محمد العامري*
خاص- ( ثقافات ) بالاتفاق مع مجلة “الفجيرة الثقافية”
لم تكن الفنون التشكيلية في الإمارات العربية المتحدة بمنأى عن ما يحدث في عالمنا العربي والعالم أجمع، بل كانت وما تزل مواكبةً لكل مظاهر تطور التشكيل في العالم عبر رعاية مؤسسات رسمية وغير رسمية لفعل الفن التشكيلي، ويمكن الإشارة على سبيل المثال لمتحف الشارقة والبينالي الذين لهما بالغ الأثر في إتاحة الفرصة أمام الفنان الإماراتي والفنان المقيم على أرض الإمارات في الاشتباك مع أكثر الفنون حداثوية.
هذا الأمر جعل من الفنان الإماراتي أمام مغامرة حقيقية في السؤال الفني الجديد… السؤال الذي يطرحه العالم الآن والمتمثل بالمغامرة القصوى في الوسيط الفني ومادته، وصولاً إلى الخطابات المتنوعة والمتعددة المرفوعة عبر العمل الفني، حيث ساهمت التكنولوجيا بشكل أساسي في تنوع الوسيط التعبيري في الفنون التشكيلية في الإمارات بشكل مبكر.
هذا التطور السريع في الوسط الفني لم يمنع الفنان الإماراتي من الارتباط الوثيق بموروثه الشعبي والتاريخي، بل ارتكز عليه ليشّكل مؤونته الفاتنة لإنتاج عمل فني خاص به، دون إغفال الدور الرسمي في رعاية الفنون، والتي شكّلت مساحة مهمة من الانفتاح والتنوع الفني في الأدوات والتعبير.
بدأ الفن التشكيلي الإماراتي كغيره من الفنون في العالم العربي عبر المدارس الكلاسيكية التسجيلية التي ترصد جماليات الطبيعة وملامحها، ومع مرور الوقت أخذ يتطور شيئاً فشيئاً، حتى بات أكثر فهماً وتشريحاً للواقع، بالترافق مع دراسة الفنون التشكيلية كعلم أكاديمي والتوسع في مجالاته، في الفترة التي تبعت قيام الإتحاد بين الإمارات السبع. وفي إطار إيجاد جسد ثقافي يضم الفنانين أنشأت الإمارات في إمارة الشارقة عام 1980، جمعية التشكيليين لتضم المشتغلين بالفن من الإماراتيين والعرب المقيمين.
في السياق، شكلت العروض العالمية التي استضافتها الإمارات مخزوناً معرفياً وتثقيفياً مهماً بين ما يحدث في العالم وما يحلم به الفنان الإماراتي، كما أسست لحوار معرفي وتقني بين العمل الفني الإماراتي والعمل العالمي، وهذا الإسهام قامت به بالدرجة الأولى صالات العرض الخاصة التي قدمت أبرز روّاد الفن المعاصر .
رغم ذلك انحاز الفنان الإماراتي لجغرافيا وتاريخ بلاده، حيث سجل في رسوماته، الصحراء والهجن والحياة البدوية وطبيعة العمائر التراثية وطقوس الصيد في البحر والصحراء والنخيل وأشجار الغاف باعتبارها الشجرة الأشهر في الإمارات.
عبد القادر الريس ..الفنان العاشق لطبيعة الإمارات:
الفنان عبد القادر الريس، المولود في العام 1951 ، ويعتبر من أشهر الفنانين العرب، و استطاع أن يقدم درساً مهماً في الرسم والتلوين على المستوى العربي، كما قدّم صورة مشرقة عن الفن العربي في الغرب.
تركز أعمال الريس على الانغماس في تفاصيل الجمال في الإمارات، حيث رصد الطبيعة الإماراتية بأشجارها وصحرائها وبيوتها التراثية وصولاً إلى الطقوس الشعبية حيث أصبحت أعماله كما لو انها دفتراً من التاريخ، نسجه من ذاكرة الفنان العاشق لوطنه بكل تفاصيله. فقدم مجموعة من الموضوعات من خلال عمله الفني، أهمها موضوعة الطبيعة، والطبيعة الصامتة، والموضوعة الثورية وصولاً الى توظيفاته المتقدة للحرف العربي.
تعتبر أعمال الريس في موضوعة الطبيعة الإماراتية بمثابة تسجيل دقيق لجماليات الصحراء الإماراتية بأشجارها وحيواناتها وطيورها، واستطاع أن يقدم عملاً فنياً مثيراً في التقنية المائية والتي تعكس قدرته الهائلة على الإلمام بأسرار اللون، إضافة الى قدرته الكبيرة في التخطيط والرسم، حيث يظهر المنظر بسحرية عالية من حيث اللون وضبطه في أكثر من زمن من الشروق الى الغروب، عاكساً تلك التحولات في انعكاس الألوان على جسد الطبيعة حسب زاوية إضاعة الشمس.
واستثمر الريس على سبيل المثال جماليات شجرة الغاف في صحراء الإمارات، حيث تعتبر الشجرة الوطنية، كاشفاً عن جمالياتها عبر مفهوم الرسم الواقعي، بل حوّلها الى وثيقة جمالية تسهم في تعريف الأجيال بهذه الشجرة التي تعبّر عن الصمود لعنادها في مقاومة العطش، بل أسموها شجرة الديمقراطية، كون القبائل كانت تستظل بها للتشاور .وتناول عبد القادر الريس في أعماله أيضاً غيرها من النباتات مثل الرقروق والنفل والنخل.
وفي مكان آخر نجده قد ذهب لرصد العمائر التراثية بتفاصيلها وطرائق تصاميمها القديمة مظهراً طبيعة المواد التي شيدت بها حيث شكلت تلك البيوتات طبيعة العلاقات الاجتماعية للمجتمع الإماراتي. الى جانب طبيعة الزينة التي تحتفي بها البيوتات الإماراتية حيث توجد فتحات للفوانيس وأمكنة لتعليق السجاد وصولاً الى نظام التبريد الطبيعي والإضاءة .. كل تلك التفاصيل المثيرة أصبحت مؤونة لطبيعة موضوعات الريس، وقد بدأت تحولات تجربته عبر تلك العمائر حيث ظهرت بقع لونية ترقد على التكوين الواقعي كعناصر تعبيرية بشكل جلي في معالجاته لطبيعة الحروفيات التي أنجزها في العمل الفني. فبدت تلك البيوتات كما لو أنها منقطة بنقط تشي باستقدام الحروف الى جسد العمائر وأصبحت تلك الصفة واحدة من مميزات أعمال الريس التي عُرف بها في المحافل الخاصة بالفنون التشكيلة من مزادات ومتاحف وصالات عرض .
مناخات الحرف العربي في أعمال الريس:
اتجه عبد القادر الريس أيضاً الى مناخات الحرف العربي وتوظيفه في أعماله ليعطيها صيغاً جمالية تقوم على التحوير والتعامل مع الحرف بوصفه شكلاً فنياً ينسجم مع طبيعة ألوانه وخطوطه حيث أظهرت أيضاً قدرته على الاختزال والتجريد في مناخاته اللونية التي تخصه، ليصبح الحرف إشارة جمالية ليس لها اعتبار في المعنى بقدر ما هي منتصرة للجمال نفسه وهذا الأمر يدل على وعي الفنان لطبيعة الحرف وتحولاته في الفراغ اللوني المفتوح.
وتظهر لوحته الحروفية كمادة تحتفي بالهامش والمتن، مبدياً قدرة استثنائية في إيجاد حلول لتكويناته، إما عبر اللون وتفعيله كشكل، أو عبر طريقة تعبيرية في تراكم الحروف كمادة تكوينية تخدم طبيعة التكوين في العمل الفني ، فالحروف المستقرة كالهاء والجيم في أشكالها الجمالية تبدو كجسد نحتي رشيق يتعرك في تعبيرية لونية فاعلة.
نجاة مكي.. الإنصات لذات المرأة وتجلياتها في العمل الفني:
تخرجت الفنانة نجاة مكي من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة 1982 وحصلت على الدكتوراه في المسكوكات من القاهرة أيضاً في عام 2001 . إضافة الى عملها كمشرفة على الوسائل التقنية بوزارة التربية والتعليم، فهي عضو في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، وعضو بجمعية أصدقاء الفن بمجلس التعاون لدول الخليج العربي، وعضو بجمعية الجدار، وعضو بمجلس دبي الثقافي.
فازت مكي بعدد من الجوائز في بينالي الشارقة وبينالي مجلس التعاون وبينالي المحبة في سوريا، وتعتبر من العلامات النسوية البارزة المشتغلات في الفنون التشكيلية، وأكثر ما يميزها مغامرتها في المادة والموضوع فلم تقف حدود تجربتها عند الرسم بل ذهبت لتجد وسائط جديدة تعبر عن أحلامها في الفن عبر النحت والتركيب واستثمار الضوء في كثير من معروضاتها.
في بداياتِها، وظفتِ الفنانةُ نجاة مكي عناصرَ المِعمارِ الخليجي ونقوشَ الأقمشة في أعمالها، حتى إنها ذهبت الى ابعدَ من ذلك حين استثمرت الضوء المشع في أعمالها والغريب ان ألوانها غرائبية، فقد استطاعت أن تغامر باستخدام الألوان الفسفورية التي قلّ ما يستخدمها فنان ونجحت في ذلك .
ولعشقها البحث عن فضاءات جديدة في الشكل والمادة فقد استخدمت الزعفران والحناء، لكونها جزء من تراث البيئة الإماراتية، حيث انتقلت الحناء من مادة لتزيين الجسد الى مادة للرسم، والغريب أن الرسم لدى نجاة يحمل صفة الشكل النحتي حيث ترسم في الغالب النساء المتطاولات السامقات عبر خطوط نحتية تلونها من خلال إحساسها ومن خلال عاطفة صادقة. استطاعت نجاة مكي أن تجد أنماطاً خاصة بها في مجال الرسم والنحت من حيث الصيغ الشكلية والألوان وطرائق المعالجة لتحلّق في عالمها الخاص المحكوم بالصدقية العالية.
عبد الرحيم سالم..المرأة حين تصبح مادة لمحمولات الذات:
قدم الفنان عبدالرحيم سالم مساحته الخاصة في مجالي الرسم والنحت عبر موضوعة الجسد الأنثوي، الجسد الذي اصبح مداراً للسؤال في مجمل تجربته الفنية عبر تحويرات عالية ومحملة بالخطاب العاطفي والفلسفي .
يبرز سالم حياة المرأة في العربية من خلال قصة “مهيرة” التي جاورته في مجموعة من أعماله، والتي أصبحت الملهمة الأولى له للدفاع عن قضايا المرأة، فالدفاع عن وجود المرأة بمفاهيم الفن دفاع مسالم يطرح هواجسها عبر رؤية الفنان ليعيد سؤالها الوجودي من باب إثارة الحوار حول طبيعة وجودها في مجتمعات مرجعياتها الوأد منذ الجاهلية الأولى، ولم تزل تلك التراكمات تتبدل وتتحرك بشكل سري مع اختلاف أدوات الوأد.
ويذهب بحذر شديد إلى تقديم جسد المرأة عبر لغة تعبيرية محكومة بالمواربة وعدم الإفصاح عن المفاتن كباب للدخول إلى مجتمعات تعتبر الجسد مادة مقدسة وينبغي عدم الاحتكاك به لذلك أنتجت مجموعة من الحواجز والأغطية من باب إيجاد ستائر شكلية ومعرفية تجاه الجسد ذاته..
ويصور الأنثى في شتى حالاتها الإنسانية عبر بيت الجسد وعنفوانه وأحلامه فالجسد لديه هو الإناء الذي يفيض بالتمرد والاستكانة والدلال والعري الجميل .. إنها الحالات التي يتبناها سالم عبر خطابه الفني منذ بداياته لإيمانه الشديد بموضوعه الإنساني الذي يخص مجتمع برمته.
فالمرأة التي يجسدها عبد الرحيم سالم، هي دائماً امرأة متحركة، تحلم بعالم جديد ليس له حدود كونها تتحرك ضمن جغرافيا الظلم. فقال في أحد حواراته: “إن الثيمة الأساسية في المعرض تأتي من قبيل تأكيد أهمية الدفاع عن قضايا المرأة، واستلهمت قصصي في اللوحات من حكاية (مهيرة) التي توفيت بشكل تراجيدي بعد أن حرقت في الخيمة، وذلك بعد أن دفعت ثمناً غالياً لكلمة لا قالتها لرجل”، مشيراً إلى أن قصة المرأة فتحت له الأفق في الفن بشكل مميز.
ويرى أن الجرأة في العمل الفني مطروحة، مشيراً إلى أن الرسم، خصوصاً التجريدي، لا يطرح المرأة بشكل مبتذل، في حين أن صور المرأة منتشرة في المجلات ومعروضة في كل مكان بشكل مبتذل حيث العري غير المبرر، معتبراً أن قضية المرأة وحصولها على حقوقها ليست قضية محصورة في العالم العربي فحسب.
عبدالرحيم سالم، ولد في دبي عام 1955، ودرس الفنون الجميلة في القاهرة، ليتخصص في النحت. حصل سالم على مجموعة من الجوائز، منها الجائزة الأولى في بينالي القاهرة عام1992، والجائزة الأولى في بينالي الشارقة عام 1993، والجائزة الأولى في المعرض الدولي في دبي عام 1994، كما حصل على الدانة الذهبية في الكويت عام 1999.
الفنان حسن شريف.. الذهاب إلى (الانستليشن) كوسيط يحمل فلسفته في الحياة :
تشكل تجربة الفنان الإماراتي حسن شريف مادة إشكالية في الفن الإمارات، فقد أصر على منظومة من الوسائط غير التقليدية لتقديم مجموعة من الأفكار الجمالية والسياسية في أعماله التركيبية التي تقوم على تكرار المفردة المستخدمة في العمل التركي.
ولد حسن شريف عام 1951 ، وتخرج من معهد “بيام شو” للفنون في لندن، ونشر رسومات كاريكاتير في عدد من الصحف والمجلات خلال سبعينيات القرن الماضي.
أسهم حسن شريف بدور مهم في المشهد الفني الإماراتي؛ حيث يعد معلمًا لأجيال من الفنانين؛ نتيجة لإبداعه المغاير للسائد، ورؤيته المختلفة للفن وفلسفته الحداثية، وكان من المساهمين في تأسيس عدة مؤسسات فنية؛ منها مرسم الفن في مسرح الشباب في دبي، وجمعية الإمارات للفنون الجميلة، ومجموعة “الخمسة”، كما يعدّ المنظّر الأول في مجال الفنون البصرية، ولديه كتب في الفن الجديد ومفهوم الفن وإنتاجه.
قدم الفنان حسن شريف أعماله في معارض في أنحاء مختلفة من العالم، منها : كوبا وهولندا ومصر وألمانيا. حسن شريف منتج أفكار، يستخدم القماش للرسم، كما يستخدم الورق والمعدن وأي مادة أخرى ، ويؤكد أن الفنان نفسه يمكنه أن يبدع وبأي مادة تتوافر لديه، أو يلتقطها من الشارع. وتعد أعماله من الأعمال التي تثير جدلاً حول مفاهيم الفن الجديد أو فنون ما بعد الحداثة؛ ذلك الجدل الذي تحول مع الوقت إلى سياقات طبيعية في الفن الإماراتي والسبب الأساسي يعود لصدق الشريف في الدفاع عن أفكاره المغايرة، واستطاع عبر إيمانه بذلك أن يشق طريقاً صعباً لنشر مثل هذا الفن (التركيب) في وسط المشهد التشكيلي الإماراتي، وبات للرجل قاعدة واسعة ممن اتخذوا فكره منهجاً فنياً. ويعتبر من أوائل الفنانين الإماراتيين والعرب، الذين أسسوا للفن المفاهيمي.
وتتخذ أعمال شريف من مفهوم الواقعية إطاراً يبرز في اشتباكه مع البيئة، وفي قول له حول ريادته لهذا الفن يقول: “لا أحب أن أوصف بأنني الأول، أنا فنان وأعمالي تُعبِّر عن تفاعلي مع المجتمع ومع الحياة اليومية، فتعكس طريقة سير الناس ورؤيتهم للأشياء وشغفهم بالحياة ورُدود أفعالهم، أنا مُشاهد، أعمالي آنية وتُعنى بالحاضر. أُصنِّف نفسي فناناً “واقعياً”، ولهذا السبب أُعجب وأستمتع بأعمال فنانين أمثال جوستاف كوربي.. وأحتفي بجميع أشكال الفنون، فهي كلها مهمة وذات صلة بالواقع، وما يهمُّني وأحرص بشكل خاص عليه هو توضيح السياق التاريخي للفن المعاصر، فهو فنِّي الذاتي وتعبير عن رؤيتي وفهمي الشخصي للأمور. وبموازاة ذلك، هناك السياق التاريخي للقرن العشرين، فأنا أرى أنني أنتمي إلى القرنين العشرين والحادي والعشرين معا”.
في كثير من أعمال حسن شريف، نجده يذهب إلى اختيار مفردة أو آنية أو رزم من الأوراق ليكرر تلك المفردة عبر كومة تتفاعل مع هذا التكرار الذي يحمل في طياته أسئلة متنوعة ومتعددة .أو نجده يذهب إلى معلقات عنقودية تتحاور معها في أكثر من منظر عبر البصر والسؤال العاطفي وصولاً إلى اللمس.
إن السؤال الفني الذي يقدمه شريف سؤال ينضوي على أسئلة فنان صادق وظّف ما تعلّمه ليخدم قضايا بيئته ووطنه.
____________
*فنان تشكيلي وناقد من الأردن