*ألفة يوسف
بخصوص تعريف المسلم فإنّنا سنضرب صفحاً عن اختلافات الفرق الإسلامية ونعدّ المسلم من يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله. بهذا كان النّاس يدخلون الإسلام زمن الرسول «صلى الله عليه وسلّم»، وبممارستهم الصّلاة والصّوم والحجّ كانوا يتعبّدون، وبدفعهم الزّكاة كانوا ضمن الأمّة يتموقعون. أمّا السّياسة في مفهومها الأعمّ فهي سياسة الشّأن العامّ وتنظيم شؤون الناس في علاقاتهم الجماعيّة بعضهم ببعض شأن تحديد نظام الحكم والقوانين وضروب إجرائها إلخ. وسنعرض في هذا المقال لشذرات من علاقة الإسلام بالسّياسة عبر التّاريخ وفي النّصّ الدّينيّ.
نظرة تاريخية
نقرّ في هذا المجال بحقيقتين لا يمكن نقضهما. الحقيقة الأولى تفيد أنّ السياسة قد مورست فعلا في تاريخ المسلمين باسم الإسلام. والحقيقة الثّانية تفيد أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلّم كان رسولاً من جهة وكان رجل سياسة ورجل دولة من جهة أخرى.
ولعلّ من أبرز الإشكالات الفكريّة عبر تاريخ المسلمين التّساؤل الّذي طرحه كثيرون وبلغ أوجه مع عليّ عبد الرّازق في كتابه: الإسلام وأصول الحكم. وهذا التّساؤل هو: هل البعد السّياسيّ للرّسول صلى الله عليه وسلّم مقام بشريّ أم مقام إلهيّ؟
لئن كانت الإجابة القطعيّة على هذا السّؤال عسيرة فإنّه ممّا لا جدال فيه هو أنّ الرسول «صلّى الله عليه وسلّم» حالة فريدة، فهو بشر ولكن يوحى إليه، أي إنّه بصفته ناقل الوحي وخاتم الأنبياء آخرُ وسيط بشريّ بين الله والبشر، بما يجعل تفاسير المسلمين وسلوكهم بعده قراءات نسبيّة قابلة للاختلاف.
ومنطقيّ، والحال تلك أن يتجسّم الفراغ التّأويليّ والفراغ السّياسيّ فعلا بعد وفاة الرّسول «صلّى الله عليه وسلّم». ومنطقيّ أن تكون السّمة الأساسيّة للسّياسي في علاقته بالإسلام عبر التّاريخ، هي سمة صراع المصالح المتضاربة وسمة التّصرّف في هذا الصراع بعنف في كثير من الأحيان.
ولا يخلو التّاريخ من أمثلة على الصّراع والعنف الّذي مجاله السّياسيّ بين المسلمين، انطلاقا من الفتنة الكبرى. ذلك أنّ مقتل عثمان بن عفّان «رضي الله عنه» هو منطلق انقسام الأمّة الإسلاميّة بسبب صراعات سياسيّة دنيويّة بلغت حدّ منع عثمان «رضي الله عنه» من الصّلاة في الجامع وضربه بالحجر وحبسه في بيته، حتّى الهجوم عليه وقتله ودفنه ليلا بعد خلافات جمّة. ولا يخرج عن هذا الصّراع السّياسيّ الحركةُ الاحتجاجيّة للمطالبة بدم عثمان والّتي تزعّمتها أم المؤمنين عائشة «رضي الله عنها» وطلحة والزّبير. وبلغت حدود تبادل التّهم إذ تقول عائشة رضي الله عنها مثلًا: «فسفكوا الدّم الحرام واستحلّوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام واستحلّوا الشّهر الحرام». وفي مقابل ذلك يقول الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته ونظرت إلى ما استنّ النّبيّ فاقتديته فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما».
وقد سال الدّم بين المسلمين في واقعة الجمل، وتقاتل أبناء العائلة الواحدة، فمن ذلك أنّ عبد الله بن خلف الخزاعي قُتل في صفوف عائشة وأخاه عثمان قُتل في صفوف عليّ. وتواصل الصّراع إثر واقعة الجمل بين عليّ ومعاوية في واقعة صفّين، وسال الدّم مرّة أخرى على خلفيّات المصالح السّياسيّة، وأبرز مثال على ذلك تحالف عمرو بن العاص مع معاوية لكي يمنحه مقاطعة مصر مدى الحياة. وتلت واقعةَ صفّين واقعةُ النّهروان ثمّ قَتْل علي بن أبي طالب، فاستيلاء معاوية على الحكم. وانطلاقا من تلك المرحلة، وشيئا فشيئا تحوّلت الخلافة التي لم تخل من صراعات دمويّة باسم الإسلام إلى ملك عضوض. وقد عبّر ابن خلدون عن هذا الوضع أحسن تعبير إذ أقرّ أنّ للملك: «حقّ التّصرّف في رقاب النّاس وأموالهم وأبضاعهم… ثمّ ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلاّ اسمها وصار الأمر ملكا بحتا، وجرت طبيعة التّغلّب إلى غايتها واستُعملت في أغراضها من القهر والتّغلّب في الشّهوات والملاذّ وهكذا صار الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرّشيد من بني العبّاس». ولا يمكن إلاّ لجاحد أن ينكر تواصل الصّراعات السّياسيّة باسم الإسلام إلى اليوم: من مظاهرها الطّائفيّة، وصراعات المذاهب، والإرهاب باسم الدّين.
واستنادا إلى هذا التّأليف التّاريخيّ يمكن أن نقرّ بالنّتائج التّالية:
* إذا فشل المسلمون عبر التّاريخ في تحقيق فعل سياسيّ باسم الإسلام خال من صراع وتناحر بين المسلمين، فهل سيكون ذلك ممكنا في المستقبل؟ لئن كان القطع بالجواب حول استفسار يخصّ المستقبل مستحيلاً فإنّ التّعامل معه من منظور الاحتمالات ممكن. وإذا قسنا الحاضر على الماضي بما في كليهما من صراعات سياسيّة باسم الدّين، فإنّ احتمال تواصل الصّراع قائم بالضّرورة.
* إنّ الصّراعات السّياسيّة باسم الدّين ليست خاصّة بتاريخ المسلمين وإنّما هي صراعات تشقّ عديد الأديان فلا ننسى صراعات الكنيسة المسيحيّة وما نجم عنها من سفك للدّماء وإضرار بالبشر.
* إنّ السّياسة الّتي مورست باسم الإسلام عبر التاريخ لم تخل من صراع على السلطة وسفك دماء المسلمين بعضهم لبعض. وفي مقابل ذلك فإنّ الإسلام، باعتباره دينا جوهره التّسامح والمحبّة وباعتباره دينا يعدّ قتل النّفس من الكبائر فضلا عن أن يكون قتل المسلم للمسلم من أجل السّلطة، ليس مسؤولا عن هذا الوضع التّاريخيّ. فالمسؤولون عن الصّراع من أجل السّلطة هم المسلمون وليس الإسلام.
ومن اللّطيف أن نشير إلى أنّه كلّما ظهر البُعد الرّوحانيّ الجامع بين المسلمين تأخّر بُعد الصّراع المصلحيّ السّياسيّ، فلا ننسى أنّه عندما ضُربت عراقيب الجمل الّذي حمل عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها توقّفت واقعة الجمل. ولا ننسى أنّه عندما تمّ رفع المصاحف على رؤوس الأسنّة، توقّفت واقعة صفّين. إنّ هشام جعيّط قد عرض لهذا التّفاعل في كتابه: الفتنة الكبرى وأشار إلى «القدسيّ الّذي يدخل في اللعبة ولكن بطريقة ملموسة».
الإسلام والسّياسة في الرّسالة
نعني بالرّسالة القرآن والسّنّة. ونحن واعون بالاختلاف في القراءة بالنّسبة إلى القرآن وواعون بالاختلاف في درجات الصّحّة بالنّسبة إلى السّنّة.
وممّا بدا لنا ثابتا انطلاقا من قراءتنا لمصدري التّشريع الأساسيّين في الإسلام هو أنّه ليس هناك في القرآن ولا في الحديث نصّ قطعيّ يحدّد نظام الحكم وطريقته. وبأبسط ضروب التّفكير المنطقيّ فلو كان هناك قَطْع بأسلوب الحكم وطرق تداوله لما حصل إشكال سقيفة بني ساعدة. ولا ننسى أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: « ثلاث لأن يكون رسول الله بيّنهنّ أحبّ إليّ من الدّنيا: الكلالة والرّبا والخلافة».
ونوافق اسماعيل محمّد حسني في ذهابه إلى أنّ الشأن السياسي يعبّر عنه في القرآن وفي لغة العرب بلفظ الأمر، ولفظ الأمر من الائتمار أي التّشاور، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»(آل عمران3/159)، وقوله عزّ وجلّ: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» (آل عمران/152). وقد اعتمد أبو بكر يوم السّقيفة الكلمة ذاتها في معنى الحكم إذ قال: «وددت لو أنّي سألت رسول الله في الأمر فلا ينازع الأمر أهله»، وتحدّث عمر بن الخطّاب في خطبة له عمّن ولي الأمر قائلا: «ليعلم من ولي الأمر بعدي».
فكلمة الأمر إذن عامّة لا تفيد شكلا مخصوصا لنظام الحكم. وسنحاول بيان تهافت بعض المفسّرين في قراءتهم لبعض آيات القرآن خارجة عن سياقها، محاولين استنادا إليها إثبات وجود مفهوم الحكم السّياسيّ في الإسلام. وقد وجدنا أنّ هذه الآيات تتفرّع إلى الأقسام الآتية:
* آيات خاصة بوقائع تاريخيّة مخصوصة في علاقتها بالرّسول عليه الصّلاة والسّلام أساساً:
«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(النّساء4/65).
«إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا»(الّنساء4/105).
«مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الحشر 59/7).
فأمّا الآية الأولى، فاختُلف فيمن نزلت، بعضهم ذهب إلى أنّها نزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من الأنصار وكان الرّسول «صلى الله عليه وسلم» حكمًا بينهما، وذهب آخرون إلى أنّها في الرّجل اليهودي والرّجل المسلم اللّذيْن تحاكما إلى كعب بن الأشرف. وأمّا الآية الثّانية فهي تفيد تحميل الرّسول عليه الصّلاة والسّلام مسؤولية الحكم. وبعض المفسّرين يذهب إلى أنّها تحيل على حكم الرّسول بين رجلين من الأنصار اختصما إليه عليه الصّلاة والسّلام في مواريث بينهما.
وأمّا الآية الثّالثة فهي خاصّة بسياق توزيع الغنائم أو توزيع الجزية والخراج ممّا تعدّدت قراءاته وتآويله وتنوّعت لدى المفسّرين.
* آيات خاصّة بأهل الكتاب:
«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (المائدة5/44)
«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (المائدة5/45)
«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (المائدة5/47)
ورد عند جلّ المفسرين أنّ هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب وليس في أهل الإسلام منها شيء (1).
ونذكر تفسير الطّبري مثالًا: «وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم، فكونُها خبرًا عنهم أولى».
* آيات خاصّة بالطّاعة في مجال أصول الدّين وعباداته وأحكامه:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (النّساء 4/59).
وقد ذهب مجاهد وابن كثير وغيرهما إلى أنّ أيّ شيء تنازع النّاس فيه في أصول الدّين وفروعه يُردّ التّنازع فيه إلى الكتاب والسّنّة. ولا جدال في أنّ السّياسة ليست من أصول الدّين وفروعه. أمّا أولو الأمر، فقد اختلف المفسّرون في المعنيّ بهم بين دلالتهم على الأمراء (دون تحديد اصطلاحيّ ودون بيان كيفيّة الوصول إلى الحكم) وبين دلالتهم على أصحاب السّرايا في عهد الرّسول «صلّى الله عليه وسلّم»، وبين دلالتهم على رجل مخصوص في التّاريخ هو عبد الله بن حذافة بن قيس السّهمي وبين دلالتهم على أبي بكر وعليّ «رضي الله عنهما». بل ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ أولي الأمر هم أولو العلم. والمهمّ في هذا كلّه هو غياب اتّفاق نهائيّ على مرجع عبارة أولي العلم، فضلاً عن الاتّفاق في الجماعة الّتي يصحّ بأن ينتموا إليها.
فإذا تبيّن لنا، استنادا إلى ما سبق، غيابُ نظام حكم وأساليب سياسيّة محدّدة في القرآن، فماذا عن آيات الأحكام في القرآن؟
الثّابت أنّ عدد آيات الأحكام في القرآن مختلف فيها، ولكنّ هذا العدد ضئيل بالمقارنة مع آيات القرآن جميعها. فأمّا المسائل المدنيّة الواردة في القرآن فقليلة منها الأمر (على سبيل النّدب) بكتابة الدّين، ومنها تحريم الرّبا (بالاختلاف في مفهومه وعسر تحديده حديثا لا سيّما بعد نشأة المؤسّسات الماليّة التي لم تكن موجودة زمن نزول القرآن).
أمّا في المسائل الجنائيّة، فإنّنا نجد أربعة حدود: حدّ السّرقة، حدّ القذف، حدّ الزّنى، حدّ الحرابة، وهي في جلّها تعتمد عقوبات كانت شائعة في الجزيرة العربيّة وقتئذ.
فإذا نظرنا في الحدود تاريخيّا، وجدنا أنّ التّعامل معها كان قائما على الرّغبة في التّعافي عنها وعدم تطبيقها. فقد قال الرسول «صلى الله عليه وسلّم»: «تعافوا عن الحدود»، وقال: «ادرؤوا الحدود بالشّبهات». ولعلّنا نقول إنّ غاية الحدود إصلاحيّة قبل أن تكون عقابيّة. ويمكن أن نذكر مثالاً على ذلك حدّ الزّنى. فهو حدّ يستدعي تطبيقه أربعة شهود ممّا يكاد يستحيل، وقد أعرض الرّسول عن امرأة اعترفت بالزّنى مرّات حتّى وضعت ابنها وأرضعته، وقد اعترفت امرأة بالزّنى لعمر في حضور عليّ الذي قال له: إنّها تستسهل، فاتّفقا على إسقاط الحدّ عنها رغم اعترافها.
ويؤكّد الشّاطبي أنّ الحدود أحكام وضعيّة محكومة بالسّبب والشّرط والمانع فلا يطبّق حدّ إلاّ إذا توفّرت أسبابه وتحقّقت شروطه وغابت موانعه.
وإذا نظرنا في الحدود تأويليّا، ملنا إلى قراءة محمود محمّد طه المفكّر السّودانيّ لها. فهو يرى أنّ الفرق في ضروب الخطاب بين المرحلة المكّية والمرحلة المدنيّة هو فرق ناتج عن اختلاف السياق التّاريخيّ والجمهور المتوجّه إليه بالخطاب، ومن هنا فإنّه يعتبر أنّ تحديد النّاسخ والمنسوخ متحوّل وفق تحوّل الأوضاع التّاريخيّة بما يسمح بالتّعافي عن الحدود في سياقات مخصوصة. وهو مثيل ما قام به عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إذ ألغى العمل بحدّ قطع يد السّارق عام المجاعة.
ومع هذا كلّه وإذا ضربنا صفحا عن البعد التّاريخي للحدود واختلاف تأويلها، فإنّه يمكننا أن نتساءل: هل الحدود وحدها كفيلة ببناء نظام سياسيّ اقتصاديّ اجتماعيّ شامل يتجسّم في دولة؟ الأغلب أنّ الجواب سيكون بالنّفي.
ممّا سبق، ننتهي إذن إلى وجود صراعات دمويّة على السّلطة في التّاريخ باسم الإسلام وإلى غياب نظام حكم وأساليب سياسة مضبوطة. بل إنّه في حال وجود بعض الشّذرات لقوانين مخصوصة فإنّه يُختلف في تأويلها وتطبيقها. ولكن هل يعني هذا كلّه انعدام أيّ علاقة بين السّياسيّ والدّيني؟
إنّ تحليلنا يفيد غياب حكم سياسيّ بمعنى النّظريّة السّياسيّة المتكاملة ولكنّه لا يعني أنّ الدّين لا يشتمل على جملة من القيم الّتي من المفروض أن تحكم تعامل السّياسيّ مع الشّأن العامّ، شأن قيم العدل وعدم الاستبداد بالرّأي الواحد وعدم الاعتداء إلخ.
وهذا ما يظهر جليّا في كثير من الآيات نضرب منها البعض مثالا:
* «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (النّساء4/58).
* «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (الشّورى 42/38).
* «وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة2/190).
الدين والسّياسي.. أي علاقة؟
كيف نتصوّر إذن علاقة الدّين بالسّياسيّ؟
الدّولة يحب أن تحمي كلّ المعتقدات وتحمي إقامة الشّعائر وحرّيتها، بما يحقّق قول الله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف18/29)، وقوله عزّ وجلّ: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ- لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية88/21-22).
إنّ حماية الدّولة للمختلفين عقيدة أو مذهبا أو تصوّرات هو ما يشكّل مفهوم المواطنة بصفته مفهوما قائما على عقد اجتماعيّ بين الفرد والدّولة.
ويظلّ الاستناد في استنباط بعض القوانين إلى اجتهاد في التّشريع أمرا ممكنا. لكن مع ضرورة الوعي بأنّ الاجتهاد بشريّ وأنّ التّشريع الإلهيّ لا يمكن تحقيقه إجرائيّا إلاّ من خلال تأويلات البشر له. إنّ هذا المنظور الّذي ينسّب الاجتهاد هو الّذي يمكّن من إنقاذ الدّين من السياسة. أليس أنّ من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر؟ وهل سيكون المجتهدون مهما يبذلوا من جهد أعلم من الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وهو الّذ ي يحمله خلقه الرّفيع على التّواضع، رغم أنّه أفضل النّاس خلقا، على أن يقرّ بأنّ الكمال لله وحده وأنّ حكم البشر جميعا عرضة للصّواب والخطأ. فلا يمكن لأيّ منهم أن يتكلّم باسمه عزّ وجلّ أو أن يدّعي أنّه ظل الله تعالى على الأرض.
يقول الرّسول «صلّى الله عليه وسلّم»: «إنّما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن في حجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيتُ له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النّار».
وعموما يمكن أن نقول إنّ السّياسيّ يجب أن يكون محكوما بمبادئ الأطيقا الأخلاقيّة مطلقا. ولا إشكال إذا كانت هذه الأطيقا مندرجة ضمن تصوّر للهويّة مستند إلى قيم دين من الأديان. وقد عبّر ابن عقيل عن هذه الفكرة أحسن تعبير إذ جرت مناظرة بينه وبين بعض الفقهاء. فقال أحد هؤلاء الفقهاء: لا سياسة إلاّ ما وافق الشّرع. فأجابه ابن عقيل: «السّياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون النّاس معه أقرب إلى الصّلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرّعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا نزل به وحي. فإذا أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق الشّرع أي لم يخالف ما نطق به الشّرع فصحيح وإن أردت ما نطق به الشّرع فخطأ». ونحن نذهب إلى أنّ ما لا يخالف الشّرع هو كلّ ما لا يخالف القيم الجوهرية ومقاصد الإسلام السّمحة.
بهذه القراءة العميقة لجوهر الإسلام وعلاقته بالسّياسيّ يمكننا أن نتجاوز الصّراعات الدّمويّة باسم الدّين ويمكن أن نتعايش في سلام مهما تختلف قراءاتنا. ولعلّ الشّعراوي قد أحسن التّعبير إذ قال: «أتمنّى أن يصل الدّين إلى أهل السياسة ولا يصل أهل الدّين إلى السّياسة».
_____
*الاتحاد