الأم رفقة


*نزيه أبو نضال

( ثقافات )

سأحدثكم عن مبدعة عظيمة التنوع .. فهي قاصة وروائية وكاتبة دراما وصاحبة مقال أسبوعي وباحثة وناقدة متميزة .. سأحدثكم عن امرأة شديدة التنوع.. فهي معلمة ومديرة مدرسة، وموظفة، وناشطة اجتماعية ورائدة في العديد من الهيئات والأنشطة الثقافية، وهي فوق كل ذلك صديقة وزوجة وربة بيت، ولكن قبل كل هذا التنوع تتقدم دائما رفقة الأم!.
في 12 أيلول 2013، رحلت الأم التي أفوقها عمرا بخمسة عشرة عاما.. رحلت الرفقة الطيبة والنموذج الرائع للعلم والإبداع، والعطاء والتواضع النادر، في زمن الادعاء والتعالي..
ولكن لماذا تستوقفني رفقة الأم ؟ ولماذا قدمت هذا الوصف على ما عداه من مزاياها الكثيرة؟
قبل أن أبدأ سأروي لكم حكاية قصيرة عن طفلة اسمها سلام!


كان ذلك في بيروت في منتصف السبعينيات في بيت صديقي حنا مقبل، وكنا معا أم نضال وزوجته أم ثائر وطفليهما سلام ابنة الخمس سنوات، وثائر ابن السابعة، وكان عنيدا متين البنيان.. فيما أبوه حنا، مثل ابنته سلام، ضئيلا ورقيقا كوردة.
اضطر حنا أن ينهال على ثائر بالضرب.. فلم يرمش أو يبالي، بل إن حنا هو الذي انهار لاهثا فوق الكنبة.. فاندفعت نحوه الطفلة الصغيرة سلام.. احتضنت رأس أبيها بحنان.. استكان الأب في حضن الطفلة.. كنت أرى في المشهد أمامي أما كبيرة تحتضن طفلا صغيرا..كان حنا آنذاك الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب! فاكتشفت، من خلال هذا المشهد أن في داخل كل امرأة أم، ولعل عظمة أي امرأة هو بمدى حجم هذه الأم في داخلها المتعدد، كانت تلك هي رفقة دودين.. وقد نعود في مناسبات أخرى الى موضوع المرأة المتنوعة والرجل الأحادي! وأكتفي هنا بأن أقول إن جوهر اشكالية العلاقة بين الرجل والمرأة هو أن السيد الذكر لا يحتمل رؤية أمراة متعددة.. بل هو يضعها في قالب أحادي من اختراعه، كي يتمكن من السيطرة عليها.. كأن تكون أما فقط وبلا شهوات، أو أختا طاهرة، بلا نزوات أو حبيبة ملائكية في زمن الحب الرومانسي. الخ.. وكانت قصة كفاح رفقة أن تقدم نفسها نموذجا لهذه المرأة؟


عرفت رفقة منذ أوائل التسعينيات خلال مشاركاتنا في مهرجانات المربد ببغداد! كأحد اشكال التضامن مع شعب العراق.. في مواجهة الحصار، وكانت الباصات القديمة وسيلتنا الوحيدة للوصول كي نلتقي مع شعب العراق ومبدعيه، ضد الحصار الأميركي الدموي! رحلة الباص كانت مضنية وتستغرق أحيانا قرابة العشرين ساعة، وخلال الطريق كانت الأم رفقة تنهض لتتفقدنا نحن ابناؤها، وتوزع علينا ما حضّرته في بيتها الكركي المتواضع من سندويشات ومعجنات! وفي بغداد كانت تستحضر ما يشبه ذلك لرحلة العودة، ومعها شيء من الخضار والفواكه!
ولاحقا في اجتماعاتنا في مجلة تايكي كانت حريصة على أن تحضر ومعها فطور الأبناء: خبز وفلافل وحمص وفول.

البدايات

كانت بدايات تعارفنا لقاءاتِ متصلة في منتصف التسعينيات لإنجاز مشاريع دراساتها العليا: في الماجستير 1996، حول توظيف الموروث في الرواية الأردنية من جامعة مؤته، والدكتوراة من نفس الجامعة 2004، حول التقنيات السردية في الرواية النسوية العربية. وقد حضرت وزوجتي كلا المناقشتين في الكرك، وكان التعارف قد تم بينهما في مؤتمر المرأة الرابع، في بكين أيلول 1995، حيث تشاركتا في غرفة واحدة، خلال أعمال المؤتمر، وتواصلت علاقاتنا بعدها إلى أن جاء هادم اللذات ومفرق الجماعات.

بدايات تايكي

التقيت مع القاصة بسمة نسور، عام 2002، ومعها جميلة عمايرة، وكانت بسمة مكلفة بالإشراف على اصدار مجلة تايكي عن أمانة عمان الكبرى. وكنت آنذاك، ولا زلت، متابعا للإبداع النسوي.. فعرضتْ عليّ بسمة المشاركة في عضوية هيئة تحرير المجلة، واستشارتني لتسمية أعضاء آخرين في هيئة التحرير، وبدون تردد نصحت بالتعاون مع رفقة دودين، وهكذا كان، وعملنا معا كفريق واحد، منذ العام 2002 إلى نهاية العام 2012 حين توقفت المجلة.. وخلال ذلك تشاركنا في العديد من الندوات وورشات العمل، خاصة حول الإبداع النسوي.. حيث تكشفت رفقة عن قدرات نظرية نقدية وإدارية وتنفيذية، وتميزت على وجه الخصوص في متابعاتها للنقد النسوي منذ فرجينيا وولف إلى جوليا كريستيفا، وكانت معنية بصورة خاصة بكشف الطابع الذكوري للاستشراق باعتبار الشرق البربري مجرد أنثى شهوانية قابلة للغزو والفتح والاغتصاب، كما تجلى ذلك في كتابات المستشرقين والرحالة ولوحات رساميهم مثل ديفيد روبرتس. فالمشهد، كما تقول رفقة، أنثوي إذن، والمستعِمر مغامر، والجغرافيا الأرض/ الأم واضحة بسهولة لغرب يرغب في شرق مؤنث، والثنائية واضحة الحدين، ثمة بطل غربي فاعل مغامر وثمة أرض شرقية مؤنثة، وما على هذا البطل إلا البحث عن مشاريع تحديد وتجذير أنموذج الرجولة الإمبريالية بين قصص المغامرة في أقاليم الإمبراطورية.
وفي معالجتها لظاهرة الاستشراق ونقيضها توقفت رفقة دودين خاصة عند إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية”. ثم في (الرد) الذكوري الشرقي على الغرب باعتباره أنثى، من خلال نموذج “موسم الهجرة الى الشمال” للروائي السوداني الطيب صالح.
في كتابات رفقة دودين الإبداعية علاقة حميمة مع التراث الثقافي للأمة، ومع التراث المحكي للجماهير الشعبية، خاصة الجنوبية.. مما منح كتاباتها درجة عالية من الحرارة والمصداقية والرهافة.. هنا يصبح الإبداع وثيقة عن الحاضر، ورسالة تحريض باتجاه المستقبل.
ولقد أتيح لي الدخول الى العالم الإبداعي الداخلي لرفقة من خلال تحويل عدد من رواياتها وقصصها إلى أعمال درامية في العديد من البرامج الإذاعية تجدونها في هامش هذه الورقة.
وفي كل ما كتبت رفقة ومارست ظلت على الدوام منحازة إلى الأمة موحدة، وقي القلب منها فلسطين حرة. كما ظلت منحازة إلى جماهير الفقراء، ومعهم إلى اليسار، بحثا عن المساواة والعدالة، لجموع المستعبدين والمستعبدات من السلاطين الذكور! ولعل ما يكشف جوهر شخصيتها قصةُ صوت عن تلك الأمية التي تمردت على أوامر الزوج بانتخاب ابن عمة وانتخبت آخر أصلح من عشيرتها كان عليها أن تعلن اسم من ستنتخب فهي أمية فتجرأت ودفعت ثمن خيارها الطلاق، فخرجت من المقر الانتخابي وهي تقسم بأنها ستتعلم كي تنتخب بالقلم السري لا بالصوت الكاشف. إنها البطولة في حدود الممكن هكذا كانت سيرة رفقة، بل حتى حين منعت روايتها الفتى العربي لم تشهر ذاتها كشهيدة من ضحايا القمع بل صمتت.. ربما لتواصل دورا كبيرا ومتعددا في العديد من المواقع! بأقل قدر من الضجيج وبأكبر طاقة من العمل. 
رحلت رفقة وفي قلبها غصة.. فقد كانت تتوق بملء روحها أن تشغل موقع أستاذة جامعية، وكانت تستحقه بجدارة، ولكنها رحلت دون ذلك.. رحلت وفي قلوب محبيها غصةُ كبيرة.. فهذه الأم الجميلة لا تتكرر، كما لا يتكرر هذا النموذج الإستثنائي من الإبداع والعطاء.. وحيث ترافق في جدل جميل: عقلُ مفكر ناقد وقلبُ فنان مبدع.. فكان أن حفرت في قلوبنا، خلال حياتها القصيرة، بصمةً تستعصي على النسيان! 
وبعد، رفقة الأم أغمضت عينيها عن ظلمات الحياة! ربما بحثا عن ضياء آخر في مكان آخر أو زمن يأتي! ذلك أن الحياة القاسية والبشر القساة لم يكونوا رحماء أو عادلون معها. ولكننا بجمعتنا اليوم، حول ذكراها، ما يؤكد تلك الحقيقة البسيطة والعظيمة: يعيش البعض ليموت، ويموت البعض ليحيا!! 
—-
• نزيه أبو نضال: من أجل التوثيق لمن سيدرس رفقة دودين في حقل تحويل أعمالها الإبداعية االقصصية والروائية إلى دراما إذاعية وتلفزيونية يمكن مراجعة برامج:
حكايات أردنية: مجدور العربان 12/2/1998، كتب وكتاب، 22/1/1999 وأدرك شهرزاد الصباح، 15/6/2000، للقصة بقية، 2012، حفيدات شهرزاد، صوت، رمضان، 2013، للقصة بقية، سيرة الفتى العربي في أميركا، 9/4/2013 ، عودة شهرزاد، 2014، للحكاية أكثر من نهاية: حكاية “صوت دراما تلفزيونية قبد التنفيذ. 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *