الترجمة ورهانات التواصل والهوية



* د.عامر عبد زيد

الحديث عن الترجمة ارتبط بمقولات “الآخر والهوية” بين مقاربات الحداثة والتجديد، وبين الاثنين تباين عميق جعل من الأولى ترتبط بإشكالية المغايرة ومن أهم مقوماتها القطيعة والتجاوز، فيما ارتبطت الأخرى بإشكالية الأصالة ورهان الإحياء للهوية على وفق ثوابتها من خلال التواصل، فالتجديد إحياء القديم وإعادة الروح له والسير على وفق رهاناته التي تتّصف بالكلية، حيث لا تقبل التجاوز بل التواصل والإحياء. وهذا يتمثل بالقراءات الأصولية التي تمثل قراءة انتقائية في تشكل رؤيتها للماضي، فبإمكان جماعة من الجماعات- في إطار علاقتها بالماضي- أن تكون انتقائية دائماً، و(أن تؤسس هويتها على ذاكرة تاريخية تغذيها ذكريات ماض مهيب، ولكنه ماض يجذِّرها على الغالب في ضرب من “إناء الدموع” أو في ذاكرة العذاب المشترك. 

فالهوية التي تضفي عليها الصفة التاريخية تبنى في جزء كبير منها بالاستناد إلى ذاكرة المآسي الجمعية، فهذه الذاكرة التي تستحضر الجانب المأساوي من علاقتنا بالآخر المختلف الذي يمكن توصيفه بمقولات الإسلام السياسي (الصليبي) أو (الاستكبار العالمي) لكن بالمقابل هناك تيار آخر في عالمنا العربي بعامة والعراق بخاصّة يحاول أن يجد نقاط تواصل وتعايش عبر استثمار التجارب الغربية وغيرها من التجارب العالمية سواء تمثلت في الحداثة والتنوير أو ما بعد الحداثة وما تقدمه من تنوع عرقي وثقافي ما يعرف بالهُجنة الثقافية.

لكن على الرغم من الاختلاف بين التيارين يجب أن يكون مُحرِّكُنا الأساس متمثِّلا بالفائدة التي تنعكس على حياة الناس، وتُسهم في تغيير أفكارهم وتطوير الأفكار تخليقاً وإبداعاً؛ لهذا فإن معالجة هذه الثنائية يجب أن ننظر لها من زاوية ترى أن كل فكر يسهم في تقدم البشرية، يجب أن يجذب اهتمامنا سواء أكان ذلك الفكر داخل ثقافتنا أو في ثقافة أخرى، وهذا يجب أن يحفزنا إلى التواصل معه عبر التعريب والترجمة التي تجعلنا أمام سؤال ضروري هو: أي ترجمة للثقافة نريد؟ بمعنى: أي نوع من الثقافة نحن اليوم بأمسّ الحاجة إليها؟ 

من أجل خلق اشتراطات جديدة لوجودنا وصيرورة حياتنا، فهناك ثقافات متنوعة، وهنا يبقى السؤال عن ماهيّة الثقافة التي بإمكانها أن تقدم لنا الزاد الثقافي الذي بإمكانه أن يكون له أثرٌ محمود على واقعنا ومن ثمّ على مستقبلنا؛ لأن هناك ثقافات متنوعة فمنها ما يصدر عن ثراء، ومنها ما يعبّر عن فقره، ومنها ما يحدث صدمة ويخلق تحولاً في ثقافتنا عندما ندرك واقع ثقافتنا بالمقارنة مع الثقافة المعاصرة، وما فيها من عمق وجِدة وإضافة جديدة.

لكن هذا يقودنا إلى سؤال آخر هو أي ثقافة ترجمة نحن بحاجه لها؟ سؤال حيوي ومهم يفترض وجود رؤية عميقة مؤسساتية تعمل عليها المؤسسة والمثقفون في البلد، بمعنى أن الإجابة تفترض صياغة مُحكَمة إلى إستراتيجية جديدة للترجمة تنقل العمل من نطاق العمل الفردي الذي غالباً ما يكون محكوماً على وفق رغبات الفرد وما يرغب به أو يجده مفيداً على أساس المردود المادي.

فالإجابة تفترض فتح حوار واسع بين المؤسسات الثقافية والجامعية والسياسية والمثقفين وأساتذة الجامعات، من أجل صياغة أجوبة تتسم بالشمولية وتأخذ بعدا مؤسساتيّاً.

إذا افترضنا ضرورة الترجمة بمعنى ضرورة الحوار بين الثقافات، لكن الحوار يفترض النِدّية بعيداً عن المركزيات الثقافية التي تنطلق من كونها ثقافة مركزية مقابل الثقافة الأخرى الموصوفة بالهامشية، أو مجرد ثقافة أطراف عليها إن تتلقى الثقافة المركزية وتعيد استثمار رهاناتها وإن كانت مغتربة عن واقعها وكأنها تعيش إشكالات هي لم تصل لها ولم تعيشها ومن ثمّ تحول إلى ثقافة متلقّية سلبية همُّها التقليد، وليس لها رهانات ترتبط بمشاكلها، بل تعيش وهم الآخر ومشاكله التي تفارق واقعها، هذا على صعيد الثقافة المقلدة اما الثقافة المركزية فهي ترفض اختلاف الآخر ولا تباين حاجات ولا طبيعة الحلول التي تتوافق مع حاجاته بل لا ترى في الآخر إلا إعادة تكرار الظروف التي مر بها المركز. 

ولعل هذا يعبر عن ذهنية الاضطهاد التي تتواجد اليوم، إذ يعتقد البشر أنهم أحرار منفتحون على العالمية. وبسبب صفة التفاضل التي تميزهم فإنهم يعيشون أضيق المجالات الثقافية من الداخل كما لو كانت معيناً لا ينضب وكل ما يتعارض مع هذه الفكرة الوهمية يصيبنا بالذعر ويثير في نفوسنا اتجاهاً قديماً نحو الاضطهاد،  بالمحصّلة تقوم نظرة الثقافة المركزية للآخر على إعادة تكراره بصيغة التبعية والخضوع لها. 

لكن اليوم بات الغرب المهيمن ينظر إلى الآخر (الإسلام) الذي كان مقموعاً سابقاً بات اليوم (يمثل في أيامنا الإيديولوجية الوحيدة، الكفيلة بتغذية رفض جذري للهيمنة الغربية، من دون أن تستعير أسلحتها الفكرية من الغرب) هكذا يتصور الغرب الشرق بكل تنوعه السياسي والعِرقي فقط في الخطاب الإسلامي بوصفه ضدّاً نوعيّاً لا يمكن التعايش معه على الرغم من توظيف مقولة الاختلاف والتعدد؛ إلا أنه يحاول أن يمارس التمركز حول ذاته واختلاق عدوٍ وهميٍّ مُتخيّلٍ على الرغم من أنَّ هذا العدو لم يرتكب عُنفاً بحق الغرب مثلما فعل الغرب بحق نفسه أو بحق الآخر.

لكن هذا النقد للتمركز الغربي يجعلنا أكثر تمسكاً بضرورة الترجمة، لكن أيضاً تجعلنا إزاء تلك الرهانات التي توجب علينا أن نراعيها في إعادة مشروع ترجمة لها أثرها في الانفتاح على الآخر من ناحية ومن ناحية أخرى ضرورة انفتاح الهوية لكن حدود ما يجعلها تنفتح على التعدد الذي يمنحها التجدد والاختلاف والتعدد من دون أن يلغي تمايزها واستقلالها عن الآخر، وهذا الأمر يستدعي تجدد آليات الرؤية ومن ثمّ تشذيبها من دون تشويه، بل يمنحها حياةً جديدةً أكثر تاريخية عندما تكون منفتحة على الحوار من ناحية، وعلى الواقع ومشاكله من ناحية أخرى يجعل أمام الذات تراثاً من الخبرة المتنوعة التي تضيف بصمة التميز عليها عبر إيجاد حلول للمشاكل التي يعاني منها البلد، ومن هنا نستشعر أهمية تبيئة الأفكار والمفاهيم عبر الترجمة أو التعريب على الرغم من أنهما متباينان إلا إنهما من آليات الانتفاع بخبرات وتراث الآخر.
ومن هنا يمكن أن نتلمس أثر الترجمة في تطوير حقول الثقافة ومنها اللغة التي تتسع بالترجمة والتواصل، وتزداد آفاقها في حقول الأدب وحقول العلم التي أوجدت عوالم جمالية وفنية تعكس تجارب اجتماعية وجمالية إبداعية أو تزداد بآفاق العلوم والتجارب العلمية والفلسفية التي أوجدت عوالم تقنية أو فكرية جديد تركت آثارها في اللغة، فالجديد يعمّق التجارب القديمة، فمثلاً تُجسّد اللغة خزيناً من تجارب الكائن البشري التي تتسع بالانفتاح إلا أنها تعبر عن الذاكرة التي تتعمق بالتواصل بين الماضي والحاضر، حيث تنصهر الآفاق عبر الفهم والتأويل والقراءات للذات أو لدى الآخر عبر الترجمة فتتوسع اللغة ويتعمق فضاء المتخيل والمفكر به أو غير المفكر به.
إذا كان النص يمثّل انعكاساً وجوديّاً يشتمل على التجربة التي عاشها أو تخيّلها المبدع، وعبرها يحاول التعبير عنها من خلال اللغة بكل ماتختزنه تلك اللغة من إمكانات جمالية وذاكرة جمعية تركت آثارها بأنماط وأشكال تعبّر عن محاولة المبدع صياغة تلك التجربة من خلال التصورات الوجودية التي تتسم بارتباطها بالزمان والمكان، وهذا يتجلى من خلال النص. لكن بعد اكتمال النص يغدو مستقلاًّ عن المبدع يتعرض إلى القراءة والتلقي والترجمة، وهنا تظهر ممكنات أخرى للتلقي يضعها الكثير من الباحثين على مقاربتين:
الأولى: تقدم القارئ على النص وتمنحه سلطة في أن يسقط على النص أحكامه المسبقة التي هي في جزء كبير منها تصوراته التي تنتمي إلى الثقافة والتكوين الاجتماعي والنفسي الذي يكوّن تصوراته وأحكامه المسبقة، وهي رهينة بتجربة التلقي التي هي أيضاً رهينة لحظة الإدراك لمعنى النص الذي تكون لدى المتلقي المحكوم بتلقي أوّليٍّ بريءٍ من الأحكام من ناحية ولحظة الإدراك من ناحية أخرى ومن ثمّ تتحول تلك إلى ترجمة.

لكن هذا أيضاً لا يمكن تقبله بوصفه تصوراً صحيحاً للترجمة؛ لبُعده عن النص وما يختزنه من عوالم وأنساق. وهنا لا بد من أن تستثير القارئ كيان النص (الذي تجسده اللغة مما يحتم زيادة على الإحاطة باللغة تفهماً وتفاعلاً مع معاني الألفاظ والمواقف المنتجة للدلالات المختلفة للأثر المترجم) وحتى تتحقق لحظة الانصهار بين أفق النص وأُفُق المتلقي يجب أن يكون المتلقي محيطاً بلغة النص التي ينقل منها كذلك باللغة التي يترجم لها.
_________
*الصباح الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *