التلفزيون والمثقف بين تاجر الوهم وصاحب المشروع


*ليلى بورقعة


«لا يوجد بلد يمكن أن يتطور حقاً ما لم يتم تثقيف مواطنيه»، وفق «نيلسون مانديلا». وهنا تأتي حاجة الوطن إلى المثقف ليلعب دوره في توعية المواطنين وليضطلع بواجبه في إنارة الرأي العام.

فأين هو، اليوم، المثقف التونسي من هذه المهمة السامية والرسالة النبيلة؟

إن كل ثورة، في أي نقطة من الكرة الأرضية، تأتي مبتورة إن لم يعاضدها الفعل الثقافي وتسير عرجاء إن لم يرافقها «عكاز» الثقافة . وإن شكلت الثورة التونسية بطبيعتها استثناء “خارقا للعادة” في تاريخ الثورات فانطلقت يتيمة بلا «أمها» الثقافة، فإنها إلى اليوم لا تزال تتحسس الطريق إلى «ثدي» هذه الأم حتى يشتد عودها ويكتمل نموها على أحسن ما يرام.

وباعتبار الوظيفة التأثيرية للتلفزيون كوسيلة اتصال جماهيرية، تطرح مقاربة الحضور النوعي والكيفي للمثقف في المشهد الإعلامي المرئي نفسها في خضم اختلاط الأوراق وانقلاب الأدوار.

جدية الموقف وميوعة الطرح

كم نحتاج إلى رجّة ثقافية وثورة قيمية حتى ينصلح حال البلاد والعباد؟ وكم يلزمنا من الزمن حتى نستأصل من عقولنا «ورم» التخلف والدوغمائية؟ وهنا يأتي دور الإعلام -المرئي على وجه الخصوص- في إتاحة المنبر ومنح المصدح للعقول النيّرة من أصحاب الكفاءات الفكرية العالية القادرة على التأثير في الرأي العام وتغيير العقليات. ويبدو أن التلفزة التونسية قد انتبهت إلى هذا الدور الاستراتيجي في الفترة الأخيرة فأعادت للثقافة حظها من البرمجة ونصيبها من الفرجة، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، يُبث البرنامج «بيت الخيال» على شاشة الوطنية الأولى في سهرة كل ثلاثاء فيحمل المشاهد في فسحة من الخيال ومسافة من الحلم في رحلة من الصفاء الذهني زادها الإشباع الروحي والإشعاع الفكري. وفي مثل هذا النوع من التعاطي الإعلامي مع المسألة الثقافية تتحقق معادلة ثلاثية الأبعاد ألا وهي احترام المثقف وإفادة المتفرج وإنارة المجتمع.

ولكن في ظل زخم القنوات التلفزية وفي خضم «فوضى» الفضائيات، حادت بعض البرامج عن المسار الصحيح في إيلاء الثقافة مكانتها وإعطاء المثقف قدره. ففي كثير من الأحيان، تكون مشاركة المثقف في البرامج التلفزية من باب «الصدقة الجارية ومد يد “المعروف”. وفي “بلاتو” مثل هذه البرامج على المثقف أن يكون مستعداً لكل شيء ولو كان عرضة للاحتقار والاستهزاء، ولو تم إقحامه في دوامة من المهاترات والترهات والتفاهات تحت يافطة «الجمهور عايز كده»، ولو كان مضطراً للإجابة عن أسئلة «خطيرة» من قبيل : “لو كنت حيواناً فماذا كنت ستختار أن تكون؟”!

ولا شك أن المثقف الحقيقي الذي سقط في «فخ» هذه البرامج فانصرف دون أن يفيد غيره ولا أن يُروّج لفكره، غادر وهو مشمئز من نفسه لاعناً حظه وزمنه الذي قذف به في «أرذل» السخافات !

الثقافة التزام أو لا تكون

كما للمثقف حق على الإعلام والجمهور، حق على المثقف في أن يكون متواضعاً وملتزماً وصاحب رسالة في الحياة… أفلم يقل الشاعر: «ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ.»

وإنّ المثقف الذي لا ينطلق من قضايا عصره وإليها يعود، مهما علا شأنه، لن يكون ابن بيئته ولا قريباً من مجتمعه، وبالتالي سيلفظه الجمهور من قاموسه ولن يقيم له أي اعتبار. فالمطلوب اليوم في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة، هو ذاك المثقف الذي يغوص في الواقع والراهن ليشارك على طريقته وبلغته الخاصة في بناء وطنه والانتقال الديمقراطي والانتصار لقيم الحرية والعدالة الاجتماعية. أما ذاك المثقف المنعزل في برجه العاجي والمحلق في سماوات بعيدة فهو الذي يعكس ثقافة اللاّجدوى والعبث ويكرس لمفهوم النخبوية والفردانية…وبالتالي القطيعة مع الجمهور.

إذاً، ما تحتاجه تونس اليوم هو الحضور القوي لوجود المثقف النقدي، المؤهل لتفكيك خطاب السلطة وفضح الالتفاف على مكاسب الوطن والتمويه على مكامن الصراعات والتناقضات الحقيقية. وباختصار تحتاج «الخضراء»، الآن وهنا، إلى صورة المثقف العضوي في فلسفة الإيطالي “انطونيو غرامشي”، إلى المثقف صاحب مشروع الإصلاح الثقافي والأخلاقي.

إن الفضاء الإعلامي الآن يحتضن الكلّ، ووحده المثقف ذو الخطاب القوي صاحب المشروع البعيد المدى، هو الأجدر بأن يلعب دوره وهو الأصلح للبقاء. ولاشك أن غربال الجمهور سيسقط من حساباته على طول الأيام كل «ففاقيع الهواء».
______

*المغرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *