جبران.. باعث الرومانسية بالأدب العربيّ المعاصر


*جهاد فاضل


لا شكّ أن الكاتب المهاجر اللبناني الأصل جبران خليل جبران صاحب الكتاب الرؤيوي (النبي)، ورواية (الأجنحة المتكسرة) وسواها من الكتب الذائعة الصيت، عربيًا وفي الخارج، هو أوسع المؤلفين العرب انتشارًا.

وتذكر المؤلفات عن جبران بعضًا من مبيعات كتاب (النبي) في عدد من السنوات استنادًا إلى إحصاءات. إذ تقول المعلومات إنه في عام ١٩٥٧ تجاوز عدد النسخ المباعة من الكتاب المليون، وفي العام ١٩٦٥ المليونين ونصف المليون. وفي العام ١٩٧٠ أربعة ملايين نسخة. وبين عامي ١٩٦٠ و١٩٧٠ كان يباع من كتاب (النبي) في الولايات المتحدة خمسة آلاف نسخة أسبوعيًا، أي بعد أن مضى على صدور الكتاب أكثر من خمسين عامًا. وفي السنوات الأخيرة، أي ابتداءً من الألفية الثالثة، وصلت المبيعات إلى رقم مذهل: تسعة ملايين نسخة في أمريكا الشمالية وحدها.

ولا يشمل هذا الرقم النسخ المباعة في المملكة المتحدة، ولا عدد النسخ المترجمة إلى أكثر من عشرين لغة. ويمكن الآن قراءة الكتاب على الإنترنت. أما طبعة الممثلة سلمى حايك، أي الفيلم الذي أنتجته عن الكتاب، فلا شك أنها ستزيد الكتاب انتشارًا، وستحرّض الكثيرين على قراءاته.

ولم يكن العالم ليُقبل على قراءة الكتاب، وبهذا الحجم غير المسبوق، لو لم يكن مختلفًا عن الكتب الأخرى، ويقدّم لقارئه ما يمتعه أو يفيده، يحتوي الكتاب على أفكار عميقة، إنه دون أدنى شك ثمرة سنوات من التأمل في مواضيع جوهرية متعلقة بالوجود البشري، ومنها الحب والفرح، والموت والحياة. وقد أخذ عليه بعض النقاد الغربيين عند صدوره لأول مرة سنة ١٩٢٣ «شرقيته» أي كونه يُحيي قيمًا وأفكارًا شرقية قديمة، ويجافي الروح الغربية الصارمة في منطقها وماديتها.

ولكن ما أخذه هؤلاء النقاد على الكتاب ألّف في الواقع سرّ عبقريته.

فلولا هذه «الشرقية» الموغلة في السرّ وفي السحر، لمرّ الكتاب مرورًا عابرًا وكأنه لم يكن. في حين أن هذه الشرقية بالذات وهبته الاستمرار!.

سنة ١٩٢٠ هي سنة حاسمة في سيرة جبران وفي تاريخ الأدب العربي المعاصر. ففي العشرين من نيسان (إبريل) من تلك السنة، وخلال أمسية أحياها ناشر صحيفة “السائح” وإخوانه في بيتهم في نيويورك، دعوا إليها رهطًا من الأدباء، دار الحديث عن الأدب، وعما يمكن للأدباء السوريين (لم يكن لبنان السياسي قد تأسس بعد، وكان القسم الأكبر منهم لبنانيًا) في المهجر القيام به لبثّ روح جديدة نشيطة في جسم الأدب العربي، وانتشاله من وهدة الخمول والتقليد إلى حيث يصبح قوة فعّالة في حياة الأمة، ورأى أحدهم أن تكون لأدباء المهجر رابطة تضمّ قواهم وتوحّد مسعاهم في سبيل اللغة العربية وآدابها. فقابلت الفكرة استحسان كل الأدباء الحاضرين وهم: جبران خليل جبران، نسيب عريضة وليم كاتسفليس، رشيد أيوب، عبدالمسيح حداد، نورة حداد، ميخائيل نعيمة، وأقروا بإجماع الأصوات مباشرة السعي لتحقيق هذا الفكر. وإذا لم يكن من فرصة للبحث في كيفية تأليف الجمعية وقوانينها، دعا جبران خليل جبران الأدباء إلى عقد اجتماع في منزله ليلة الثاني والعشرين من نيسان.

وبالتاريخ المشار إليه اجتمع أعضاء الرابطة القلمية في مرسم جبران وأعلنوا تأسيس الرابطة رسميًا. انتخبوا جبران رئيسًا ونعيمة أمين سرّ.

ونلاحظ في البيان الذي صدر عقب هذا الاجتماع وجود أفكار ونغمات جبرانية:

«ليس كل ما سُطّر بمداد على قرطاس أدبًا، ولا كل من حرّر مقالاً أو نظم قصيدة موزونة بالأديب. فالأدب الذي نعتبره هو الأدب الذي يستمدّ غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها. والأديب الذي نكرّمه هو الأديب الذي خُصّ برقة الحسّ ودقة الفكر وبُعد النظر في تموجات الحياة وتقلباتها، وبمقدرة البيان عما تحدثه الحياة في نفسه من التأثير».

وكان أعضاء «الرابطة القلمية» يجتمعون بشكل منتظم تقريبًا من العام ١٩٢٠ حتى موت جبران في العام ١٩٣٠، وجبران قلب المجموعة ومحورها الرئيس والعضو الأكثر التزامًا بها. ولكنه عندما غادر هذه الفانية تلاشت أواصر الرابطة وتحولت مناقشاتها البناءة إلى مجالات عقيمة.

اعتُبر جبران دائمًا شاعرًا لا بما كتبه من شعر موزون بالعربية، بل بمجمل ما كتبه من شعر ونثر. وفي كتاباته يشبه جبران الشاعر الأصيل بالرائي الحقيقي. يقول في إحدى حكم كتابه «رمل وزبد»: «بين العالم والشاعر مرج أخضر، فإذا اجتازه العالم صار حكيمًا، وإذا اجتازه الشاعر صار رائيًا».

كما أن الشاعر غريب في بلاد غريبة، وفي «المواكب» وهي قصيدته الكبرى يقدم لنا الشاعر:

فإن رأيت أخ الأحلام منفردًا

عن قومه وهو منبوذّ ومُحتقر

فهو الغريب عن الدنيا وساكنها

وهو المجاهر لام الناس أو عذروا

وهو الشديد وإن أبدى ملاينةً

وهو البعيد تدانى الناس أم هجروا


هذه الأبيات تفتقر إلى المتانة التي يفتقر إليها أيضًا كل شعر جبران، وعلينا أن نتفّهم عدم المتانة هذه وأسبابها. ذلك أن صاحبها غادر لبنان باكرًا ودون أن يحصّل الثقافة العربية اللاّزمة للأديب والشاعر. وفي بوسطن ثم نيويورك حيث عاش، كانت العجمة، أو اللغة الإنجليزية، هي سيدة الموقف.


ولكن بعربية غير متينة، أو بعربية ركيكة، كتب جبران في الولايات المتحدة كتبًا كانت ذات شأن في نهضة الأدب العربي وتحديثه. وقد غادر هذه العربية لاحقًا ليكتب باللغة الإنجليزية كتبًا أخرى وُهب لها شأن كبير أيضًا في أمريكا وفي العالم. وترُجمت كتبه الإنجليزية هذه مرارًا إلى العربية وفي طليعتها كتاب «النبي». فقد ترجمه الأرشمندريت أنطونيوس بشير الذي أصبح فيما بعد مطرانًا على الطائفة الأرثوذكسية في الولايات المتحدة.


كما ترجمه الشاعر يوسف الخال، ووزير الثقافة المصري الأسبق ثروت عكاشة وصدرت ترجمة عربية حديثة منه قام بها الدكتور نديم نعيمة أستاذ الأدب العربي في جامعة بيروت الأمريكية.


في تلك المرحلة المبكرة من عمر الأدب العربي المعاصر، انفتح هؤلاء الأدباء العرب المغتربون على الآداب الأجنبية أيما انفتاح. وتلخص الباحثة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي الوضع في بداية القرن الماضي على الصورة التالية: بفضل أمين الريحاني الأديب المهجري الذي تأثر بالشعر المنثور عند والت ويتمان، وبفضل جبران كذلك، توقع الشعراء إمكانية كتابة قصائد نثرية. وبالرغم من أن قصيدة النثر لم تبلغ أبدًا مع هذين الكاتبين تعبيرًا مكتملاً بشكل صحيح، فقد بدت على الشعر العربي في تلك الفترة، أي خلال العقد الأول والعقد الثاني من القرن العشرين، علائم التبرم من معايير النزعة الكلاسيكية المتشدّدة.

وانبثقت من كل مكان في العالم العربي محاولات تهدف إلى تعديل لغة القصيدة وموضوعها وشكلها. فشلت تلك المحاولات المجددة في مصر لنقص الموهبة والحدس. وعرفت البواكير الإبداعية في المهاجر نجاحًا كبيرًا بالرغم من أن كاتَبيِ الحركة المهجرية الرئيسين الريحاني وجبران لا يمتلكان إلا أساسًا لغويًا ضعيفًا نسبيًا. غير أن حدسًا حادّاً، وموهبة حسنة الاستثمار، ومنظورًا مختلفًا بشكل أساسي، مصطبغًا بتأثير ثقافي أجنبي ثابت، أتاحت تحرير تيار إبداعي لدى الرجلين، وأطلقت حركة مجدّدة، ومغامرة أدبية لا مثيل لها في بقية العالم العربي.

بنظر دارسيه، أحبّ جبران نساءً كثيرات، وأحبته بعضهن. وقسم كبير من تاريخ حياته هو تاريخهن أيضًا. إذا لم يبق غالبًا من أخباره باستثناء كتاباته ولوحاته الفنية إلا الصورة التي تركتها صديقاته العزيزات.

عاشر جبران الأشخاص الأثرياء والمشهورين في بوسطن ونيويورك لكنه ما فتئ يؤكد صلاته وقرباه ومودته للفقراء والمعدمين. ومع أنه مرّت به مآسٍ مدمّرة على الصعيد الشخصي، فقد حاول دائمًا أن تصطبغ كتبه بالرصانة والتفاؤل. أما التأثير الذي مارسه على قرائه، يشهد بذلك سعة انتشار مؤلفاته، فقد كان قويًا. وهذا يدل على أنه لم يكن كاتبًا سطحيًا.

ثمة أكثر من علاقة روحية بين جبران وعدد من النساء، أولهن ماري هاسكل الأمريكية التي احتضنته وموّلت رحلته للدراسة الفنية في باريس.

ومن دارسيه من يؤكد أن لها أثرًا في صياغة كتابه (النبي) وهو أعظم كتبه.

فلغتها الإنجليزية أفضل بما لا يقاس من لغته. ومنذ السنوات الأولى لعلاقتهما، كان لها حضور مستمر في وجدانه وحياته. تنصح وتساعد، وتوحي له في عمله، كان جبران يقول إنهما كانا على اتصال لا ينقطع بفضل التخاطر. كانت تراجع له جميع نصوصه المكتوبة بالإنجليزية. وحتى بعد زواجها استمرت في تصحيح كتاباته خفية عن زوجها الذي لم يكن راضيًا عن علاقتها بجبران.

والواقع أن جبران حصل على مغانم شتى من صداقته مع ماري هاسكل.

إذا أخذنا بالاعتبار واقع ديناميكية الطاقة المميزة لعلاقتهما، نجد أن مردودها في رجحان واضح لصالحه على الصعيدين المادي والسيكولوجي.

أما المرأة الثانية التي كان لجبران صلة روحية بها، فقد كانت الأديبة اللبنانية المتمصّرة مي زيادة صاحبة الصالون الأدبي الشهير في منزلها الذي كان يُعقد مساء الثلاثاء من كل أسبوع ويحضره كبار الأدباء والشعراء ومنهم أحمد شوقي وطه حسين والعقاد وخليل مطران. لم تلبث شهرة مي أن عمت العالم العربي ليس فقط باعتبارها أديبة وكاتبة، وإنما رائدة مدافعة عن حقوق المرأة. في سنوات ١٩٣٠ بعد موت أبويها وموت جبران، حاولت مي الانتحار واتُهمت بالجنون وأُدخلت إلى مصح عقلي في لبنان. ثم استعادت ثقتها بالحياة وعادت إلى القاهرة، حيث توفيت في العام ١٩٤١.

لفتت ميّ انتباه جبران في البدء كناقدة أدبية، غير أنها كانت تعرف أمين الريحاني، ولا يستبعد أن يكون الأخير قد حدّث جبران عنها. وأيًا كان الأمر، فقد أرسل جبران للأديبة الشابة نسخة من روايته «الأجنحة المتكسرة» عقب نشرها في العام ١٩١٢. هكذا بدأت مراسلتهما، لم يلتقيا أبدًا.

بقيت علاقتهما تراسلية مع أنه كان بمقدورهما أن يلتقيا في منتصف الطريق، أي في أوروبا. كان نغم الرسائل كما يمكن توقعه في البدء: كل منهما منارة شامخة في الأدب العربي، وهما يتداولان الأفكار والآراء حول مؤلفاتهما. في العام ١٩١٣ كانت مي مندوبة جبران إلى الحفل التكريمي الذي أُقيم في القاهرة احتفاء بالشاعر اللبناني خليل مطران. أرسل جبران قصيدة بعنوان «شاعر بعلبك» قرأتها مي بالنيابة عنه في الحفل. وفي العام ١٩١٩ عند استئناف المراسلة بعد خمس سنوات من الصمت، كان أسلوب جبران أقرب إلى الغزل. يتحدث عن ابتسامة مي، غير أنه يستخدم في غزله أسلوبًا مواربًا. يناجي مي. يُنبئها بأنه ينتظر رسائلها بفارغ الصبر، وأن الفرحة تغمره حين وصولها، ويحدثها عن المكانة التي تشغلها في روحه الناتجة عن حبهما المشترك للجمال. إنهما روحان شقيقتان منفيتان في هذا العالم من الحزن والألم..

إن جبران الذي يمثل إنتاج أول تعبير مهم عن الروح الرومانسية في الإبداع العربي، كان أيضًا واحدًا من أهم الكتّاب المبدعين في جيله الذين كانوا معنيين بقضايا المجتمع. فالرومانسية العربية في الواقع قد بدأت لديه ولدى الريحاني كحركة إيجابية تنزع إلى تدمير الشرور والعادات البالية في عالمها من أجل بناء ذلك العالم من جديد. لم يكن جبران انهزاميًا، والغابة في كتاباته لم تكن مكان هروب، بل كانت تُستخدم رمزًا لحل مشكلة الاختلاف والصراع والتنافر بين البشر من خلال حب يسع كل شيء. كما أن فلسفته في وحدة الوجود إيجابية، وربما كانت حلاّ لما لديه من صراعات أساسية بوصفه شرقيًا يعيش ويكتب في الغرب. وقد أعطاه ذلك أساسًا لوجود يكون فيه العامل المشترك لإنسانية الفرد كافيًا لمحو كثير من الفروق المحرجة.

إن هذه البداية الإيجابية ذات الوعي الاجتماعي للرومانسية العربية لا تختلف مع بداية الرومانسية في الغرب. فقد بدأت الرومانسية في إنجلترا على أيدي شعراء «موقفهم الأساسي سياسي/ اجتماعي». والقول بأن الرومانسية محض «نمط من الهروب» يسيء إليها كثيرًا. فجبران الذي كان أول رومانسي عربي كبير، كان شديد الالتزام، وإلى درجة الهوس، بالتاريخ والواقع المعاصر. ولم يكن تعبيره عن اهتماماته الاجتماعية يختلف في موقفه الأساسي أو يقلّ إيجابية عن موقف الكلاسيكيين المحدثين المعلن جماهيريًا، بل كان الاختلاف الكبير بينه وبينهم في طريقة التعبير وأسلوب الخطاب، حيث كان جبران الرومانسي كاهن الرؤيا وشاعر الإلهام الحميم.

لقد مزج جبران، بحسب النمط الرومانسي الأمثل، المشكلات الاجتماعية والدين والفلسفة «في نظام واحد عظيم». وقد استهواه مذهب وحدة الوجود لهذا السبب وأيضًا بسبب علاقته بالرومانسية. ذلك أن شعور الانتماء إلى قوة أكبر ذات طاقة مبدعة هو مظهر آخر من مظاهر الرومانسية. ولقد توصل إلى مفهوم الحبّ الأشمل عن طريق الاندماج الصوفي مع الطبيعة. لكن الشيء الجوهري الذي اكتسبه الأدب العربي من تجربة جبران كان ذلك التغير العميق الذي حصل في مفهوم الطبيعة لدى العرب. فاستجابته الفائقة لنداء الطبيعة المتوحدة قد أضفى أعمق الألغاز على كتاباته، وأسبغ كثافة وتوهجًا على أكثر حالاته إغراقًا في الحلم. وهذا ابتعاد واضح عن مفهوم الطبيعة لدى القدماء، (ما عدا بعض التجارب القليلة كتجربة ابن خفاجة الأندلسي) بوصفها ظاهرة خارجية تبعث الرعب أو المتعة الجمالية.

وقد تضافرت نشأة جبران في محيط رائع الجمال الطبيعي، ينطوي على ألغاز وكثافة وعمق وعزلة، إلى جانب تكوينه الروحي الخاص، مع المؤثرات الغربية فيه. ومن جبران فصاعدًا، تغدو الطبيعة والأشياء الطبيعية في الشعر العربي موئلاً يستعين به لا الشعراء الرومانسيون وحدهم، بل الرمزيون وأصحاب الواقعية المحدثة، بعد أن كانت من الأمور التي يندر استخدامها بهذا الأسلوب.

ثم إن تمرّد جبران على المجتمع، ورجال الدين، والتقاليد البالية، والشرور التي ورثتها الأمة، قد أثّر في عقل الجيل الذي كان ينمو في الثلاثينيات وفي أسلوب تفكيره. فقد كان هو والريحاني أول ثائرين حقيقيين في الأدب العربي رفضا ليس مجرد الاعتداءات التي يشنّها العالم الخارجي على عالمهما العربي، بل وأيضًا القيود التي كبلت الأمة العربية من الداخل، ذلك الخمول والتهاون والتخاذل والتقاليد والجهل والركود. وقد كتب جبران «عرائس المروج» (١٩٠٦) و«الأرواح المتمردة» (١٩٠٨) كان يعرض أفكارًا بإمكانها أن تصدم عصرًا أكثر استقرارًا. لكن العرب كانوا قد دخلوا عصر المغامرة وجعلوا أنفسهم عرضة لأفكار تهبّ عليهم من جميع أنحاء العالم.

ولا شكّ في أن تمرد جبران وخصاله العديدة الأخرى قد أسهمت جميعها في تكوين أسلوبه الخاصّ به. وعلينا أن نضيف إلى ذلك كله حقيقة مهمة جدًا هي موهبته الفريدة الخاصة، واعتناقه مُثلاً محددة بعينها وعقيدة معينة يدافع عنها.

كانت هذ المُثل العليا جديدة في سياق الإطار الفكري العربي الحديث. ولكي يعبّر عنها، كان عليه أن يبدع لغته الخاصة وأساليبه ويجب أن يضاف إلى ذلك أنه كان يتمثل بكل ما استطاع من سرعة مواقف وأفكار كثيرة مختلفة من المصادر الغربية والشرقية التي اتصل بها. كانت عبقريته المتوقدة لا تعرف التردّد أو التعثّر، وكانت الكلمات والتعابير والمواقف المختلفة والأجناس الأدبية المتعددة التي طرقها تتناولها يداه بالسحر فتحولها أدبًا.

لقد كان رائدًا موهوبًا وعبقريًا، ورغم الجهود الهائلة التي بذلها رفيقه في الرابطة القلمية ميخائيل نعيمة لانتزاع «الزعامة» منه بعد رحيله، فقد باءت جهود نعيمة بالفشل، لأن جبران كان الأكثر جدارة في تزعّم هذه الحركة الأدبية المهجرية التي ساهمت في نقل الأدب العربي من حالٍ إلى حالٍ.
_______

*الراية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *