*بروين حبيب
الغربة هي حين لا تجد شخصا تعانقه حين تكون وحيدا… يبدو لي هذا التعريف كافيا لنعرف مدى اغترابنا ونحن بين أهلنا وأقاربنا ومعارفنا.
الغربة ليست أن تسافر من بلد إلى بلد، وتجد في هذا الأخير الحضن الدافئ الذي لم تجده في وطنك. فقد تكون سوداني الهوية ولكن بلدك الحقيقي كندا، قد تكون مغربيا وبلدك الحقيقي أمريكا، قد تكون عراقيا وبلدك الحقيقي السويد…لا خيانة حين نجد الوطن غير الذي لفظنا، مثلما تلفظ الأرحام أطفالا تحتويهم الشوارع والسجون.
مفهوم الغربة الحقيقي سيعيد بكل تأكيد ترتيب أمور كثيرة في أذهاننا، من بينها مفهوم الأمومة والأبوة، والانتماء والهوية والوطن وغيرها من مفاهيم أخرى، كنا نظن أنها من الثوابت سابقا.
الغربة التي تجلدك وأنت تقف أمام أمك التي لا تعرف أن تفتح أحضانها أمامك وتحتويك، هي الأقسى، تلك الغربة التي تجعلك تشعر بأنك خارج أسوار أمومتها، بعيدا تماما عن حدود عالمها، تتوسلها بصمت أن تكون أمك، أُمًّا حقيقية، لم يلفظك رحمها لتتحوّل إلى سبب من أسباب تعاستها، ولكنها تظل مثل قطعة حجر، تشتمك وهي تطعمك وتهتم بك كما لو كانت سيزيف وأنت الحجر.
الغربة التي تذبحك هي غربتك أمام والدك، وهو يذكّرك بين لحظة وأخرى أنه يصرف عليك، أن عمره ضاع بسببك، أنه أهدر أجمل سنوات حياته وهو يكد لأجل أن يطعمك ويصرف عليك، لا كلمة أخرى لدعمك، لا ضمة لصدره، لا حديث بينكما مثل أحاديث الأصدقاء.. لا حميمية بينك وبينه، وكأنّه موظف عُيِّن من جهة ما لتهتم بك.. تبكي في أعماقك ربما وأنت تبحث عن الأب فيه، فلا تجده.
فما أقسى غربتك وأنت ضائع بين شخصين أنجباك بدون حب. تشعر بالوحدة وكأنّك مُصَنّع، مثل قطعة سقطت من عربة توزيع البضائع بالغلط أمام أولئك الأشخاص…
تراهما وتتمنى أشياء مقيتة لهما، تنام وتحلم بحياة أفضل، مع أنّك تعرف جيدا ألا دفء خارج فراشك، فالمشهد الكامل حولك تسوده القسوة والاستخفاف بك ككائن بشري، فقد يرحمك البعض لكن الأغلبية في مجتمعاتنا المتعبة تأبه كثيرا للأشياء الفرعية وتنسى جوهر الأساسيات.
مفهوم الغربة يتّسع حين تمشي في الشارع وتشعر بالخوف من لص متربص بك، من رصاصة طائشة، من مجنون مفلوت في الشوارع بعصاه، من أي شخص قد يؤذيك هكذا من دون سبب… أنت في بلد لا تشعر فيه بالأمان؟ فلماذا يجب أن تسميه وطنك؟ وتتشبث به؟ هل لأن شاعرا من القرون الغابرة قال «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة…؟».
وما شأننا اليوم بحكاية الشريف قتادة أبوعزيز؟ التي جعلته يقول قصيدته الشهيرة بمطلعها الأشهر في القرن السادس بعد الهجرة؟ تراه سيقول القصيدة نفسها لو عاش في عصرنا، تنزل عليه الصواريخ من كل صوب ليل نهار، ثم يُهجّر، ثم تختطف زوجته وبناته ويباع بعضهن في سوق نخاسة جديد، وبعضهن يغتصب ويرمى أمام ناظريه؟ تراه سيقول «وأهلي وإن جاروا عليّ كرامُ؟».
في شعرنا العربي ستجد الكثير من فن الاستعراض، والرّشوة الكلامية، الأشياء التي لن تجدها أبدا في الحكمة التي يزخر بها الأدب في الغرب. إميل زولا يقول «المنفى لا شيء، فالمعاناة الحقيقية هي حين تعيش مضطهدا في بلادك، مكمم الفم أمام انتصار الاستبداد والظلم». تلك التضحيات التي نتباهى بها أحيانا لأننا ننتمي لوطن يتمادى في كسرنا، وأهل يتمادون في قهرنا، وسلبنا أحلامنا، هل هي السلوك الصح لجيل يحلم بالتغيير وبثورة كبرى تبلغ حد قلع رؤساء من عروشهم وحكومات من قممها العاجية؟
بالطبع لا، فلا تغيير قد يأتينا من هدم قمة الهرم، سوى في تشويه شكله…
تلك الغربة التي نشعر بها بين من نحبهم هي الحلقة المفقودة في هرم التغيير. تلك الغربة هي صمّام يجب فتحه، وإخراج التراكمات التي في قلوبنا للهواء والشمس…
إن لم نكسر تلك الغربة التي تدمرنا يوما من الدّاخل بين أحبتنا، فلا أمل في أي تغيير آخر مهما كان بسيطا، بالتالي لا داعي إن فشلنا في هذه المهمة أن نحلم بالتغييرات الكبرى.
الغربة هي حين تجرف الدموع كل جبروتك الوهمي وتنهار أمام ظلم موظف صغير لك في وطنك. فجأة تشعر بأنك بحاجة لأن تختفي، أو ترمي بنفسك في البحر، أو تنتحر وتنسف الموظف وزملاءه ومديره والمبنى بما حمل… حين يسكنك هذا الغضب، وتشعر بأنك في المكان الخطأ والزمان الخطأ فأنت حتما تطفح بالشعور بالغربة، وكل ما عليك فعله هو أولا أن تتنفّس بعمق حتى يهدأ غضبك، وتجلس مع نفسك لتفكر في حلول سلمية تجاه نفسك أولا… وإن كنت ترى أن الأمر قد فات لتتغير عائلتك وتغيير من حولك، فلا تأسف على شيء، إذ يمكنك تغيير نفسك، والتخطيط بهدوء لتخرج من دائرة الاغتراب التي تدمرك شيئا فشيئا. عليك أن تشطب من حياتك كل الأشخاص السلبيين الذين يتقمصون دور «الواعظ» الذي يعرف كل شيء ويمارسون هوايتهم عليك.
على مسؤوليتي، إن كانت العائلة ستقاطعك للأبد إن نجحتَ عكس ما يتوقعون، فأول نجاح ستحققه سيجعلهم يتحوّلون، ويرتدون أقنعة جديدة بألوان جميلة وأفواه تبتسم…
فقط على الشخص أن يغامر، ويصنع عالمه، من دون أن يرمي نفسه في البحر أو يصب الغاز السائل على جسده ويشعل فيه النار… من دون أن يثور ويكسر ويخبط نفسه في الأرض، من دون أن يتخبط في مكانه مثل شخص لدغته أفعى…
عليه فقط أن يجمع هدوءه ويفكر كيف يكسر قوقعة اغترابه بالطريقة الصّح ويخرج ويختار من سيؤثث حياته الجديدة بأشخاص إيجابيين، وأفكار إيجابية، وأحلام وردية أيضا…
كله قابل للبناء، بدءا باتخاذ القرار بالخروج من بيت الإسكيمو الذي حبسنا فيه أنفسنا إلى الامتلاء بعبق الحياة.
لماذا أقول كل هذا الكلام؟
لأن البعض يغالي في صنع سجون الآخرين، حتى أصبح بعضهم مجرما حقيقيا بمقالاته وفتاواه وبرامجه التلفزيونية. وأصبح المتلقي المحاط بكوارث من كل نوع يركض كالمجنون بحثا عن باب خلاص، لكن القضبان تلاحقه، والجلاّدون حوله يجلدونه من دون هوادة.
وليتني أجد بعد نشري المقال مشاركات إيجابية، لأشخاص كسروا بيت الجليد، وخرجوا من ذلك السجن الوهمي الذي جنّد الأشرار أنفسهم لجعله منفى حقيقيا لأبنائنا جيلا بعد جيلا، وهم في عقر أوطانهم وبين عائلاتهم وجيرانهم وأصدقائهم ومواطنيهم…
هناك حكمة لطالما أحببتها وأحب أن أتقاسمها معكم تقول «طالما أنك تشعر بالامتعاض من نفسك، ولست راضيا عليها، فهذا يعني أن الوقت لم يفت لتتغير».
______
*القدس العربي