اقترن الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي في مطلع حياته بالمخرجة التسجيلية «عطيات الأبنودي»، التي عاشت خلالها معه سنوات خصوبته الشعرية، وعاينت عن قرب طموحاته الحياتية ونضجه الفني، منذ الستينات إلى أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وإذا كانت عطيات الأبنودي قد اختفت من كل سرادقات العزاء التي أقامتها الصحف والمجلات لتأبين الشاعر الكبير، فإنها ستظل حاضرة بكتابها «أيام السفر»، الذي سجلت فيه جانباً من مذكراتها الشخصية.
هنا بعض الخطابات التي كتبها الأبنودي إلى زوجته الأولى، وفيها نرى الشاعر وجهاً لوجه أمام مرآة نفسه، فعندما كتب تلك الرسائل في أوائل سبعينات القرن الماضي، لم يكن يخطر بباله أن هذه الخطابات الشخصية ستكون متاحة للقراء، من خلال نشرها في مذكرات «عطيات الأبنودي» مع ملاحظة أنه كان يوقع رسائله بطرق مختلفة منها «عمران الفلاح» وربما يكون في ذلك هروباً من الرقابة على الخطابات، وتراوحت لغة الرسائل بين العامية والفصحى، لكنها في النهاية تنقل لنا صورة صادقة عن حياة «الأبنودي» في أوائل سبعينات القرن الماضي.
الرسالة الأولى
عطيات
لم أكن أريد أن أكتب لك هذه الأيام.. ولكن خطابك حرك بي كل دوافع الكتابة، أنت في تجربة صعبة وقاسية وقلبي معك، ولكن ما حيلتنا إذا كانت هذه الطريقة الوحيدة لكي يشق الإنسان البسيط طريقه نحو نفسه ونحو أن يكون، تحملي.. الجميع هنا يتوقع منك النجاح، والعالم لن يعطيك شيئاً.. لأنه إذا كان بيت الإنسان فاقد القدرة على العطاء فما بالك بالأغراب، ولكننا جميعاً نعلم أنك قادرة على شق أصعب أنواع الصخور، نحن جميعاً خلفك.
طبعاً حالتي المالية سيئة إن رصيدك في البنك 4 جنيهات فقط.. المهم التليفون في البيت.. والبيت بذلك دبت فيه الحياة.. والقاهرة كلها سمعت حديثك في راديو لندن وإذاعة القارة (قسم الاستماع الخارجي سجلوه) حابعت لك رواية عبد الفتاح الجمل «الخوف»، التي أشرفت على طباعتها قبل سفرك أول ما يكون في جيبي خمسين قرش، ولو إن بعد كارثة الأربع جنيهات في حسابك اللي فاضل في البنك، الدنيا أصبحت آخر مسخرة.
أنا مش حزين ومش سعيد، جميع الأصدقاء بيهدوكي التحيات وضحكوا على «أوضة الفيران» ودي تقريباً كل حاجة، أنا باكتب لك بسرعة وبطريقة بايخة، لكن تأكدي إني حاكتب لك كويس قريب، ومضطر أسيب باقي الصفحة فاضية أحسن من العك الفاضي.
أبنودي
الرسالة الثانية
عطيات
الكتابة ليكي محتاجة قدر كبير جداً من استقرار اليقين والنفس وهدوء البال، إن في رسالتك صفاءً عجيباً، تطابق الإنسان مع النفس والعودة للطفولة،كان كل ما يهمنا أن تكوني هناك، وآدي إنتي هناك، وبتتكلمي عن كوخ خشبي وصديقات غربة، وعز الدين نجيب والرصيف، وعن داخل لندن وخارجها، وتعودين مرة أخرى تدعوني للاهتمام بصحتي ونفسي وصفاء قلبي، من أين أحصل أنا المختلف على هذا الصفاء، وكيف لي أن أعرف طريقه، لن نعود إلى الحديث في هذا الموضوع المكرر، مرة أخرى (أنت اليقين وأنا التجربة).
وأخيراً انقشعت سحب الوحشة واختفت العفاريت من البيت، والإحساس بالضعف والوحدة من دونك، ورسالتك أدت هذا على خير وجه، إنه خطاب جيد، قوي، فيه قوة انزراعك في مكانك الجديد، ونافذة المستقبل الآخر، الشمس الخاصة، والطريق الخاص، ولكن كما يقول العم ناظم حكمت: إن أجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد، وأجمل الكلمات هي التي لم نقلها بعد.
لست مرتبكاً بعدك، ولكنني حائر، فقد قطعوا حرارة التليفون وكادوا يقطعون عني المياه، بخلاف خطابات الضرائب المتلاحقة، وكان لابد من مواجهة كل هذه الأحداث، وأخيراً رن التليفون.
القاهرة كما هي، أنا كما أنا، كسرت فازة عند «شويكار» زوجة راجي بدون قصد وبهدلتني آخر بهدلة، واليوم كله أقضيه في دكانة الخال عبد الرازق في التحرير،
البنك أبلغني منذ خمسة أيام أنه أرسل لك مرتب نوفمبر، حسين مهران تايه، طبعاً الشقة موغلة في الوحشة وأحاول أحل المشكلة بأي شكل، هيه، أيام وتفوت يا عطا.
في الحقيقة مش عارف أكتب لك، طبعاً والدتك بتجيني كل يوم جمعة، وده كتير عليا، وغير كده كتير عليها، واديني بأحاول أغسل الطبق اللي باكل فيه، والبيت زفت بعد أحمد البواب ما طردوه وجابوا بواب لا يخدم إلا شقة صاحب البيت فقط، ولم أعطه راتباً حتى الآن، ملابسي نظيفة في حدود الممكن، المهم أن الأيام تسير، ولا أفكر كثيراً في السفر إلى تونس الآن، مصطفى درويش بخير وأبلغته رأيك في فيلم البرتقالة الآلية ومنتظر حديثك وبيستعجب، سهرت ليلة أمس عند الصديق الصحفي محمود عوض، وأخته زينب تسلم عليكي جداً، الغدا اليوم عند مصطفى درويش، الندوات والسفر للناس وإلقاء الشعر مستمر.
الصعيد كويس وأهلك كويسين، عموماً أرسل لك هذه الرسالة السريعة فقط للاطمئنان على أن كل شيء يسير ولأني لو قررت الكتابة لك فعلاً فلن أرسل، وإذاً فلتأت الكتابة لك تلقائية، حافظي على صحتك، ولتتفائلي حيث إن الغد في أسوأ حالاته سوف يكون أجمل من النهارده.
عمران الفلاح
القاهرة:15/10/1972
الرسالة الثالثة
عطيات صباح الفل
أرسلت لك بالأمس أول رسالة بالقلم الرصاص، والآن جاءتك هذه الدعوة لأحد المهرجانات فأرسلتها مع موضوع عنك في «جريدة العمال» أنا بخير، وهادئ، وأعمل، لست مرتبكاً، الجميع يحبونني، وصلتني اليوم رسالة من إسماعيل فهد إسماعيل من الكويت يريد مني اسمي الرسمي والبيانات لتجهيز دعوتي إلى الكويت، كما وصلني خطاب المنصف بن مراد من تونس وخطابات من العراق وأرد عليها بانتظام، لم تغيبي كثيراً، الأشياء على ما يرام ولا ينقصها إلا وقع أقدامك، والبنك قال إنه أرسل لك مرتبك، أفيديني، ليس مهماً أن أكمل الورقة، فأنا أريد إرسالها بسرعة، وبعد ذلك أكتب لك رسالة طويلة.
لك الحب والمودة
عبد الرحمن
الرسالة الرابعة
زوجتي
من بيتنا الهادئ الرقيق، بيتنا المفتوح الممتلئ ضوءاً أكتب.
أستمع إلى «كونشيرتو» البيانو نمرة 2 لرحمانينوف لقد اكتشفته بين الأسطوانات في البيت، ومنذ ثلاث ليال وهو دائر، شيء مبهج حقاً، القلم بيدي، وسيجارة كليوباترا مصرية، يا إنجليزية، التليفون يحترم اللحظة بصمته.
عدت من ندوة شعرية في أسيوط أول أمس، كان شيئاً عامراً، جميل رمضان في هذه الناحية، وجئت لأكتب لك، غداً في مسطرد، وبعد غد في الإسماعيلية، أتحرك، فيجري الدم، ولكن يحاصرني إحساس باللا جدوى، الموت يشب فيّ مع كل نبات، يظل مع نجوم الليل، تغفو النجوم ولا يغفو، والحزن عار يملأ الفضاء بلحمه البض الفظيع.
آه يا عطيات، أكل الأسد في السيرك محمد الحلو مدربه، حادث فظيع، ورمزي، آسف، ولكنها مصر، لا أكتب شيئاً، ليس إحساساً عبثياً، وإنما أريد أن أحرك قلمي في اتجاه آخر، قلمي مأزوم، لست بطيئاً، ولم أصل بعد لمشارف كهولة، ولكنني كالذي ينتظر معجزة، الفارق، أني أبحث عنها لأحققها، وهل هي في السفر، هل هي في أبنود؟ هي موجودة، لكن متى نبدأ البحث الجدي؟
من أنا؟ أنا إنسان يتمنى لك الغنى، وأن تغني باحتضان عالم ثري حر متسع مليء ينطح صخر الشواطئ القاسية الكاذبة، نحن نحتاج إلى جهاز استقبال آخر، نحتاج إلى أرشيف آخر، عمر مضى، آخر، هل فات الأوان، أعتقد لا، نحن نستطيع أن نصنع تجربة من نوع آخر، إنسانية وغنية وبسيطة وصادقة، نحن لم نعبر عن تواضعنا وإحساسنا ببساطة الغلب الشديد، وشرف العجز، كل ما أراه بدونك، يمر صوراً، كيف حدث هذا وبسبب إنسانيتي أم عظمتك، لا أدري، فقط اكتشفت أني أنا كويس، لا أريد أن أحكي لك عن الأصدقاء، فهم بخير ويدبون على الأرض.
عطيات
أراك أحياناً تحت المطر والبرد، على فكرة نسيتي الشمسية، أتخيلك، فتقتربي من قلبي بسرعة شديدة، ليست المسألة قضية بعد أو ابتعاد، وإنما هذا الفراغ الشامل، لم أتعلم حتى الآن سوى التعامل مع المكوجي وتغيير أنبوبة البوتاجاز قبل انتهائها بأسبوع، وغسل الأطباق والأكواب، الغبار بدأ يغطي الأشياء، أمك أصبحت كبيرة في السن بخلاف ان الدنيا رمضان، إن مصر تعيش الآن رمضان حقيقياً، بكل ما يعنيه الشهر الكريم من قدومه، الإذاعة، التلفزيون، المجلات، كرنفال مدهش.
المخلص
عبد الرحمن
القاهرة لندن
_________
*الخليج الثقافي
*الخليج الثقافي