*محمد معتصم
خاص ( ثقافات ) بالاتفاق مع مجلة (الفجيرة الثقافية)
تميّزت الرواية الأردنية على غرار مثيلاتها في العالم العربي بالمزاوجة بين الاشتغال على المكونات البنائية التي تعيد للخطاب حيويته، وتجعل منه نقطة تمايز بين أنماط مختلفة من المحكيات السردية المتعايشة والمتجاورة في المرحلة الثقافية والإبداعية المعاصرة، والمزاوجة بينها وبين الاشتغال على القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تُثقل كاهل الدول العربية في المرحلة التاريخية المعاصرة، حيث تغيرت كثير من المنظورات السياسية والفكرية والثقافية، وفعّلت بعض القيم التي تم تهميشها سابقاً، وهوت بعض القيم التي كانت تُعتبر من القيم العليا المحافظة على الهوية والكينونة العربية.
رواية “بابنوس” للكاتبة “سميحة خريس” لا تشذُ عن هذه القاعدة، فتقدم الكاتبة رؤيتها الخاصة في بناء الخطاب الروائي اعتماداً على بناء الشخصيات الروائية الرئيسية والفاعلة في تنمية المحكيات السردية، لكن من منظور المحكي الذاتي وسرد وقائع الشخصية، من موقع الأنا، أي أن الشخصية الروائية تكون مسؤولة بدرجة مهمة في تقديم صورتها إلى القارئ، دون تدخل سافر من السارد الخارجي المهيمن في السرد التقليدي والعالم بكل خفايا وأسرار الشخصيات الروائية التي يقدمها من زاوية نظر غالباً ما تكون تعليمية وقيمية، كما هو حال السير الفكرية والذاتية والشعبية حيث الأنا متضخمة وتقوم بأدوار “بطولية” مميزة.
وتقدم الكاتبة كذلك رأيها في القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية التي تعرفها المرحلة والقضايا المستجدة التي ولّدتها الصراعات الكبرى والتحولات والانعطافات السياسية المصاحبة لما عرفه ويعرفه العالم عامة، والعالمين العربي والإسلامي خاصة من تغيير في موازين القوى وفي محاولة تقسيم دول كبرى إلى دويلات صغرى وبالتالي اختفاء بعضها ونشوء أو ظهور بعضها الآخر، من قبيل انهيار الأيديولوجيات الكبرى وصورتها الفعلية والحية وانهيار الدول “الطوليطارية” (الشمولية) والكبرى (الإمبراطوريات)، وصعود فكر الانفصال وإحياء المجموعات المقهورة والأعراق المطمورة للأقليات العرقية والفكرية والسياسية.
سؤال الهوية والمصير
من الطبيعي أن تكون الرواية العربية المعاصرة مهتمة بالقضايا التي تشغل بال المواطن المثقف والعادي، وأن تكون مهتمة أيضاً بالنظريات التي ترسم للعالم العربي والعالم صورته الجديدة (المقترحة)، وهذا الاهتمام يمكن حصره تحت مسمى أكبر كالآتي:” سؤال الهوية وسؤال المصير”. ومن الطبيعي أيضاً، بل من الواجب أن تقدم الرواية المعاصرة رؤيتها الجمالية، لأن الرواية في نهاية الأمر ليست غير “اقتراحات فكرية تقدم في قوالب فنية إبداعية وجمالية”، أي أنها فنٌ؛ وغاية الفن خلق الجمال والتأثير في النفس والفكر وتحريك المشاعر لخلق قارئ فاعل ومتفاعل مع محيطه، كما تطرح “وجهة نظر” كاتبها وَفْقَ معادلة فنية إبداعية جمالية.
رواية “بابنوس” للكاتبة سميحة خريس والصادرة في طبعتها الأولى هذا العام 2014م تقدم للقارئ موضوعاً حساساً وفي غاية الأهمية، ولا يتجلى للقارئ ذلك إلا في الفصلين الأخيرين من الرواية، أي أن السارد في الرواية له ميزة إيجابية والمتمثلة في “الصبر” والتأني في بناء فكرته، فلا يصدم القارئ منذ الوهلة الأولى بقضية سياسية وأخلاقية وإنسانية، لأن الكاتبة لا تقدم رواية “أطروحة” تنخرط في سياق “التحريض” على تبني فكرة إيديولوجية، بل تقدم رواية فنية ذات قيمة جمالية تحترم أولا التحديد “الأجناسي” الذي تقدمه للقارئ، أي أنها تشتغل ضمن السرد الروائي ولا تقدم دراسة اجتماعية أو تحليلاً “أنثروبولوجياً” لأنماط عيش فئة مهمشة في إفريقيا، اختارت العيش بعيدا عن العالم المضطرب بقضاياه والمنخرط في صراع محموم من أجل السلطة والهيمنة وحب المال، وإن كانت هذه الأمور موجودة ضمن السرد الروائي وتعد واحدة من واجهاته الأساسية.
يمكن اعتبار الخطاب الروائي في رواية “بابَنُوس” للكاتبة سميحة خريس سلسلة من المحكيات الشخصية والذاتية حيث يتقدم السرد في طبقات متوازية، السارد فيها ذاته الشخصية الروائية الرئيسية، لكن الخطاب الروائي لا يتكون من الشخصيات الروائية الرئيسية فحسب، بل هناك شخصيات ثانوية وشخصيات أخرى مجرد أصوات أو علامات أصغر لا دور لها وإن ورد ذكرها ضمنياً دون أن يفرد لها فضاء خاص لسرد خصوصياتها المميزة، وهذا التنوع في الشخصية الروائية وفي وظائفها السردية يتيح للدارس الناقد إمكانية البحث عن أشكال اشتغال الخطاب الروائي وبناء المحكيات وتنامي السرد.
ينبغي التمييز ها هنا بين “المحكي الذاتي” و”المحكي السير ذاتي” و”التخييل الذاتي”، نجد المحكي السير ذاتي في كتابة السيرة الذاتية بصورتها التقليدية، حيث السارد هو ذاته الشخصية الروائية يقدم معلومات عن شخصه، لكن دون خلق علاقات متواشجة (حبكة) مع شخصيات روائية أخرى “تشاركه” الفضاء الروائي ذاته وتبني معه القصة ذاتها، لأن الشخصية الروائية في المحكي السير ذاتي محورية وتظهر بمظهر “البطل” خالي من العيوب والمنزّه عن الفعال الدنيا، فهو النموذج النقي المحتذى والقدوة التي يتعلم منها القارئ ويهتدي بهديها، بينما الشخصية الروائية في المحكي الذاتي لا تقوم بدور البطولة ولا تعلم أحدا مباشرة، لأنها مكون من مكونات النسيج القصصي، وتقوم فقط بما يمكنه سد ثغرات السرد.
الفصول السبعة الأولى من رواية “بَابَنوس”، سٌميّت بأسماء الشخصيات الرئيسية التي ستقدم نفسها أو يقدمها غيرها من الشخصيات بتقنيات محددة سنقف عندها، وهي كالآتي: الرسالة (الحكامة)، وبابنوس، وآدمو، وست النفر، وحوَّا، والسِّر، وبا سالم.
لكل شخصية روائية وظيفة في السرد، وصفات مميزة، وقصة خاصة. بهذه الخصوصيات أمكننا التمييز بين “المحكي الذاتي” و”المحكي السير ذاتي” و”التخييل الذاتي”.
كيف ينبني المحكي الذاتي في رواية سميحة خريس؟
هناك تقنيات سردية تم اعتمادها، وأهمها:
1- تقديم الشخصية الروائية ذاتها بما تعرفه عن ذاتها، وبما يخفى عن الشخصيات الأخرى، خاصة الأسرار كما هي حال شخصية “حوَّا” وشخصية “با سالم” مثلاً، أو المشاعر التي تعتمل في ذهن ونفس الشخصية الروائية ولا يمكن الإفصاح عنها، كما يصعب على السارد الذي اختار أن تكون معرفته بالشخصيات الروائية أقل من معرفتها بذاتها، ويصعب على الشخصيات المجاورة إدراك حقيقة مشاعر وأفكار الشخصية المحورية (شخصية الفصل الروائي)، باستثناء حب وتعلق “با سالم” بشخص “الحكامة” دون القدرة على الإفصاح عن ذلك الشعور، وإدراك الحكامة لمشاعره، لكنها بدورها تكتمت على الحقيقة لمكانتها داخل مجتمع “الخَرْبقة”.
ومن المحكي الذاتي المحدد للشخصية على لسان “الحَكَّامَةِ”، المقتطف الآتي، يقول:” يسمونني “الحكامة”، ويناديني الصغار الشُّفَّعُ بما ينادون به جدّاتهم: “حبوبة”. فبياض ذوائبي وثقل السنوات التي سبقتني وتبعتني يخولاننّي لأكون جدة الجميع، وإن فشل سكان الحلة في تحديد عمري بالأرقام. أيضاً؛ لا تستطيع ذاكرتي الدقيقة، المفصلة، ولا حكمتي التي وهبني إياها القدير وربيتها على الخبرات ومرور الزمن أن تحدد عمري، كما لو أني وُلدت هكذا منذ البدء؛ بشرية كهلة ضربت التجاعيد وجهها، شعر أبيض خشن أكرت مكوم فوق الرأس كما العمامة، وجسد نحيل بعصب شديد لم تذهب أعباء الحياة ولا الوقت الذي يسرق العمر بقوته وبأسه.” ص (9-10).
يُهيمن “ضمير المتكلم” على المقتطف السردي، فيتراجع السارد العالم أكثر من الشخصية الروائية لحساب السارد المحدود المعرفة بالذات، ودون إضفاء الأفعال والصفات المتخيلة، كما في “التخييل الذاتي”.
2- تقديم جوانب من الشخصية الروائية بالمقارنة بينها وبين غيرها من الشخصيات الروائية المجاورة، والمقارنة تقنية فاعلة في بناء المحكي الذاتي في رواية “بابنوس”. تعدُّ المقارنة الوجه الآخر للتشبيه، ففي التشبيه تكون الموازنة بين المشبه والمشبه به قائمة على الإيجاب، لأن المشبه به يقوي ويرفع مقام المشبه، بينما المقارنة لا يشترط فيها ذلك، وقد يكون مدارها قائماً على التمييز والاختلاف.. مثال ذلك (مقتطف): “تمسك كف “سيف” بحنان وهي تعدل حروفه فوق الورق، لا تفعل مثل ذلك معي؛ فقد جئتها وقد استقامت حروفي، وكان من السهل تعلم جدول الضرب وأنا الضليع في حبال الشيخ، كما تعلمت العربية بيسر لحفظي القرآن، وإن ظل “أبَّكر” يعالج ما أسماه ارتخاء في تلفظي العربية، لم أحرز تقدما في درس الجغرافيا كما “بابَنوس”؛ صاحبة العقل المسكون بأكوان بعيدة خيالية. أنا تكفيني حدود الخَرْبَقَةِ والغابة القريبة.” ص (87)
في هذا المجتزأ تبرز المقارنة كأداة فعالة في التعريف بالشخصية الروائية “آدمو” ضمن “المحكي الذاتي” الذي لا يهمل فيه السارد/الشخصية دور ومكانة الشخصيات الرئيسية الأخرى المجاورة له في الفضاء الروائي، وتدل على المقارنة العبارات “المضغوطة” حيث يستحضر “آدمو” في بناء صورته/ المحكي الذاتي الخاص به الشخصيات المجاورة “سيف” و”بابنوس” وضمنيا يستحضر شخصية “فاطمة” المعلمة، أما العبارات التي وضعنا تحتها خطا مميِّزًا فهي محكي ذاتي صريح استعملت فيه الأدوات (الضمائر النحوية) التي تعيِّنُ الشخصية مثل (أَنَا) و(التاء المتحركة).
3- تقديم الشخصية من الخارج حيث يسترجع السارد وظيفته السردية التقليدية، في صيغة المحكي الغيري، ويمثل المقتطف الآتي صورة على ذلك (مقتطف):” “داود” عربي يهودي هاجرت عائلته من العراق إلى أرض الميعاد، وقد كبر في “أورشليم” على المقامات الحزينة التي يجود بها جده كل مساء بكلمات عربية تثير الشجن، كما أبكته آهات جدته وحكاياتها العاطفية وذكرياتها عن أرض الرافدين، استمع إلى خلافات جديه ووالده الذي اختار ارتداء الزي العسكري…” ص (261).
وقد يكون السارد داخليا، أي شخصية روائية مجاورة كما فعل “آدمو” عندما كان يقارن بينه وبين “بابنوس” لكنه في الوقت ذاته يضيء جوانب من شخصيتها، كما في المقطع المجتزأ سلفاً.
هذه التقنيات التي وقفنا عندها تميز “المحكي الذاتي” عن “المحكي السير ذاتي” وعن “التخييل الذاتي” أولاً، وثانياً فهي توسّع السرد عبر توسيع وتنويع أبعاد “الوصف”، كما أنها تميّز الخطاب الروائي على مستوى الصيغة. فالمحكي الذاتي يختلف عن غيره من المحكيات كونه يجمع خصائصها أولا، ثم إنه يقدم صيغته الجديدة بحيث يحافظ على السرد الشخصي دون حاجة إلى “التخييل الأسطوري والملحمي” الذي يبالغ في إعلاء التجربة الذاتية وجعلها نموذجاً يحتذى وتجربة فريدة من نوعها، ويحول بالتالي الشخصية الروائية إلى بطل “ملحمي” يخوض التجربة بدلَ غيره من “العبيد” الذين يلتصقون بالأرض، بينما هو يجمع بين الأرضي والسماوي كغيره من “انصاف الآلهة” المميزين، ودون الحاجة إلى تضخيم “أنا” الشخصية كما في السيرة الذاتية حيث يتم التركيز أكثر على الجوانب الإيجابية للذات وإغفال الجوانب السلبية، وهنا أيضا، تكون الشخصية منزهة ومجردة وإن كانت “أقرب” إلى الواقع والحقيقة كما يقدمها السارد العالم بكل شيء، والسارد المماثل للشخصية والكاتب الموضوعي. إن المحكي الملحمي والأسطوري يلتقي مع المحكي السير ذاتي في نقطة “إعلاء” الذات وتوليد قيم عليا بعينها من أجل نصرة قيم جمالية واجتماعية وفكرية وسياسية على حساب قيم مناقضة أخرى ومختلفة.
ويختلف المحكي الذاتي عن “التخييل الذاتي” كون الأخير يقوم بالتنكر للجانب الواقعي والحقيقي الذي تركز عليه المحكيات الملحمية والأسطورية والمحكيات السير ذاتية (والغيرية والشعبية)، وهو بذلك يقترب أكثر من المحكي الذاتي، لكن التركيز على شخصية واحدة في التخييل الذاتي يبقي المحكي ضمن زمرة المحكيات السير ذاتية المتجانسة، عكس المحكي الذاتي الذي تتفاعل ضمنه شخصيات متعددة وكل واحدة منها تنال حظها من العناية وتمنح وظيفة سردية كما سنبين في رواية “بابَنوس” لسميحة خريس.
تحمل رواية سميحة خريس عنواناً لها اسم شخصية “بابَنوس” الروائية، وهذا الاختيار في حد ذاته يقوم “بتبئير” الشخصية ويجعلها أهم من باقي الشخصيات، ولذلك سَنُسَائِلُ هذه القضية انطلاقا من وضعية ووظيفة الشخصية الروائية في مجموع النسيج النصي السردي، لماذا التركيز على “بابنوس” دون غيرها من الشخصيات التي لعبت أدواراً (وظائف) هامة في بناء الفضاء الروائي، مثال ذلك شخصية “الرسالة أو الحكامة” التي اختارت مكان الإقامة وبناء “مجتمع” “الْخَرْبَقَةِ” بعيدا عن الصراعات السياسية والعرقية والعقائدية تفاديا للتشريد والتقتيل وامتهان وإهانة كرامة كل عضو من أعضاء “الخربقة” كما هي الحال عليه في دارفور وباقي أطراف بلاد السودان، كما أن الحكامة دائمة الحضور وتخترق جل المحكيات الذاتية، لأنها أم بالتبني لكل من “ست النفر” وابنتها “بابنوس”، ولـ”حوَّا” وابنها “آدمو”، وهي من سمح لـ”با سالم” بالبقاء بـ”الخربقة” وتأسيس أسرة وتنمية مشروعه التجاري، وهي التي تقضي وتفتي في كل ما جد على “الخربقة” وأهلها، وهي من تصدى لـ”الجنجويد” وقاومت الشيخوخة والضعف للبقاء بالمجتمع “المملكة” التي أسستها وأقامت دعائمها ورصت أسسها ورفعت سواريها وأعمدتها.
وبالعودة إلى القضية الإنسانية والسياسية والأخلاقية التي أفصحت عنها الكاتبة في الفصل الأخير تحديداً، والمتمثلة في “تجارة الرقيق”، أي استغلال بعض الأشخاص العاملين في بعثات تطوعية إنسانية وطبية للأوضاع المضطربة للبلدان التي تعرف القلاقل والتقاتل والصراع الطائفي أو السياسي من أجل السلطة، لتقوم بالمتاجرة في كل شيء، حتى البشر. هذه القضية التي احتفظت بها الكاتبة إلى آخر الرواية انتقلت بالخطاب الروائي من مستوى القضايا الجمالية والفنية، إلى مستوى القضايا الخارج نصية ذات الأبعاد الاجتماعية والفكرية والسياسية والحضارية.. يقول (المقتطف) التالي:” اشتد الصقيع وطال الوقت، والفرنسيون يتبادلون الأوراق اللازمة مستعجلين انتهاء المهمة، كان الأزواج الذين تبنوا الصغار قد دفعوا سلفاً ما يقارب خمسمائة ألف يورو في صفقة جماعية لقاء تلك اللحظة، وحدهما “آدمو” و”بابَنوس” لم تستكمل إجراءات تسليمهما لأي جهة، وتركا للمتطوع “ألكسندر” يفكر في مصير مختلف لهما؛ وضع يدر عليه ربحا معقولا.” ص (252)
يبدو أن الكاتبة ركزت على “بابَنوس” لأن الفكرة الأساس في الخطاب الروائي ترجع إلى السؤالين المركزيين اللذين أشرنا إليهما منذ بداية هذه الدراسة، وهما: سؤال الهوية وسؤال المصير. فما مصير “بابَنوس” في الرواية؟
لقد كان مصير “بابنوس” أسوأ .. انتهت “الحكامة” مدرجة بدمائها وقد قذفها الجنود “الجنجويد” من أعلى الشاحنة أرضاً، لتبقى إلى جوار الموتى وتقوم بدفنهم، ولكي تموت بالأرض التي اختارتها موطناً جديداً لأهل “الخربقة”، وانتهى الرجال “السر” و”با سالم” إلى الموت الجماعي رمياً بالرصاص، وتم التخلص منهم، ورُحِّلَتِ النساء إلى المجهول، بينما “آدمو” و”بابنوس” كان مصيرهما التهجير إلى فرنسا، في مشروع صفقة تجارية لا إنسانية تبرز وحشية بعض المرتزقة الذين يستغلون كل شيء للاغتناء وتحت لافتات ناصعة البياض “أنقذوا أطفال دارفور” و”تبنوا أطفال دارفور”، واختارت منهم الكاتبة اسمين لرجل وامرأة، هما: “ألكسندر” و”أولمب”.
انتهى “آدمو” بين يدي “داود” الذي يحترف تجارة الأجساد ويغتني على حساب الشواذ جنسياً، قبل أن تتاح له الفرصة فيغادر المكان ويفلت من مصيره البائس الذي زجه فيه جشع “ألكسندر” و”أولمب”، يقول النص:” … عندها مال “داود” نحوها برأسه، وهمس في أذنها يخبرها أنه بتساهله وعدم انتباهه لتحذيرها عند اقتناء الفتى المسلم الأسود ذي العينين الزرقاوين “آدمو”، فقده. اجتاز الفتى شقته في شارع “سانت ديني” مندفعاً لشراء الحلوى التي تعرض على الرصيف في رمضان، واختفى تماما، لعله ولج أحد المساجد الثلاثة الواقعة على رصيف “فريبورج” المقابل.” ص (272)
وهكذا سيفلت “آدمو” الفتى الأسود ذي العينين الزرقاوين ابن “حوَّا” اللبوءة المتمردة من مصير بائس مدنس، لاحقه منذ الطفولة لاختلافه، ولخلاسيته، ولم ينجده غير “الحكامة” و”أبَّكر” وصديقه “شديد كادوك”، ثم اصطياده أفعى الصل العملاقة. إذن، مصير “آدمو” كان أفضل حيث انتهى إلى حاو يراقص الأفاعي في ساحة كنيسة “نوتردام” ص (274)، بينما كان مصير “بابَنوس” الأسوأ في الرواية، لأنها لم تستطع الإفلات من قبضة اليد الداعرة المدربة على الإخضاع والإذلال، يد “أوسني” الحديدية التي حولت مصير الإنسانة الحرة والمتعلمة والعفيفة إلى مصير مجهول مفرغ ومنفتح على الهاوية. وفي هذا المقتطف المميز سرده بالاختزال والتلخيص تجمع الكاتبة بين مصائر متعددة، مصير “آدمو” ومصير “ألكسندر” ومصير “بابنوس” التي اختارت اسمها عنواناً دالاً على فكرة الرواية وغايتها..
يقول المقتطف:” … لحظتها؛ كان فتى أسود بعيون زرقاء تميل إلى الخضرة كأنه ساحر قادم من الحكايات، يلعِّب الأفاعي برفقة بعض الغجر في ساحة كنيسة “نوتردام” في عرض لافت. وكان “ألكسندر” المتطوع في العمل الإنساني، عضو الجمعية العالمية، يقاد على درجات سلم الطائرة في مطار “ابيش” التشادي مكبل الكفين محاطا بالجند وقد قبض عليه وانكشف أمره. أما “أوسني”، فقد ابتسمت بدلال وزهو والمهندس يُسقط الغلالات عن النافذتين الزجاجيتين في افتتاح محل الدعارة، أضيء ضوء حاد مثل الألعاب النارية، وانكشفت البنتان وراء الزجاج تقفان في وضعية جانبية تداريان عورتيهما، بينما تعرضان صدريهما على الجمهور السعيد، بدتا لوحتين من الفتنة الجمال. وقفت “بابنوس” كأنها كنز إفريقي، عارية تماما، بعينين ذاهلتين جراء إبرة التخدير، سوداء مغوية، بُطن قفصها الزجاجي من خلفها بغلالات “ساتان” حريري عاجي اللون، تجلت ضوءا أسود فج من البياض… ” ص (274-275)
ما الأدوار الوظائفية التي يلعبها مكون الشخصية الروائية في “المحكي الذاتي” الذي يمكن أن نطلق عليه كذلك للتمييز “المحكي الشخصي” – وإن كان المعنى ها هنا أقل تحديداً، لأنه سيخرج بالمحكي الذاتي من زمرة الكتابة عن الذات – وفي بناء المعنى والدلالة السردية؟
يعدُّ مكون الشخصية الروائية ركناً أساسياً في بناء عالم متخيل مماثل أو موازي للواقع الخارجي في جلّ الأعمال الروائية، باستثناء بعض الروايات التجريبية والرواية الجديدة التي ركزت على مكونات أخرى سواء من داخل السرد أو من خارجه، مثل تحقيق فكرة جمالية أو فلسفية أو لسانية. وفي رواية “بابَنوس” لسميحة خريس نجد الشخصية الروائية تقوم بوظائف متعددة، لكنها في الوقت ذاته تخضع هي ذاتها لتصور مسبقٍ يجعلها متعددة ومتنوعة، كالآتي:
1- الأبعاد الشخصية: وهي التي يتم فيها تقديم الشخصية الروائية وتعريفها والوقوف عند أهم صفاتها النوعية وأفعالها المميزة التي بوأتها مكانة مهمة في السرد ومنحتها إمكانية التحول من مجرد صوت أو علامة نحوية وفاعل لساني إلى أحد المقومات الأساسية في بناء الخطاب الروائي وفي تنمية القصة (الحكاية، الإطار أو غيرها)، وقد تم تقديم الشخصيات المحورية التي وضعت عنوانا للفصول السبعة في رواية “بابَنوس” بطرائق متنوعة، منها:
أ- التعريف الذاتي: حيث تقوم الشخصية الروائية بوظيفة السارد الشخصية الذي يعرف ذاته أحسن وأكثر من السارد الخارجي (التقليدي) غير المميز الذي يقف عند حدود الأبعاد الظاهرة والعام، ولا يتجاوزها غالبا إلى الأبعاد الذاتية (الأحلام، والأفكار الدفينة، والنفسية، والذهنية، والأسرار)، مثال ذلك، تقديم “با سالم” في خطاب “اعترافي” أو “مونولوج” داخلي لحكاية زواجه الأول من “كادي” الذي لم يدم أكثر من سنة ليصبح أرملَ، وتقديمه تفاصيل عن رحلته من اليمن ليستقر بالسودان وتحديداً بالخَرْبَقَةِ.أو تقديم “حَوَّا” لشخصها في “مونولوج” داخلي كذلك وفي صيغة سرد “الاعتراف” والبوح بالأسرار التي لا تعرفها غير الشخصية المحورية المتحدِّثة عن ذاتها.
خلال تقدم السرد في رواية “بابَنوس” ظلّت المعلومات الخاصة بشخصية “حَوَّا” غامضة أو لنقل ناقصة، على سبيل المثال لم تسأل الحكامة عنها ولم تقدَّم للقارئ إلا بعض “طباعها” وأهمها الغضب والانفعال وردود الأفعال العنيفة والسريعة، ثم رفضها إرضاع ابنها “آدمو” بعد ولادته وإهمالها إياه، ليحول إلى حضن الحكَّامة ابناً بالتبني وأخاً غير شقيق لـ”بابَنوس”، ويتميز عن غيره بمرضعته “ترترة” وهي أَتانٌ ظل حضورها طاغيا حتى النهاية المأساوية للخربقة وأهلها.
لولا اعتراف “حَوَّا” لما تمكن القارئ من معرفة حكايتها الشخصية التي بقيت سراً من الأسرار، لم يكشف عنها السرد، لأن السارد في الرواية غير مهيمن ولا عالم بكل شيء، وحكايتها كشفت عن تشرد الأسر بعد الحرب الأهلية وانتشار المجاعة في السودان، وكشفت عن مأساة الإنسان في مثل هذه المآسي حيث يصير قلب الأب أشد صلابة من الصخر، ويصبح موت الطفل مدعاة للفرح لأنه سيخفف من المسؤولية، وبالتالي يسترك حصته من الطعام لمن هم أكبر وأقوى منه، هكذا تسترجع “حوَّا” مأساة طفولتها بَعْدَ، تقول: “زمن بعيد كأنه لم يكن أبداً، محوته من وعيي ولم أحدّث به مخلوقاً .. بَعُدَ وانقطعَ حتى نسيت أسماء شقيقاتي اللواتي رحلن كالعنزات النافقة، وتلك التي أضعتها.. نسيت أبي تماماً، وانقلبت حياتي حين تفاوضت أمي مع لاعب كرة القدم من فريق التضامن.” ص (133). وتروي مسترجعةً أيضا مأساتها العاطفية والإنسانية في الكنسية التي آوتها بعد رحيل أمها بلا عودة، وبعد معاشرة الأب “إيراكس” لها، وقد ظنّته زوجاً مخلصاً وطيباً يحنو عليها ويحبها، حتى برزت بطنها فانقلب عليها ليتحول من راع إلى محتكر وتحولت هي من زوجة إلى خادمة. هكذا تقدم شخصية “حَوَّا” جواباً على سؤال حيّر أهل الخَرْبَقَةِ وأثار فضولهم: لماذا يحمل “آدمو” الأسود البشرة عينين زرقاوين؟ هل هو ابن حرام؟ جواب “حَوَّا” كان يقينياً، إنه ابنها من الأب الشاب “إيراكس” الذي جاءت به الكنسية إلى البلدة لتنصير المسلمين واستغلال حالات الاضطراب السياسي والمجاعة والمتشرد.
ككل الشخصيات الروائية تظل هذه المحكيات الذاتية خاصة بالشخصية الروائية تتكفل بنقلها إلى القارئ، ولا يمكن أن تنوب عنها في ذلك الشخصيات الروائية الأخرى الموازية أو السارد الخارجي، لأنها أسرار موقوفة على الشخصية، وهذه ميزة المحكي الذاتي، وأساساً ميزة “التعريف بالذات.
ب- التعريف الغيري: حيث تقوم الشخصيات الموازية بإضاءة جوانب معتمة ومجهولة من الشخصية الروائية المتحدَّثِ عنها في المتواليات السردية المخصصة لها، وهي وجهة نظر الآخر، ومثال ذلك، تقديم “با سالم” للحكامة عندما التقاها أول مرة فيروي تصوره الأولي ومشاعره الشخصية التي انتابته هكذا:” كانت في مقتبل الكهولة وأنا ما زلت طريَّ العود غضَّ المشاعر، تتحدث بثقة العارف وشفقة أم وحسم مقتدر؛ يجتاح صوتها القلب كريح عاصفة…” ص (206)، أو كما قدم “آدمو” جوانب من شخصية “بابَنوس”، لم نكن لنعرفها من دونه، فيقول:” ترى “بابَنوس” النار بعد انطفاء جذوتها، تدعي أن الرماد حين يخمد يظل في الأفق شررا يقدح في الهواء، بلون حيزاً خفياً بإضاءة غامضة هي نفسها التي تبزغ في الصدر أو أعماق القلب.
لـ”بابَنوس” أفكار مجنونة تطير في الهواء، الحكَّامة تقول ما يشابه هذه الأفكار ولكن بطريقة عقلانية جدا.” . ص (88-89)
بهذه الطريقة يتم بناء مكون الشخصية الروائية، عبر التعريف الشخصي بالذات المميز باليقين، وعبر التعريف الغيري المميز بالوصف والمقارنة والاستدراك والإضاءة وترميم فلول الحكاية الشخصية أو المحكي الذاتي.
2- الوظائف الاجتماعية والمعرفية: في رواية “بابَنوس” أدت الشخصيات الروائية وظائف اجتماعية ومعرفية مهمة ومتنوعة في آن واحد، منها أن الشخصيات الروائية قدمت صوراً مختلفة عن العادات والتقاليد الخاصة بالبلدان التي تنحدر منها، وأبرز هذه المظاهر المقاطع السردية التي يصف فيها “با سالم” عرس زفافه والاستعدادات الأولية والمصاحبة له، وذلك في “اليمن”، وهي معرفة “أنثروبولوجية” يقدمها السارد الشخصية كإضافة نوعية على السرد، أي أنها “وقفة” مميزة وإضافية تجعل أفق السرد منفتحاً ولا ينحصر في بناء الأفعال والوقائع وتنمية السرد وتوسيع أوصاف الشخصيات الروائية، ومنه:” داست “كادي” الكبش الذبيح في باب الدار ودخلت، وفيما انشغلت النسوة بغسل قدميها، رقص الرجال في ليلة السمرة، وقرعت الطبول التي لا تقرع إلا لزفاف أو طلب الفزعة…” ص (200)
وقد قدَّم “با سالم” نظرة على الجيش المصري في اليمن، وعن الوحدة بين اليمينين الشقيقين، كما قدّمت “حوَّا” صورة قاتمة عن الصراع السياسي والتقاتل من أجل السلطة والمجاعة والتشرد وآثار كل ذلك على المواطن الأعزل الذي لا يجد مظلة سياسية أو عرقية أو قوة مالية أو بشرية يحتمي تحتها ليستمر في الحياة، فيصبح ورقة في مهب الريح، أو أي شيء في كف عفريت بلا هوية وبلا مصير محدد، بل يصبح أفقاً مفتوحاً على المجهول. وقدمت “الحكَّامة” صورة على المجتمعات الصغرى التي تبحث عن الطمأنينة والاستقرار بعيداً عن أطماع المرتزقة وتجار الحروب وأعداء الإنسانية، لكن هيهات هيهات، كما بينت أن الإنسان سيظل دائماً تحت سيطرة الخرافة والأساطير وسيبقى ضعيفاً ومنتهكاً في غياب التعليم وتطوير الوعي، وهو ما ظلت تنادي به وتشدد عليه في “مملكتها” الصغيرة حتى سقوطها في أيدي “الجنجويد” وتجار الرقيق باسم الغوث الإنساني.
ومن أهم الوظائف المعرفية اللسانية التي حفل بها الخطاب الروائي في رواية “بابَنوس” لسميحة خريس، المحكيات اللغوية (اللهجات المحلية) للسودان، وقد قدمتها في صيغة الحوارات الثنائية أو المقاطع السردية أو الأمثال المحكية، وذيّلتها بشروح أو تعليقات بالعربية الفصحى لتعميم المعرفة، تماشياً مع الوظائف الاجتماعية والمعرفية للخطاب الروائي عامة، وقد تكفل بها هنا المؤلف الموضوعي، لأن الشروح في الهوامش لا يمكن اعتبارها تدخلا من السارد أو من الشخصيات بأية حال، فالمنطق لا يقبل ذلك، لأنها شروح خارج نصية.
3- الوظائف السردية: لأن ما سلف يتحدث عن هذه الوظائف بتفصيل فإنني سأشير إليها مختزلة، وأهم ملمح سردي يتمثل في تحديد أبعاد السرد الذاتي التي تُبين من خلال رواية “بابَنوس” أنه ليس خطاباً واحداً، بل هو عدد من الخطابات كـ “السرد السير ذاتي” و”التخييل الذاتي” و”المحكي الشخصي” و”المحكي الذاتي” الذي أدرجنا الخطاب الروائي لـ “بابَنوس” ضمنه، وهناك أيضاً السرد الموازي الذي اختارته الكاتبة لتقديم سرد “ديمقراطي” تكون فيه الشخصية الروائية سارداً مستقلاً بذاته، واعياً بحدود مهامه ووظائفه في بناء حكاية شخصية من خلال الاعتراف والبوح بالأسرار والإفصاح عن المواقف السياسية والفكرية أو الإعلان عن آراء شخصية ووجهات نظر خاصة في قضايا متنوعة الأبعاد. وتعدد السرود أدى إلى تعدد المحكيات الذاتية وسمح للسرد بالتوسع وانفتاح آفاقه.
إذن، لم يكن هدف الرواية بناء “محكي ذاتي” قائم على سرد الذات وعلى مقارنة مصيرها بمصائر الشخصيات الأخرى المجاورة في الحكاية الإطار – حكاية الخربقة وأهلها- وقائم على التشبيه والتماثل في الوجود فحسب، بل كان هدفها قائماً أساساً على التنبيه على قضايا إنسانية وأخلاقية وسياسية وفكرية، ثم اجتماعية تنتجها الأوضاع الشاذة المضطربة للبلدان المتناحرة داخلياً من أجل الهيمنة على السلطة وخيرات البلاد، فحيثما نشبت الحرب الأهلية أو الطائفية والعقائدية، ساد الظلم وامتهن الإنسان ومرّغت كرامته وتحول من سيدٍ إلى عبد في يد النخّاس الجديد الذي يتاجر في كل شيء محتمياً بالفساد والاضطراب وانتشار الخوف والفرقة.
رواية “بابَنوس”لبنة أخرى في صرح الرواية العربية المعاصرة بالأردن، تنخرط في تجديد السرد العربي، وتقترح وجهات نظر وتبلور كما سمحت لنا بذلك مفهوماً جديداً مختلفاً عن المحكيات الذاتية التي لاقت اهتماما كبيرا في المرحلة الحالية من قبل الكاتبات والكتاب، لما يتيحه هذا النمط من الصيغ السردية للذات من الانخراط في القضايا المعاصرة التي تثير الفكر وتحرك اهتمام الإنسان العربي المعاصر الذي يمر بمرحلة قلقة يتجدد فيها عنده سؤالي الهوية والمصير، بعدما عرفته البلاد العربية من قلاقل واضطرابات باء جُلّها بالفشل، وخلّف بعده كثيراً من الويلات، وذهب ضحيته عدد غير قليل من الأرواح البريئة.
هي رواية منخرطة في كشف خفايا الإنسان المعاصر ومحاولة للاقتراب من الهموم الوطنية والفكرية والإنسانية، لكن دون إغفال القضايا الجمالية والفنية لأن الرواية في نهاية الأمر ليست غير طاب فني وإبداعي يروم خلق الجمال في ذهن القارئ وبعث الفرح أو الحزن في نفسه.
ناقد من المغرب