*خيري منصور
أثار الناقد الراحل محيي الدين صبحي ذات سجال حول مصطلح المقاومة في الشعر، مسألة لم تأخد حقها من الاهتمام، ورأى أن الخشونة في المعجم الشعري لدى معين بسيسو، على سبيل المثال، هي التجسيد الأدق لجدلية الشكل والمضمون، فتصور البعض على الفور أن الوجه الآخر لهذه الأطروحة هو محمود درويش، رغم أن معجمه لم يكن حريريا أو قابلا لأي توصيف اختزالي كهذا، والحقيقة أن الشاعر معين بسيسو الذي رحل بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، إثر اجتياحها، وكانت ميتته مشحونة بما يقبل التأويلات، لم يعامل نقديا بما يستحق، وذلك أيضا لسبب اختزالي وهو سمة للذات المقهورة والمهدورة معا، وفقا لمصطلحات مصطفى حجازي، فالشاعر بسيسو اصطبغ بلون ايديولوجي منذ صباه، وكان ماركسيا سُجن عدة مرات، ثم نشأت بينه وبين موسكو خلال الحرب الباردة علاقات حفّزته مرارا للدفاع عن التجربة الماركسية، وهذا بحد ذاته كان سببا كافيا لتصنيفه في خانة سياسية وشعرية، كما أن معين بسيسو الذي ولد عام 1926وهو العام الذي ولد فيه عدد من الشعراء العرب الرواد كالبياتي ونازك والسياب، شهد محطات القضية الفلسطينية منذ البواكير، ففي عام 1948 كان شاهدا وواصل الشهادة حتى رحيله.
كان معين متعدد الأنشطة، إضافة إلى كونه شاعرا، فقد كتب عددا من المسرحيات، إضافة إلى مئات المقالات التي نشرت في عدد من الكتب ولعلّ أبرزها أدب القفز بالمظلات الذي أعيدت طباعته قبل عامين وكتب مقدمته الشاعر الراحل سميح القاسم، كما أنه رصد نصوصا من أدب الأطفال بالعبرية، ورأى أن هذا الأدب هو حلوى ملغومة بالسم، لأنه يتأسس في رؤاه على الكراهية والتحريض على الانتقام، ومن الشائع نقديا عن شعر معين أنه مباشر، وسياسي بامتياز، كما أنه مؤدلج وهذا أيضا سبب لعزوف النقد عن نصوصه في ثقافة ساد فيها كسل ذهني وحلت فيها النميمة مكان النقد، إذ لا يمكن اختصار ما كتبه معين شاهدا وشاعرا خلال أكثر من اربعة عقود في عنوان واحد.
تزامن رحيل معين دراماتيكيا مع خروج المقاومة من بيروت وفي فندق في لندن، لم تكتشف إدارته أن ضيفها الفلسطيني قد توفي إلا بعد يومين، وتحولت تلك الحادثة إلى فوبيا عند محمود درويش، الذي كان يخشى من ميتة مماثلة في منزله، الذي يعيش فيه وحيدا، وأذكر أنه قال لي ذات مساء بأنه يعاني من مشكلة قد تبدو مثيرة للسخرية لدى الآخرين وهي هل يُبْقي المفتاح في الباب أثناء النوم أم يضعه جانبا؟
وثمة أكثر من مشترك بين معين ومحمود، رغم كل ما يشاع من كونهما توأمين لدودين، وما كان يُشاع عن محمود من حكايات يتولاها خيال مريض لحاسديه أشيع أيضا عن معين، بدءا من العلاقات المتعددة مع نساء وليس الانتهاء بالإفراط في التأنق، خصوصا أن للاثنين حظا من الوسامة.
في كتابه «أدب القفز من المظلات» تجوال غير سياحي في عدة عواصم شرقا وغربا، لهذا لم تكن مقالاته في هذا الكتاب وصفا لمشاهد عمرانية أو طبائع شعوب وطقوسها، بقدر ما هي تعليقات أدبية على شعراء وروائيين ومثقفين من تلك البلدان، وكان معين يستشعر عن بُعد ذلك الكسل النقدي والاختزال الذي تحوّل إلى آفة في ثقافتنا، لهذا كتب في مقالة حمل الكتاب عنوانها وهي «ادب القفز بالمظلات» أن العمل الأدبي ليس راكب طائرة تهبط من فوق الممر المخصص لها في أرض المطار، لهذا فإن ملف الأعمال الأدبية التي صمدت في وجه عمليات التصفية الفنية والعضوية تؤكذ بوضوح أن الاعمال التي بقيت كصخور الجرانيت وعروق الذهب رغم كل عوامل التعرية النقدية لم تأخذ مكانها في طائرة ركاب.
فهل بقيت بالفعل نصوص معين كصخور الجرانيت وقاومت عوامل التعرية النقدية، أم أن الإجابة على سؤال كهذا مُستحيلة في ثقافة تودّع مبدعيها وتدفن معهم كل ما أنجزوه، لأن الاحتفاء لدينا بالشاعر وليس بالشعر وبالطائر وليس بعشّه! وهذه مناسبة لطرح سؤال مؤجّل هو: ما الذي كُتب حتى الان عن البياتي منذ رحيله وعن نزار قباني وحتى محمود درويش باستثناء أطروحة أكاديمية هنا أو هناك!
إن التناسي يجرّ حتما إلى النسيان، في زمن لا يذكر الناس فيه موتاهم أكثر من عام، كما قال ناظم حكمت في رسالة من السجن إلى زوجته نوار. كان معين مُقاوما بامتياز ليس بالشعر وحده، بل بالكلمة عبر كل تجلياتها وحين اختبر في بيروت عام الاجتياح صاح بصوته الجهوري:
قد اقبلوا فلا مساومة
المجد للمقاومة
وكانت تلك العبارة أيقونة وداعه في تونس عندما أعدت له منظمة التحرير الفلسطينية حفل وداع يليق به.. ثم أُسدل الستار !
اشترك معين ومحمود في قصيدة واحدة في بيروت كانت بمثابة تكذيب لكل ما أشيع حول الخصومة بينهما، فالاجتياح حذف كل الخطوط المرسومة بالطباشير لأن الخطوط التي رسمها هي تضاريس ذاكرة استدعت كل ما يهجع فيها من احتياطي الوعي والمقاومة ورهان المناعة.
كان معين قد رحل عندما أزفت مناسبة أقول له فيها إن ما توقعه من الشاعر الروسي يفتشينكو قد تحقق، ففي عام 1989 حاولت الاتصال مرار بالشاعر ذي القامة المسرحية الذي كتب قصيدة «بابي يار» تملقا لإسرائيل لهذا أصرّ على عدم الرد، وحين التقيت الشاعرة ريما كازاكوفا والشاعر رسول حمزاتوف الذي قرأ قصيدة عن فلسطين، رغم مرضه ومنع الأطباء له من مغادرة المستشفى قال لي الاثنان: أين هو معين كي نخبره بصدق نبوءته وحدسه ؟
رحل معين في لندن وهو يرقص التانغو بمفرده في حلم شاء له القدر أن لا يصحو منه، وحرم من الدفن في مسقط رأسه، لأن الاحتلال يشمل المقابر أيضا ولا ينجو منه حتى الموتى من الشهداء والشعراء!
_______
*القدس العربي