“عوالم متداخلة” .. شهادة على العصر


*آمال الديب


( ثقافات ) 
هذا الكتاب “شهادة على العصر”، كتبها شاهد من أهله. أحداث هذا العصر متداخلة؛ أحداث العالم تغلف أحداث مصر، والفئتان من الأحداث تغلِّفان معًا أحداث حياة الكاتب/ الشاهد، من هنا جاء عنوان الكتاب: “عوالم متداخلة”.
الكتاب ليس يوميات بشكلها المتعارف عليه، وإنما هو قراءة للواقع الخارجي أكثر منها رصدًا لتفاصيل خاصة، إيمانًا من كاتبها أن العلماء وأصحاب الرسائل جزء من دورهم أن يكتبوا التاريخ الاجتماعي للفترة التي يحيون بها. وبدأ الدكتور سويف تدوين تلك اليوميات غير الدورية في نوفمبر 1954، وحتى يناير 2014، بدأها كمذكرات خاصة أولاً، واختار لها عنوانًا مبدئيًا “مذكرات علمية لباحث ناشئ”، حيث بدأ الدكتور سويف حياته العملية باهتمامين أحدهما في علم النفس العام، والآخر في فلسفة الجمال، لكنه لم يقم بنشرها كاملة، وإنما أول تاريخ اختار أن يبدأ به 18 يوليو 1981، أول يوم له في سن الثامنة والخمسين.
الدكتور مصطفى سويف هو أستاذ علم نفس مصري بكلية الآداب جامعة القاهرة. له العديد من المؤلفات والدراسات في مجال علم النفس. شغل منصب رئيس الجمعية المصرية للدراسات النفسية عامي 1970 و1971، وهو مؤسس أكاديمية الفنون المصرية وأول رئيس لها.
وأول ما بدأ منه هو طموحه في إنشاء قسم علم نفس طبي في طب عين شمس. كما أعلن عن أحد مشروعاته الكبرى بتجميع بيانات عن تعاطى المخدرات بين الطلبة المصريين بما يسمح بإجراء تحليل trends.

ويبدو من أولى الصفحات أن الدكتور سويف شخص منظم جدًّا، وطموح جدًا على طول المدى، وإن كان يتسرب إليه أحيانًا بعض القلق مما يستقبل: “يبدو أن الشيخوخة بالمعنى السيكولوجي لا تبدأ ببداية عمر معين، ولكن بوقوع أحداث معينة، وربما أصبح ارتباطها بالعمر الزمني محتمًا عندما يقهرنا ضعف الأعضاء والأنسجة.”
ويقف في يومياته على أحداث مهمة على المستوى الدولي، والإقليمي، والمحلي.
ومن أهم الأحداث التي يمكن الاطلاع عليها بشكل أو بآخر من بين سطور اليوميات غزو العراق للكويت وحتى رد أمريكا على العراق وموقفها مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. 
ومن أكثر ما يلفت النظر في تلك اليوميات أنها لا تحتوي على معلومات شخصية عن الدكتور سويف وعائلته إلا في النادر، وتكاد تكون مواقف أقرب إلى العمومية منها إلى الخصوصية.
فالجانب النفسي لديه والكتمان الشديد لحالات مرضاه وإن من باب التعجب من حالة أو أكثر على الأوراق شبه معدوم إلا في الحديث عن مشاعر مرضاه الإيجابية نحوه في قليل من المناسبات.
لم يكن الدكتور سويف ذلك الرجل الذي يقبل بالصمت على الخطأ، وكان له موقف إيجابي واضح لدرجة استقالته من بعض ما أسند إليه لمجرد أنه اكتشف أن وجوده لن يكون فاعلاً، كاستقالته من الاتحاد الدولي للصحة النفسية، واستقالته من عضوية المجالس القومية المتخصصة.
يقول الدكتور سويف: “يبدو لي أننا (العالم، ودول العالم الثالث بوجه خاص) مقبلون على مرحلة تاريخية سيشتد فيها بأس قوى ثلاث: الإعلام، والمخابرات، والمؤسسة الدينية، وستدار أحوال الدنيا بناءً على ما تراه هذه المؤسسات الثلاث صوابًا، وما تراه خطأ، وسوف ينطوي ذلك على أعلى درجات القهر لمن يحاول التشبُّث بمقتضيات الحرية والإبداع والعدل، وسوف تستمر هذه الحقبة لبضعة عقود تالية.”
نبوءة الدكتور سويف يوم 31/12/1996 تتحقق في الفترة من 2010: 2014!! فالإعلام والمخابرات والمؤسسات الدينية بالفعل صارت القوى الفاعلة الحقيقية في مقدَّرات الأمور ليس على المستوى المحلي فقط، وإنما على المستوى الدولي.
قرر الدكتور سويف أن يكتب يومياته الخاصة جنبًا إلى جنب تلك اليوميات: “ويرد إلى ذهني أحيانًا الحل الآتي: أن أبدأ فعلاً في الكتابة، وأثناء السير قد يظهر الحل المناسب لمشكلة النشر، فإذا متُّ قبل الانتهاء من الكتابة فلتكن هذه إحدى المسئوليات التي أتركها لتلاميذي وأبنائي ليتصرفوا كما يرون. أما عن مشكلة الوقت فربما اختفت لمجرد أن المشروع سيبدأ جنبًا إلى جنب مع المشروعات الجارية فعلاً.” لكنه تراجع عن ذلك ربما لضيق الوقت، أو لأن تلك اليوميات الأقرب إلى العموم منها إلى الخصوص قد شغلته أكثر، ولأن لها هدفًا مستقبليًّا هو أن تكون مرجعًا مهمًّا للتاريخ الاجتماعي في تلك الفترة.
ومن أهم قناعات الدكتور سويف التي تتبدَّى في تلك اليوميات بجزأيها “وأذاعت شبكة CBS أن المسؤول الأول عن الإرهاب في العالم هو الولايات المتحدة الأمريكية بما فعلته في أفغانستان لمقاومة الغزو السوفييتي في أواخر الثمانينيات، ذلك أن وكالة المخابرات المركزية أنفقت أربعة مليارات من الدولارات على تدريب وتسليح المقاومة من الأفغان ومن انضم إليهم من العرب الذين سموا بعد ذلك بالأفغان العرب، فلما انسحب السوفييت من أفغانستان انسحبت المخابرات المركزية من هناك (سنة 1989) تاركة وراءها أعدادًا كبيرة ممن تم تدريبهم تدريبًا عالي الكفاءة على جميع أنواع الإرهاب وتاركة وراءها كذلك كمًّا هائلاً من السلاح.”
فالإرهاب الذي تدَّعي أمريكا أنها تبذل ما تبذل من جهد للقضاء عليه هي صانعه الأساسي ومن هيَّأ له بيئة خصبة للانتشار والتوغُّل على مستوى العالم بأكمله.

وتظل يوميات الدكتور سويف تستشرف المستقبل، ففي عام 2000 كتب: “وافق مجلس الشعب في بداية هذا الأسبوع على مد العمل بقانون الطوارئ لمدة ثلاث سنوات أخرى. وكان هذا القانون قد بدأ العمل به في أواخر حكم السادات، أي منذ 19 سنة. وبمقتضى هذا القانون يمكن القبض على أي شخص وإبقاؤه رهن الاعتقال دون محاكمة، كما يمكن إحالة أي شخص إلى المحاكمة أمام المحاكم العسكرية.. هكذا تكون الديمقراطية في مصر! 19 سنة متواصلة من الحكم تحت قانون الطوارئ. وما خفي كان أعظم”.
وبتواضع العلماء يدون ملحوظة عن علم النفس العيادي: “في هذه الأيام أراجع باستمتاع شديد بروفات كتابي الأخير المعنون “مشكلات منهجية في بحوث علم النفس العيادي”، ويرجع هذا الاستمتاع أساسًا إلى أنني أقدم فيه للقارئ (من الدارسين المتخصصين) علمًا من صنعنا نحن أنا وتلاميذي المزاملين لي في بحوث المخدرات، علمًا أصيلاً غير منقول عن مرجع أجنبي.”
فهذا العلم هو المسؤول عن نشأته، بمعاونة تلامذته في نفس المجال.
ومن اللافت للنظر في تلك اليوميات أن الدكتور سويف توقَّف عنها تمامًا منذ 2006، وحتى 2013: “بعد ذلك داهمني المرض، واستمرت الصحة معتلة لبضع سنوات قضيتها بين المستشفى (قصر العيني الفرنساوي) والتمريض في البيت، ومنذ سنة تقريبًا بدأت أستعيد بعضًا من عافيتي، فأمكنني العودة للتدريس، وللجلوس إلى المكتب، وأزمع الآن استئناف تسجيل هذه اليوميات.”
يقول الدكتور سويف يوم بلوغه العام التاسع والثمانين يوم 17/7/2013: ” أكملتُ أمس 89 عامًا.
واليوم أبدأ العام التسعين.
الانطباع العام عندي أنني راضٍ عن مسيرتي على امتداد هذا العمر، ولو عاد الزمن بي إلى نقطة البداية فسأختار المسيرة نفسها، في خطواتها الكبرى على الأقل. ربما أضع لمسة هنا ولمسة هناك على سبيل التعديل، لكن التوجه العام يبقى كما هو.”
وتتبدَّى خلاصة تجربة الدكتور سويف على مدى حياته في تلك الفقرة: “عرفت أشخاصًا، واكتسبت صداقات، وأتاح لي العمر المديد أن أنظر فيها نظرة مجهرية، فأسقطت ما أسقطت عن اقتناع، واحتفظت بما احتفظت به عن اعتزاز. ربما ساعدني على ذلك خصلة من خصالي الطبيعية وهي الاكتفاء الذاتي.”

بيانات الكتاب:
عنوان الكتاب: عوالم متداخلة (يوميات في الشأن العام والشأن الخاص)
المؤلف: أ. د. مصطفى سويف
مقاس الكتاب: 14× 20، ج1: 556 صفحة، ج2: 556 صفحة.
جهة النشر: المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة
رقم الإيداع: ج1: 4160/ 2014
ج2: 14163/ 2014
الترقيم الدولي: ج1: 978- 977- 718- 760- 2
ج2: 978- 977- 718- 760- 2
تاريخ الصدور: سبتمبر 2014

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *