبكة الإنترنت التي جعلت العالم كله مفتوحًا على نفس الأفكار والمبادئ والتوجهات، ولفتت الكاتبة نفسها الأنظار إلى هذا العالم، معترفة أن تغييرًا جوهريًّا قد طرأ على حياتها بعد دخول هذا الكائن العالمي إليها، وبشيء من التركيز مع هذا الخيط في الرواية – نراه متصلاً منذ الصفحات الأولى وحتى مشهد الختام في صالة السفر حيث تذهب الراوية/ البطلة إلى مؤتمر أدبي خارج البلاد بمفردها دون قبضة الزوج الحديدية، بل وربما بتشجيع من أحد إخوتها عالجته ممارساته الحياتية وخلصته من بعض شوائب ذكورية المجتمع، ومع كل هذا تتجلَّى أقوى صور الذكورية في إرغام البطلة على الزواج برجل يكبرها بنحو عقدين من الزمان وتحميلها لنفس هذا الأخ جزءًا من الذنب في زيجتها التعيسة، وكأنه في مساندته إياها لتسافر تكفيرًا عن بعض ما يحسه من الذنب.
لمست الرواية بعدًا ميتافيزيقيًّا هامًّا في روايتها حين جدلت رحلة حياة الابن منذ حملها به ورفضها لهذا الحمل ومحاولات تخلصها منه حين كان جنينًا ثم تحول هذا الإحساس بالرفض إلى إحساس بالتشبث والتغير من النقيض إلى النقيض، صار هذا الابن هو مركز الكون بالنسبة إليها، ربما لأنه الأصغر، وربما لأنها قرأت فيه بعضًا من مستقبلها، فصارت تعده كرفيق لأيامها حين تهرم، وينشغل أخواه الكبيران بحياتيهما، وسقطت تمامًا من ذاكرتها فكرة تخلصها منه حين كان بعد جنينًا. فكأن الطبيعة أصرَّت أن تحرمها ذلك الطفل في الوقت الذي تبني فيه كل أحلامها عليه!
لعبة القدر في التعامل مع الموت ترفض الانسياق لأي منطق، قدرًا جئنا إلى الحياة، وقدرًا نخرج منها، لحظتا الميلاد والموت خارج أية حسابات منطقية، هكذا، ربما دون قصد، تؤكد الرواية. لكنها في الوقت ذاته تجعلنا نعيد النظر في الاستسلام لضغوط المجتمع الكبير ممثلاً في الاستسلام للوحدة الصغيرة (الأسرة) من ذلك المجتمع، فلأننا ندفع ثمنًا باهظًا في أحايين كثيرة لاستسلامنا لما يجبرنا عليه الواقع، وتنجح الكاتبة في استدعاء الموت أو الموتى في صور كثيرة منها مثلاً ذلك الهيكل العظمي الذي أحضره أخوها حسين طالب الطب معه ذات يوم، وتخيلها “أجد الهيكل يأتيني من ركن معتم. يتخبط ويحدث صوتًا يشبه نقرات الدجاج المتلاحقة في صحن الحبوب، يربت على كتفي ويقول بصوت الأموات: “فِزّي قومي اغسليني”. أخبرتُ أمي بما أراه في الظلام، وطالبتها بتركيب سهارة في الصالة، تظل مضاءة ليلاً، لكنها استهانت بما أرى كي لا ترتفع فاتورة الكهرباء، وقالت:
“هما الأموات ليهم صوت؟”.”
وكذلك موت الأب الذي أتى مبكرًا في عمر البطلة “أبي بدأ ينسحب من حياتنا ليتقوقع داخل آلامه، قبل أن تتشابك خيوط حياتي بخيوط حياته. لا أذكر أننا تحدثنا مرة كأب وابنته”.
صورة من صور الموت في الرواية تم توظيفها بحرفية “ثمة أشخاص يجب أن يموتوا كي نخلق لهم أسطورة تعيش بداخلنا، لنعتقد دومًا أن مستقبلنا الأفضل أخفقنا في تحقيقه بسبب موتهم، ونجد المبرر لتعاستنا في غيابهم. كان أبي أسطورتي. حولته إلى طيف يصاحبني ويحميني من كائنات غامضة قد تتربَّص بي في منعطفات الحياة، بل ويُزيل العراقيل أحيانًا. أستشير صورته المعلقة في غرفة الجلوس فيترك لي الرد في فكرة تطرأ عليَّ وقت تأملي، أو في زيارة عابرة قبل غفوة. عزَوْت تعاستي المزمنة إلى موته. في مرحلة تالية فسرت حبي الشديد له بأني أكفَّر عن موقف قديم كان يجب أن أعترف فيه بأنه أبي، يوم أن سقط وسألني الرجل إن كان جدي فأكدت كلامه”.
“الموت/ الأسطورة”.. من يموت نخلِّده في أساطيرنا عنه، لأننا ببساطة نُحرَم منه، فيصوره حنيننا نحوه ربما كطيف إله، هذا رغم أنها تعتبره غائبًا قبل موته بفترة، ربما منذ تلك اللحظة التي وقع فيها على الأرض وهي تسير إلى جانبه وتتمنى لو أنه لم يكن أبوها.
تفسح الراوية المجال لتناقض رؤيتها لشخصية أبيها قبل وبعد رحيله، ربما حضور الأب حتى لو شاب وجوده بعض الفتور كان معينًا نفسيًّا للبطلة شعرت بفقدانه بفقد الأمان، ومن هنا صارت تنسج صورته الأسطورية التي راحت تربطها بتلك الصور التي تزامنت مع موته لأحداث صبرا وشاتيلا التي كانت مهيمنة على نشرات الأخبار في هذا التوقيت.
قصة الحب الوحيدة التي عاشتها البطلة كانت قصة عرجاء، ومع هذا لم تتخلص من آلامها ربما حتى النهاية. رغم أن هذا الحبيب لم يبذل جهدًا للارتباط بها فقد ظلت هي على شيء من الولاء لقدسية العلاقة، حتى وإن سقط البطل من ذاكرة تاريخها الذي ازدحم بتفاصيل كثيرة أكثرها يخص أبناءها؛ المرأة حين تتحول إلى أم تتغلب مشاعر أمومتها على كل ما عداه، كما أن زوجها لم يحتل أبدًا في قلبها أية مساحة مشابهة لهذا الحبيب الذي لم يظهر حتى بعده من يمثل للبطلة نفس الدور، وندرة تجارب الحب بهذا الشكل في حياتها يؤكد ذلك القمع الذي تربَّت عليه حتى صارت هي أيضًا تمارسه على ذاتها ربما دون وعي.
النهاية نصف المفتوحة للرواية تفتح المجال لبعض التأويلات، لكنها توحي لنا في شبه يقين أن الابن/ المستقبل يقرر أن يتحول إلى ماضٍ وذكرى أليمة ربما تعيشها البطلة في رواية قادمة.