*ممدوح فرّاج النّابي
في حياة مايك غولد (1893- 1967) الصاخبة بالمعاناة والتحديات من أجل إثبات الذَّات ثمّة تحوّل كان بمثابة العامل المُهمّ والمؤِّثر في كافةِ المفاهيم التي تبناها الكاتب والتي انعكستْ على رؤيته في هذه الرواية «يهود بلا مال» ترجمة عمر صالح علماني والصَّادرة عن دار طوى، والتي يَصْعُب تصنيفها بأنها رواية خالصة، لاختلاط الواقعي والذاتي فيها بالمتخيّل، التحوّل الذي كان له أثره الكبير على شخصية الكاتب هو أنّه في عام 1914 وأثناء التحاقه بجامعة هارفارد لدراسة الصحـافة بعد أن التحق بجامعة نيويورك للدراسة المسائية لمدة عامين، كان يتفرج على تظاهرة لرجال ونساء عاطلين من العمل في ساحة «يونيون» وتَلَقَّى فجأة ضربات هراوة من رجال الشُّرطة، ومنذ ذلك الحين تحوّل مايكل غولد وهو الاسم الذي استبدله باسمه اليهودي إتزويك إسحق غارنيش خوفاً من الملاحقات الأمنية للثوّار بعد أن كان معروفاً باسم يهودي خالص أو مُتخفِّفاً من يهودية الاسم إلى مناضل راديكالي صارم.
الرواية تنحو منحى السيرة الذاتية للكاتب ومعاناة أسرته منذ هرب أبيه من رومانيا بعد قصة زواج رفضها إلى أميركا حالماً بأن يحقّق ما حقّقه ابن خاله ويصير واحداً من أغنياء أميركا، فيعمل في مِهن محتفلة، لكن يتعرض لخيانة من ابن خاله الذي سرقه وأخذ المشغل لنفسه، وهي الحادثة التي ظلّت مُسيطرة على تفكيره، وظلّ يحلم بتوفير الثلاثمئة دولار ليكون له مشغله الخاص، وهو ما لم يتحقّق، حتى عمله كعامل دهان إلى أن يسقطَ من السقالة فيقع طريح الفراش لمدة عام كامل وما أن يصرَّ على الخروج للعمل حتى يُصاب برهاب السِّقالة، وفي أثناء مرضه تقوم زوجته (كاتي) بالعمل في أحد المطاعم وتتكفل بالمصاريف اللازمة وأيضاً تقاوم تهديدات صاحب البيت الذي رفض إجراء التعديلات المطلوبة حتى ترغمه بقوة حجتها ووقوفها في مواجهته بتحريض السُّكان بعـدم دفـع الإيجـار حتـى يـقوم بما عليـه من إصلاحات تستوجبها العمارة. أما مايك فيبيع الصحف في الشارع لإعانة عائلته، إلى أن تتعرض الأسرة لانتكاسة أخرى، بموت أستر الأخت الصغرى لمايك بعد أن دهستها عجلات العربة الثقيلة، والتي كانت هي الأخرى تشرف عــلى تدبـيـر شــؤون المنزل حين تــخــرج والدتــها إلى العمل في المطعم. ومع هذا الخيط السيري الذي يتتبع الأسرة بخاصة الأب عندما كان في رومانيا منذ مولده وطقوس الزواج الغريبة التي ربطته وهو طفل بميرام وهي عادة يهودية يتم ربط الطفل بالطفلة وهما صغار، إلى جمع المال له للهجرة إلى أميركا والصدمة التي لقيها خاصة بعدما رأى ابن خاله بائساً وشاحباً عكس الصور التي يرسلها مع النقود لعائلته. وهو يرتدي «بدلة أنيقة وياقة بيضاء كالأطباء وحذاءً غالياً وقبعة مستديرة سوداء يسمونها قبعة الديربي» (109). فالرِّواية في جانبها الآخر والمتخفي خلف هذا الخيط السيري هي صرخة احتجاج ضد حقوق العمال والمهمشين المنهوبة من الرأسمالية البشعة التي استغل أصحابها (نموذجا زكريا كوهين وباروتش عولدفارب) العُمّال في إدارة أعمالهم حتى صاروا كالعبيد من دون الحصول على حقوقهم، فالرواية تكشف الواقع المزري للعمال وعلاقة العمال بأصحاب العمل، وكيف تتحوّل إلى علاقة استعباد واستغلال، فرئيس العمل صاحب المطعم السيد رونزر الذي عملت عنده الأم يمارس سطوته ونفوذه على العمّال وما أن تكتشف الأم حاجته إلى عملها في مصنعه حتى تُمارس الأم كاتي هي الأخرى ابتزازاً عليه وإن كانْ ابتزازها محموداً، حيث تدافع عن حقوق العمال.
في الحقيقة على رغم أن أحداث الرواية تدور في أميركا وتتحدّث عن عوالم المشردين والفقراء من المهاجرين وكيفية استغلالهم في تجارة وأعمال غير مشروعة مِن قبل مَنْ يتسيّد، أو في الدعاية الانتخابية، إلا أن الأحداث وطبيعة الأدوار تشير إلى دلالة واحدة وخطيرة في عالم المهمشين أنه عالم واحد لا فرق بين هذا العالم الذي عبّر عنه منصور الصويم في رائعته «ذاكرة شرير» عن مهمشي السودان أو ما عبر عنه مكاوي سعيد في روايته «تغريدة البجعة» عن هذا العالم والأطفال المشردين في مصر، وكأن وجوه الفقراء تتآلف في كافة البقاع.
________
*الحياة