مارس حين يبوح


*آمال الديب

خاص- ( ثقافات )

تراك منصرفًا عن قرارك؟ أم أنك الآن أكثر عزمًا وإصرارًا عليه؟ هل يراودك حنينك للذكرى التي دفنتها.. تحت وسادة القلب الممدد بانتظار طبيب..؟ 
أنت الخاسر في كل حال.. فاحتضن رغبة الرفض.. واحتمِ بالصمود.. انتصر على لذاتك وانتصف لذاتك.. روحك مثقلة بعبير الرحلة.. هل يسمحون؟ هل يردون أباك؟ أم يتركونك.. لتفتش عنه بين أقدام المسافرين.. دونك..
هل يحتمل الرحلة، رفقته فيها طيفك.. أو صورتك.. دون الهاتف.. ومسجل الصوت الذي في حجم أصابع الكف.. دون الأوراق البيضاء.. دون أنبوب رفيعة لا تستخدم إلاها بين أظافر السطور.. 
هل تحتمل الرحلة التي أنت عنها لغائب الجسم.. ربما والروح والـ.. رفيق..؟!
الرحلة ثكلتك.. فأبوك الذي تمناك في يده على مقعده بالأتوبيس يرافق بدلاً منك حقيبته الصغيرة.. 
خمس علب من السجائر.. هي كل ما تبقى..
إنك يتيم..
أمك التي تفضل أن تصاحب جدران البيت على رفقة أبيك المجنون.. في رأيها.. أعدت لك طبقًا من أجنحة النمل الأسود.. وآخر من حساء الأسمنت.. أيهما تفضل؟ هي تعلم أنك مغرم بكليهما.. ولن تدع لها شيئًا بالأطباق لتجرب صنعة يدها.. 
بنت العشرين.. أعلنت رغبتها في استضافتك لبضع ساعات أخبرتك أنها تريدك أنت.. تتردد في صحبتها.. أليست أفضل من ذلك الذي لا يكف عن احتضان السيجارة ولثمها كل ثوان ثلاث..؟ أو ليست أفضل من تلك التي جعلت من معدتك حقلا لتجاربها في ابتكار أسماء وألوان الأطعمة…
فض عينيك.. إنك يتيم..!
هل تقبل أن تصبح لها ضيفا لهذه الساعات التي تمتد أو تطول، أم تحتمي بالبرد والعراء.. على الرصيف أمام محطة الترام.. وصوت الرمال يذكرك بالصحراء التي رفَضْتَ أن ترافق فيها أباك تلك المرة.. رغم الربيع الذي يدق أبواب الأفق خلال أيام.. صوت العاصفة.. تذكره جيدًا.. لكن الصحراء التي حولك رغم رمالها الصفراء والصفير.. امتلأت بأشجار ذات طوابق هناك.. وأنت جالس.. تتوقف سيارة أجرة..
يلقي عليك التحية فتردها في فتور:.. لم أنت جالس..؟
: في انتظار جودو.. أقصد.. في انتظار الترام..! 
يستقل السائل السيارة.. وتغيب على نفس الطريق..
إنك يتيم..
أليست رفقة تلك التي عرضت استضافتها لك أكثر أمانًا؟ أليست الفيلا التي أغرتك بامتلاكها أدفأ من الرصيف الذي التصق بلحمك..؟ أيهما تختار: الأنثى.. الفيلا.. السيارة الفارهة..؟ أم الرصيف.. وتطفل رجل الشرطة.. وعورة الشارع المكشوفة للسائرين.. والسكارى.. والباحثين عن الظباء في أوائل الربيع..؟
إنك يتيم..!
اعترفت لك.. حين سألت عن زوجها قالت: في العباسية.. في مستشفى الأمراض العقلية.. لم يحتمل جمالها فأصيب بحالة من الصرع نقل على أثرها إلى مصحة نفسية.. ومنها إلى هناك..
إنك يتيم.. 
وبعد استجداءاتها العديدة تنازَلْتَ.. قبِلتَ أن تحملك في سيارتها إلى محل عملك.. أعلنت أنها تريدك.. يمنعك توترك أن تحيا الحالة.. تصدِّق أم تكذِّب..؟ ولماذا أنت..؟ لماذا اختارتك من بين مئات بالتأكيد هي تحتك بهم.. وتقابلهم وتحدثهم! وتظل على ذات توترك.. وترفض أن تفهم.. ولماذا أنت..؟ 
إنك يتيم..
شريط الترام الممتد لم يطأه الترام منذ ساعات ثلاث.. وأنت لا تشعر بنصفك السفلي.. نملٌ دون أجنحة يتخبأ تحت جلدك، وأمك بالمطبخ مشغولة بطبق أجنحة النمل.. هل قصت أجنحته ثم سلطته عليك ليجعلك غذاءه قبلما تتناوله ساخنًا على مائدة العشاء..؟! 
الحقيبة التي أعددتها هذا الصباح عندما كنت تنوي السفر مع أبيك والتي تحوي ملابسك الداخلية.. وعباءة نوم تصلح للصيف.. تتذكر الآن أنك نسيتها في سيارتها عندما حملتك إلى عملك بعد أن عدلت عن مرافقة أبيك في رحلته. هل تختار أن تقضي معها تلك الليالي التي سيغيب فيها أبوك..؟! بين ذراعيها الدفيئتين..
في ذلك الجو الربيعي المائل إلى البرودة.. وأنت لا تحمل معك سوى العباءة الصيفية وملابسك الداخلية..! بالتأكيد.. هذه غرفتها.. وذاك فراشها.. وتلك أناملها الرقيقة! أتخشى أن تلمسها باعتقاد أنها قابلة للكسر..؟ 
أم أنها أنعم من أن تحتمل خشونة راحتيك، رغم أن راحتيك لم تكونا أبدًا خشنتين.. 
إنك يتيم..!
النور مطفأ.. وعقارب الساعة غير واضحة.. لكن خيطًا من نور يبزغ في الغرفة تشعر به مسلطًا على عينيك.. تنجذب نحوه بقوة.. 
إنك يتيم… 
هل تذكر أبوك الآن..؟ أو أجنحة النمل.. هل لك أن تتذكر شيئًا؟ 
مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية.. وأنت في عباءة تصلح للصيف أكثر منها للربيع.. تجلس على رصيف يطل على حديقة صغيرة.. وأشجار ذات طوابق امرأة شابة تفتح باب سيارة فارهة.. تتعرى ساقاها.. تذهل أمامها لحظات.. تمد يدَك.. تقتطع فرعًا من شجرة مجاورة.. تحشو به فمك.. يتدلَّى لسانك….
إنك…!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *