«إسرائيل» تسرق الماضي


*عمران القيسي

في‮ ‬حرب يونيو/حزيران سنة ‮‬1967،‮ ‬لم نخسر أرضاً‮ ‬عربية جديدة أضيفت على الأرض الفلسطينية التي‮ ‬سبق وخسرناها عام ‬1948، ‬بل خسرنا كل شيءٍ‮ ‬يخصّ‮ ‬ الماضي‮ ‬والحاضر والمستقبل‮. ‬فصرنا عراة حتى من أنفسنا،‮ ‬ومن ميراثنا‮، لذلك‮ استطاع واحد من مستوى‮ «‬موشي‮ ‬دايان‮» ‬الذي‮ ‬انتهى باكراً‮ ‬من دحر العرب جميعهم،‮ ‬أن‮ ‬ينصرف إلى ما نملك من ميراث،‮ ‬فيسلبه من متاحفنا،‮ ‬أو من تحت طبقات آثارنا المنتشرة في‮ ‬كل الأرجاء،‮ فلا‮ ‬غرابة أن‮ ‬يسرق ما تكتنزه آثار صيدا وصور والجولان والأردن وفلسطين والضفة الغربية والقدس وغزة‮.‬

قائد عسكري‮ ‬يسخر مجاميع من جيشه الغازي،‮ ‬لكي‮ ‬تسلب له كل ما تستطيع من آثار،‮ ‬لأنه كهاوٍ‮ ‬وغاوٍ‮ ‬للقطع الأثرية،‮ ‬كان‮ ‬يسعى إلى تحويل منزله إلى متحف فيه كل ما حوته الأراضي‮ ‬العربية من‮ (‬لقى‮) ‬تأريخية نادرة‮.‬
لكن من قال إن التأريخ لا‮ ‬يشكل إدانة للزيف،‮ ‬وللحاضر الذي‮ ‬يدعي‮ ‬الانتماء الحضاري‮.‬ لهذا السبب وحده،‮ ‬وربما طمعاً‮ ‬في‮ ‬المال أيضاً،‮ ‬باع موشي‮ ‬دايان أغلب الآثار التي‮ ‬سرقها،‮ ‬إلى مؤسسات وأفراد في‮ ‬الامريكيتين،‮ ‬معتقداً‮ ‬أنه بذلك‮ ‬يحقق عدة أهداف دفعة واحدة،‮ ‬أو لها حتماً‮ ‬الثراء الشخصي‮ ‬الذي‮ ‬كان هاجسه طوال حياته،‮ ‬وهذا ما أكدته ابنته‮ «‬يائيل دايان‮» ‬عندما كتبت عن أبيها‮ (‬السيرة الناقصة‮)‬،‮ ‬أو كما وصفته أيضاً‮ (‬غولدامائير‮) ‬رئيسة الوزراء في‮ ‬مذكراتها عن قادة «إسرائيل‮».‬
الهدف الثاني،‮ ‬وهذا ما تسعى «إسرائيل» إلى تأكيده دائماً،‮ ‬بأن فلسطين وما‮ ‬يحيط بها هي‮ ‬أرض بلا حضارة ولا إنسان،‮ ‬وإن «إسرائيل» جاءت لتزرع فيها بذرة الحضارة عبر إنسانها اليهودي‮.‬
لهذا تعمل «إسرائيل» دائماً‮ ‬على تعريتنا نحن العرب من ماضينا‮. ‬ولهذا السبب عينه،‮ ‬كان لها الدور الأبرز في‮ ‬سرقة وتدمير متحف الآثار العراقي‮ ‬الكبير،‮ ‬إذ تعاملت مع الميراث الأكادي‮ ‬مثلاً‮ ‬عبر السرقة،‮ ‬ونقله لأنه ‮ ‬يخص أبناء‮ «‬اسحاق‮» ‬وحدهم،‮ ‬فيما دمرت الإرث البابلي‮ ‬إنفاذاً‮ ‬لنص في‮ ‬الإصحاح الحادي‮ ‬عشر من العهد القديم،‮ ‬الذي‮ ‬وعد أهل بابل بتدمير ميراثهم،‮ ‬وسبي‮ ‬نسائهم،‮ ‬وذبح أطفالهم‮. لقد كانت سرقة موشي‮ ‬دايان الموصوفة لهذه الآثار التي‮ ‬لا تقدّر بثمن،‮ ‬تحت مراقبة بعض الحريصين على ميراث أمتهم‮، ‬وكانت عملية الرصد والمتابعة قد توصلت إلى أن أغلب هذه الآثار صارت بحوزة‮ «‬إرفين برنشتاين‮». وبما أن لكل شخص سعره وثمنه في‮ ‬عالم لصوص وتجار الآثار،‮ ‬فقد تقدمت كل من جمعية سعادة للثقافة،‮ ‬وجمعية الإنماء الثقافي‮ ‬والاجتماعي‮ (‬إنما‮) ‬واطراف أخرى،‮ ‬إلى شراء أغلب هذه الآثار،‮ ‬ونقلها فوراً‮ ‬إلى لبنان‮.‬
كانت عملية إدخال الآثار إلى لبنان عملية معقدة ومتعبة،‮ ‬ولكن الأضواء التي‮ ‬سيتم تسليطها على هذه الآثار عبر لجنة شكلت من أجلها،‮ ‬ستكون هي‮ ‬الحدث الأبرز‮.‬
فالاستعدادات تجري‮ ‬منذ الآن،‮ ‬لإصدار الكتاب الأجمل والأعمق الذي‮ ‬فيه كل ما‮ ‬يحيط بهذه الآثار‮.‬ صوراً‮ ‬وكشوفات تاريخية،‮ ‬وسوف‮ ‬يعقد مؤتمر خاص بهذه الآثار حين سيتمّ‮ ‬عرضها في‮ أحد الأماكن الخاصة في بيروت‮.‬
أما المناسبة فهي‮ ‬ليست استرجاع ما سبق وسرق منا فحسب،‮ ‬بل إلقاء المزيد من الأضواء على ما‮ ‬يجري‮ ‬حالياً‮ ‬في‮ ‬أكثر من مكان في‮ ‬شمال العراق،‮ ‬من الموصل إلى سنجار والاخيضر‮، ‬فها هي‮ «‬داعش‮» ‬تعمد بكل صفاقة وتحدّ‮ ‬للعالم كله إلى سرقة وبيع الآثار الصغيرة القابلة للحمل والنقل‮.‬ فيما تعمد إلى تدمير القلاع والجدران،‮ ‬والمنحوتات الكبيرة‮.‬ وهذا ما فعلته مع الآثار السومرية،‮ ‬حين نسفت ودمرت‮ (‬لامسو‮) ‬الثور المجنح‮.‬ كما حطمت منحوتات الاخيضر في‮ ‬مدينة‮ (‬الحضر‮) ‬التاريخية الشهيرة في‮ ‬العراق‮.‬
إن البيان الذي‮ ‬أصدرته مؤسسة «سعادة» الثقافية بالتعاون مع جمعية الإنماء الاجتماعي‮ ‬والثقافي‮ ‬يشير بوضوح إلى ضرورة تسليط الضوء على أهمية تراثنا الثقافي،‮ ‬فلربما تفلح في‮ ‬الحدّ‮ ‬من تهجير وتدمير الآثار التأريخية،‮ ‬وكذلك الحفاظ على هويتنا الثقافية،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬ظلّ‮ ‬التهديدات الخطيرة في‮ ‬كل من فلسطين وسوريا والعراق‮.‬ لذلك شكل‮ ‬يوم‮ ‬23‮ ‬و26‮‬ نوفمبر/تشرين الثاني‮ ‬عام‮ ‬2012‮ ‬ يوماً‮ ‬مفصلياً‮.‬ إذ فيه تمّ‮ ‬استرداد ما أطلق عليه مجموعة‮ (‬موشي‮ ‬دايان‮) ‬وذلك من خلال مزادين عامين أُقيما في‮ ‬الولايات المتحدة الأمريكية‮.‬
أن‮ (‬موشي‮ ‬دايان‮) ‬الصهيوني‮ ‬المتعصّب لم‮ ‬يفتخر فقط بكونه‮ ‬يعرّي‮ ‬العرب من آثارهم وماضيهم‮. ‬بل راح‮ ‬يوقع على القطع الأثرية باسمه،‮ ‬بل ويهدي‮ ‬بعضها إلى أصدقائه وأحبائه‮.‬ علماً‮ ‬أن هؤلاء سرعان ما كانوا‮ ‬يبيعون هذه القطع الأثرية لجهلهم بقيمتها التأريخية‮.‬
وليسمع العالم،‮ ‬كل العالم،‮ ‬بأن الصهاينة‮ ‬يسرقون حتى الماضي‮.‬ وأنهم إذ‮ ‬يبيدون المستقبل مسبقاً‮ ‬عبر اغتيالهم للطفولة والمدينة‮.‬ فإن هناك من‮ ‬يراقبهم،‮ ‬ويتعقبهم،‮ ‬ويفضحهم كأعداء ولصوص‮.
____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *