نقّاد موموسيّون..



*حنا عبود

كتب إبراهيم عبد القادر المازني في «قبض الريح» عن مشروع نقد كتاب «حديث الأربعاء» لطه حسين كان يتردد في معالجته فوصف شيطانه النقدي: «والآن ما رأينا في أسلوب صديقنا الدكتور طه حسين؟! الحق أن هذا الموضوع يدق فيه الكلام! ولقد بدأت الكلام وفي عزمي أن أفيض في بيان رأيي في الأسلوب، ولكني لم أكد أسود بضعة سطور حتى ألفيت نفسي أوجز وأوجز وأوصد كل باب موارب في طريقي وأضيق دائرة البحث، ثم إذا بي أسأل نفسي: ما رأيي! في أسلوب الدكتور؟! ولقد تقمصني والله عفريت النقد! وإني لأحس أن عينيّ قد احمرتا، ويبلغ من إحساسي بذلك أو توهمي إياه أني أهمّ بالتطلع إلى وجهي في المرآة! ولا أكتم القراء أني صرت أؤمن بأن لكل منا شيطاناً، وأحسب شيطاني من أخبث الشياطين، فإنه يزج بي في مآزق لا أرضاها لنفسي لو كان الأمر لي.. وإن على مكتبي لأكثر من خمسة عشر كتاباً أستطيع أن أتناولها بما شئت من النقد وآنا آمن أن ألقى أصحابها إذا كنت لا أعرفهم، ولكن شيطاني الخبيث ظل يخايلني بكتاب الدكتور حتى أخرجته من بين إخوانه وقلت له: «تعال يا هذا». وأخذت أقلب صفحاته كما يفعل المرء بالخروف يريد أن يشتريه لعيد الأضحى! والحق أقول إنه أعجبني! وأنا ألقى الدكتور كل يوم وأحادثه أكثر مما أحادث نفسي. ولكم قلت لنفسي وهو لا يدري «لا يا شيخ! دع كتاب الدكتور إلى سواه، فإن للزمالة حقاً واجب الرعاية وستخجل أن تلقاه بوجهك هذا إن نقدته». ثم لا أكاد أخلو بنفسي حتى يهمس في أذني ذلك العفريت اللعين: إن الأدب فوق الصداقة والزمالة، وإن بروتوس كان يقول: «إني أحب قيصر ولكن رومية أحب إليّ» وإن لك كتاباً كما له كتاب فلينقده إذا أحب، وليس من شأن النقد الأدبي أن يفسد ما بين الصديقين. وهكذا حتى اقتنعت وتناولت القلم فكتب به الشيطان ما يأتي».

وراح ينقد أسلوب الدكتور حتى وصل إلى درجة أنه لو أن باحثاً بعد قرنين من الزمن أراد البحث في شخصية تدعى طه حسين لانتهى إلى أنها شخصية خرافية لا وجود لها، لأن هناك العديد من الكتاب انتحلوا هذا الاسم، فهناك من يقول إنه كفيف البصر، بينما يقول هو عن نفسه إنه يرى ويبصر، وهناك من يقول إنه ناثر بينما نجد شعراً باسم الدكتور.. فطه حسين شخصية خرافية.. إلخ. وفي النهاية يتخلص من شيطانه ويرى أن نفي وجود شخصية الدكتور ليس سوى نقد مفتعل.. إلخ.
ولادة ميثولوجية
أبدع المازني في استيلاد شيطان النقد لا يجاريه في ذلك ولا حتى غوته في مسرحيته «فاوست» عندما يلتقي مفيستوفيلس مع بطله. إنها ولادة ميثولوجية، ولكنك لو تعمقتها لوجدت أنها أكثر واقعية مما يجري في دنيا الواقع. ولكن المشكلة أننا عندما نقرأ العواطف والنزعات الإنسانية بعد تشخيصها نتهمها بالخرافة والخيال، مع أن واقع العواطف والنزعات الجوّانية هو ما يسيّر الواقع المادي.
الشيطان الذي حدثنا عنه المازني، والذي استولده من أعماقه المظلمة، يسمى في الميثولوجيا اليونانية (موموس – Momus) ولا ندري إن كان المازني في تلك الأيام قرأ ما كتبه اليونان والرومان عن موموس، ولكن الوصف الذي خصه به يكاد يكون الوصف الذي جاءتنا به تلك الميثولوجيا. ففي كتاب الثيوغونيا أنه ابن ربة الليل، ولا أب له. لكن شيشرون يرى أنه ولد من ربة الليل بعد زواجها من أريبوس، رب الظلمة ووالد النهار. ويقصد شيشرون أن زواج رب الظلام مع ربة الليل أدى إلى نقيض الجوّ القائم فانبثق النور. وهو تخريج ذكي لولادة موموس. إلا أن الأرجح أن يكون طفلاً أنتجته ربة الليل، أي لا يُعرف أصله وفصله، يأتي من المجهول المظلم، كما شخص المازني تماماً، فمن أعماق الليل الداخلي في النفس البشرية يشعر المرء بشيء يدغدغه.. يحاول إبعاده، ولكنه يظل يلح عليه حتى ينصاع له.
تاريخ موموس
كان موموس من الأرباب الكبار، وكان آلهة الأوليمب يستدعونه لانتقاد ما يقومون به من خلق وإبداع. وسبب دعوتهم لهذا الرب أنهم رأوا أن ما يخلقونه لا ينسجم مع ذاته، وأن الصراع ينشب بين المخلوقات، كأن هناك خطأ في الطينة الأساسية للتكوين الخلقي. وصار أرباب الأوليمب يهرعون إليه حتى يتفادوا النقص والعيب والتقصير، وكان يدلي لهم بآرائه الصريحة، وفي كثير من الأحيان تكون ساخرة ومضحكة. وسنأتي ببعض النماذج من آرائه فيما صنعه أرباب الأوليمب، بحسب ما رواه الحكواتي اليوناني الشهير إيسوب:
أراد كبير آلهة الأوليمب أن تكون له خلوة خاصة، فبنى منزلاً، نسقه ورتبه بحسب نواياه، ليستقبل فيه عشيقاته الكثيرات، وهو زير نساء كما اشتهر عنه. أبوابه ومداخله ونوافذه وشرفاته كلها جعلها تخدم الهدف الذي رمى إليه. ولما انتهى سأل موموس أن ينتقد هذا المنزل النموذجي، فتفحصه هذا الشيطان أو العفريت، كما يسميه المازني، فقال لزيوس إن المنزل يصلح للسكنى المؤقتة ولكنه لا يصلح للإقامة الدائمة. كيف؟ فأجاب موموس: إذا جاورك من لا يودّك أو لا تودّه، أو من تنزعج حتى لمرأه أو لتصرفاته، أو حتى لم يعجبك لون المنزل من الخارج، فماذا تفعل؟ أليس من الأفضل لو ركبت للمنزل عجلات تحته فتنقله إلى المكان الذي تجد فيه المنظر الجميل والهواء العليل؟!
سأله نبتون، عاشق الثيران والخيول، عن رأيه في الثور الأبيض الذي خلقه فأجاب بأنه لو ركب عينيه تحت قرنيه، أو نزل بقرنيه إلى ما فوق عينيه مباشرة لكان أفضل، فبذلك يركز نطاحه فلا تضام جبهته من النطاح بل يقيها بقرنيه. فاستاء منه نبتون وكظم غيظه لأن الكلمة بيد أخيه زيوس، كبير الأوليمب، وليست له ولا لغيره.
ابتسم فولكان وقال ساخراً من موموس: وما قولك بهذا الإنسان الذي صنعته ليقوم بخدمات جلى؟ فنظر موموس في المخلوق الجديد «الإنسان» وتفحصه جيداً، وأعجب بوقفته المنتصبة، وبدماغه الفعّال، وبديهته الجاهزة، ثم قال لفولكان إن مخلوقه جميل ولكن كان عليك أن تجعل في صدره نافذة (ولو في هذه الأيام لقال شاشة إلكترونية) تظهر فيها أفكاره التي تدور في عقله ولا ينطق بها لسانه، فهذه الأفكار هي التي تؤذي وليست الأفكار التي يصرح بها. فالإنسان لا يقول بأنه سيقتل، بل يقدم الهدايا، وفي النتيجة يقوم، تحت هذا الغطاء، بارتكاب الجرائم… فالأفعال السيئة دائماً يغطيها الإنسان بالكلمات الجميلة المنتقاة، كما فعل بروميثيوس عندما غشّ زيوس فوضع الدهن فوق كومة عظام.
استاء فولكان كغيره من الأرباب، مما أدخل السرور إلى قلب فينوس ربة الجمال، فتقدمت أخيراً وطلبت منه أن ينقدها وفي وهمها أنه لا شية فيها، فلما تأملها قال بأن حزامها الذهبي هو ما يعجب الناس، كما أن قرعات حذائها وهي تمشي متبخترة فيه نوع من الإزعاج للسامعين، وإن كان العشاق يطربون لقرع حذائها على الأرض، وبخاصة إذا كانت الأرض من المرمر.
هنا اغتاظت منه فينوس وتأكدت أنه مغرض يريد أن يحط من قيمة الجمال، فراحت تحرض الآلهة ضده، وتقنعهم أنهم لن يستطيعوا فعل شيء جميل ما دام هذا العيّاب عندهم.
لم يشأ زيوس أن ينفرد برأيه فجمع الآلهة وشاورهم، ثم اتخذ قراراً بطرده من الأوليمب، ومنذ ذلك الوقت صار قهرماناً للشعراء والكتاب والنقاد، ولهذا السبب نجد شعرهم وأدبهم ونقدهم يولد من «الليل» فيه الكثير من الإبهام، تماماً مثل ولادة موموس نفسه. تقرأ النص فتلمس الغموض وليس الشيء الواضح الناصع، وتسعى إلى الوقوف على هدف الكاتب فلا تصل إلى برّ اليقين الآمن، وتنظر في الأفكار فتجدها غريبة بلا أب، بل بلا أم أحياناً، وكأنها ولدت من قلب الليل.
لم يعترض الآلهة على أن يكون موموس قهرماناً للكتاب والشعراء والنقاد، ظانين أنه يلهيهم عن البحث في قضايا الأرباب الأوليمبية، فكان عكس ما ظنوا، إذ راح يعلم الشعراء والكتاب مهنته التي كان يمارسها مع الآلهة الأوليمبية.. وقد ظل هؤلاء الشعراء والكتاب والنقاد يلاحقون أرباب الأوليمب بالنقد والتجريح أحياناً، حتى قضوا عليهم. فكان ما فعله موموس ضربة لا تقل تأثيراً عن سرقة النار التي أنسَت الناسَ ذكرَ الآلهة.
المدرسة الموموسية
الغيظ الذي شحن قلوب أرباب الأوليمب من موموس كان في محله، فمثل هذا النقد يربك ولا يريح، ويحبط ولا يشجع. ولكن قبل هذا نسأل: ما هي المدرسة الموموسية في النقد؟
إنه نقد بسيط جداً. أنظر إلى ما لم يقصده الكاتب وضع له هدفاً غير الذي سعى إليه.
كلام مبهم أليس كذلك؟ فلنوضحه، بمثال واقعي جداً. ففي عام 1956 حدثت حركة تغيير في هنغارية بقيادة أمري ناجي، سحقها الرفاق السوفييت ووضعوا يانوس كادار رئيساً. وحدث الإنزال البريطاني الفرنسي الإسرائيلي في بورسعيد. وفي هذه الفترة ظهر كتاب لعباس محمود العقاد بعنوان «جحا الضاحك المضحك» في سلسلة كتاب الهلال. وعلى الفور راحت المدرسة الموموسية من رفاقنا اليساريين ينتقدون هذا الكتاب، بل يكيلون التهم بالقفة والإردبّ. فمن رأيهم أن الكتاب خدمة للإمبريالية والصهيونية لأنه يشتت الاهتمام بالقضايا القومية والعالمية، ويلهي المناضلين بجحا الضاحك المضحك… وهذا ليس أوان الضحك والمضحكين.. إلخ فلم نحظَ بكلمة نقد لما اشتمل عليه الكتاب، لا شكلاً ولا مضموناً.
ونقدم الطريقة الموموسية في النقد على النحو التالي: إذا كان لديك نص رومانتيكي يعيش الحلم والخيال فانقده بأنه بعيد عن الواقع، وإذا كان لديك نص واقعي فانقده بأنه بعيد عن الحلم والخيال، وإذا كان لديك نص فرويدي فانقده بأنه يبتذل الكرامة الإنسانية، وإذا كان لديك نص مثالي فانقده بالقول إن الإنسان من لحم وعظم وأعصاب، ولا يمكن تجاهل هذا، وإلا لا يكون للأدب جدوى، فعليه أن ينزل إلى المستوى الإنساني الواقعي وألا يغرق في الأخلاقية المثالية الضالة.. إلخ وإذا كان لديك نص طبيعي فانقده بالقول إن عدسة التصوير تغني عن الأدب الطبيعي وهكذا.. إلخ.
بهذه الطريقة الموموسية يمكنك أن تنقد أي نص من دون أن تتعب نفسك بالعودة إلى التراث النقدي، فيكفي كما قلنا أن تذكر ما ينقص النص حتى تكون نقدته نقداً تكسب من ورائه شهرة كبيرة، ولكنها مثل شهرة وليم هازلت، هشيم يلتهب وبسرعة يخمد.
ونلاحظ في كثير من النقد الصحفي نشاطاً كبيراً لعفريت المازني، وهو عفريت متدرب تماماً في المدرسة الموموسية، فتجد هذا النقد يذكر ما لا يريد الكاتب ذكره. ونقول النقد الصحفي، ليس لأنه نشر في الصحف، فكل النصوص النقدية العظيمة والهامة نشرت في الصحف، وإنما نقول ذلك لدخول عدد وفير من النقاد ميدان الصحافة من غير أن يتسلحوا بعدة حقيقية للنقد الحقيقي، الذي يسجن العفريت في قمقم، ويحترم التراث النقدي قبل أن يباشر العمل وفق خطة لها هدفها ولها مردودها الفكري والفني.
عفريت المازني
نلاحظ في كثير من النقد الصحفي نشاطاً كبيراً لعفريت المازني، وهو عفريت متدرب تماماً في المدرسة الموموسية، فتجد هذا النقد يذكر ما لا يريد الكاتب ذكره. ونقول النقد الصحفي، ليس لأنه نشر في الصحف، فكل النصوص النقدية العظيمة والمهمة نشرت في الصحف، وإنما نقول ذلك لدخول عدد وفير من النقاد ميدان الصحافة من غير أن يتسلحوا بعدة حقيقية للنقد الحقيقي، الذي يسجن العفريت في قمقم، ويحترم التراث النقدي قبل أن يباشر العمل وفق خطة لها هدفها ولها مردودها الفكري والفني.
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *