*د. عبدالمعطي سويد
ترجع الجذور التاريخية للفكر التقليدي إلى ظهور الكتب المقدسة التي اعتبرت المرجعية الأولى والأخيرة للفكر الديني، وفي مجالنا هنا: الفكر الإسلامي التقليدي خاصة، حيث تم تأصيل هذا الفكر بالنص، وكل ما كتب على هامشه من تفسيرات وتأويلات تخرج حيناً ولا تخرج أحياناً عن كلماته وحروفه قيد أنملة،.
منذ أن أذيعت المقولة المشهورة أن النص (حمّال أوجه) فقد انبرى رجال الفقه والحديث، والمفكرون الإسلاميون واللاهوتيون، والفلاسفة، كل تيار يأخذ من النص بطرف، ويقف عنده، إما وقفة جامدة، وهذه حال فكرنا التقليدي، منذ البداية التاريخية لظهور النص وحتى يومنا هذا، مع بعض التلوينات الهامشية المتوجب ألا تخرج عن النص، أو وقفة تأويلية، عقلية، أو يجب أن تتوافق مع مسلمات العقل وبداهاته، أو بعبارة (ابن تيمية) أن يوافق صحيح المنقول لصريح المعقول، أو أخيراً الوقفة الروحية المحضة، كحال رجال التصوف العقلي، أو الروحي، أو أصحاب الأحوال والمقامات.
إننا نقف اليوم على المشكلة الكبرى لتيارات الفكر التقليدي وهذه المشكلة تتجلى: في الغياب الكامل للمناظرات الفكرية المعمقة مع أصحاب هذه التيارات على طريقة الحوارات بين اللاهوتيين والفلاسفة مثلًا، التي تجلت فى بعض وقائع العصور الماضية لتاريخنا الفكري والتي تجلت مثلاً في حوارات (المعتزلة والأشاعرة)، أو حورات الإمام الغزالي، وفيلسوف قرطبة (ابن رشد)، وغيرها مما تذكره كتب أبي حيان التوحيدي، بين أصحاب المنطق والبرهان وأصحاب القرآن، بل إننا فى هذا الزمن الرديء نعيش الفكر التقليدي الممسوخ والسالب لكل وجهة فكرية ناضجة، يستفيد منها الذكي، والبليد، ولكن ما نشهده، إذاً، هو الأشكال السالبة من قبيل: التطرف في المواقف، والتعصب، والمذهبية والطائفية في الرأي، والتشجنج، عند فقدان الأدلة والبراهين المقنعة، والإفلاس الثقافي نتيجة الفقر المعرفي، والروح المنهجية، حيث يتم اللجوء إلى الاحتماء بالمنطق الضعيف المستند إلى: المذهب والطائفة، مع ضياع أو فقدان شبه كامل لمهارات الفكر النقدي.
لقد صدر عن تجليات المشكلة المذكورة القراءة المشوهة للحاضر، والعصر معاً، وبعبارة ثانية، إنه فضلًا عما ذكرنا من تجليات مشكلة الفكر التقليدي نجد هذا الفكر يحيط بنفسه بسياج (دوغمائي) مطلق ومغلق، على حد تعبير الراحل محمد اركون، وقد ارتضى الفكر التقليدي أن يحصر ذاته ضمن قوقعة أو دائرة من المستحيل الخروج منها أعني: مطالبة أصحاب الفكر التقليدي باستعادة الزمن الجميل، فيه عاش المؤمنون في وئام وانسجام مع شرع الله في الفكر والقلب وأسلوب الحياة.
الزمن بالنسبة إلى الفكر التقليدي هذا ليس له لحظات ثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل، بل إن هذا الزمن كله يتكثف فى لحظته الأولى أي: الماضي وهو الزمن الحقيقي النابض بالحركة والحياة، إنه تصور غريب وقراءة شبه عدمية للزمن، خاصة في لحظاته: الماضي والحاضر والمستقبل، ذلك أن اللحظتين الأخيرتين يجب أن تعيشا في الماضي، فيه عاش رجال السلف حياة التقى والورع الصافي والنقي من أدران الفساد، قد أودعوا لنا في أقوالهم وأعمالهم الصالحة كل ما ينير لنا سبل العيش، في حاضرنا ومستقبلنا، إذاً، فالحاضر والمستقبل لا يوجدان إلا بالقياس إلى الماضي، وهذه من مفارقات وربما أوهام الفكر التقليدي التي قادته إلى السقوط. في عين الحاضر والمستقبل.
لقد ألمح المفكر السيد يسين إلى نقطة سقوط الفكر التقليدي، ولكنه عبر في مقال حديث له بعنوان (أزمة العقل التقليدي جريدة الحياة 5-10-2014)، حيث نعت الفكر التقليدي متلطفاً بالقول: العقل التقليدي ولو أننا نتحفظ إزاء استخدام كلمة العقل ونستعيض عنها بما يعبر عنه الأنجلو-ساكسونيون ب (مايند Mind) وندع مصطلح العقل لمقابلته، حسب الثقافة الدينية بالنقل ونحيد مصطلح العقل والمجهز بثقافة خاصة في التراث العقلي الإنساني الفلسفي.
الأخطاء العشرة
إذاً، هذه أولى الأخطاء التى يعيشها المفكر التقليدي أي: قراءة الزمن الحاضر بعين الماضي والقراءة الخاطئة تؤدي بالضرورة إلى الفهم الخاطئ، وبعجالة سنذكر بقية الأخطاء التى يرتكبها الفكر التقليدي:
الخطأ الثاني: الذى يعيشه فكرنا القديم وهنا ثمة نزوع (صبياني) يتجلى فى عدم إدراك أو الاعتراف بأننا لم نعد فى القرن السابع الميلادي، وأن العوالم تغيرت منذ ذلك العصر، بسياقاتها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية.
الثالث: لا يدرك أصحابنا أن الذين صنعوا ذلك الماضي (والزمن الجميل) هم رجال ونحن رجال، أي أننا نستطيع إبداع ما أبدعوا على افتراض أنهم كانوا مبدعين.
الرابع: لا يختلف أصحاب الفكر التقليدي بدءاً من الفكر السلفي، ومروراً بالأصولي، والمعتدل، والراديكالي، والجهادي.. لا يختلف هؤلاء قدر اختلافهم في فهم (النص) وثقافته، وطبيعة ذلك الزمن الزاهر، الذي صنعه أولئك الرجال الذين لم تخل أعمالهم من الشوائب، والدوافع الغريزية والمصالح الدنيا المباشرة، التي تحرك البشر في كل زمان ومكان.
الخامس: يفتقر أصحاب الفكر التقليدي إلى ثقافة العصر، ومنهم من أخذ بطرف منها ولكنه يفهمه بطريق تقليدية، أو يفهمه على طريقته الخاصة عبر مرور هذه المعارف بدماغ، بُني على نمط من التفكير (الدوغمائي) غير المعني بالشك، أو نسبية القيم والمعايير، والحقائق، وتغيراتها، حسب الأمكنة والأزمنة.
السادس: التميز الغريب لدى أصحاب الفكر القديم بالأسلوب الخطابي والإنشائي، والمنطقي والعلمي: وفي هذه النقطة الأخيرة أي العلم: فإن الفكر التقليدي يقع أصحابه في الأحاديث المملة والمكررة حول الإعجاز العلمي في النص، من دون إدراك أن النظريات العلمية تتغير وكل واحدة منها تنقض أختها، وأن التجربة العلمية المتعددة تختلف في المقدمات والنتائج بين آونة وأخرى. فكيف يتفق ذلك مع النص الثابت؟
السابع: إن الخطاب التقليدي اختزالي، مجتزأ وتبسيطي، لا يطرح الأسئلة الجوهرية بل هو مستغرق في المسائل الهامشية ولديه مشكلات في مسألة المرأة. والحياة الجنسية.
الثامن: لدى هذه التيارات مشكلة سوء فهم عجيب لحضارة الغرب، وهو ينعتها بالحضارة المادية، علماً بأنه لا وجود لشيء اسمه حضارة مادية، وأخرى روحية وهذا التمييز يثير تندر المؤرخين وفلاسفة الحضارة.
ويتوهم أصحابنا أنهم يعملون على تقويض الحداثة، ويرفضون رفضاً قاطعاً فكرة التقدم، خاصة أهل الفكر التقليدي المعاصر، الذين يرون أن ما يمكن اصطلاحه بالتقدم هو التقدم الماورائي، أي أن فكرة التقدم اعتبرت من أخطر القضايا التى عالجها المفكرون الإسلاميون، خاصة في عصر ما سمي بالنهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
التاسع: من الأخطاء، تورط التيارات التقليدية في: عنف الخطاب الذي أدى في نهاية المطاف إلى عنف الفعل، وهذه هي كارثة أصابت المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة وواقعنا الراهن لا تنقصه الأدلة.
العاشر: من أخطاء القوم، وهو استبطانهم فكرة الكمال الصادرة بدورها من النص، أعني: إن الفكر التقليدي لديه الأجوبة عن كل الأسئلة التي يطرحها الفكر الإنساني وتطرحها الحياة، ويمكن القول إن الفكر التقليدي هذا بالتعريف: فكر الأجوبة الجاهزة لكل الأسئلة المطروحة، أو التي تطرح الآن وغداً، (الصالحة لكل مكان وزمان).
_____
*الخليج الثقافي