البكاء مع الأعداء


* د. شهلا العُجيلي

المأساة الجماعيّة لا تلغي بحال من الأحوال المأساة الفرديّة، بل تصنع من الناس الذين يعيشون في ظلّها أبطالاً تراجيديّين، بدلاً من أن نطلق عليهم صفة الضحايا، ولعلّ الذاكرة الثقافيّة المقيّدة بالتدوين، وحدها كفيلة بإنصافهم أو ازدرائهم، وربّما تغيير مصائرهم، فالكتابة ضدّ النسيان.

لم يكن من الممكن أن أمرّر ذكرى النكبة من غير أن أكتب عنها، فهي مفتاح خريطة الخراب التي نعيشها اليوم، ومحرقة مآسينا الفرديّة. لقد كان العالم يريد التخلّص من اليهود، الذين حيثما وجدوا تشكّل سياج من القلاقل والدماء، والذين بدأوا دعوتهم بفكرة الثقافة، مطلقين من القسطنطينيّة جمعيّة “بيلو” الثقافيّة عام 1882 وهي اختصار لعبارة دالّة: “بيت يعقوب، تعالوا لنرحل”.
في كتابها، الذي يمكن أن نصنّفه سيرة روائيّة، والموسوم بعنوان “الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين”، وقد وضع له الناشر عنواناً فرعيّاً هو “وقائع خروج أسرة يهوديّة من مصر”، تكتب لوسيت لينيادو، الفرنسيّة من أصل يهوديّ مصريّ، تاريخ عائلتها الذي كان مأساويّاً بسبب كونهم يهوداً لا لأيّ سبب آخر، متوقّفة عند اللّحظات المفصليّة التي اشتبك فيها العامّ بالخاصّ، ليصنع مصائر الأفراد التراجيديّة، وينسب خساراتهم كلّها إلى ذلك المصير الذي اختارهم الله له، من مثل: هزيمة المحور في العلمين عام 1945، باندحار رومل، وقيام دولة “إسرائيل” عام 1948، وثورة 1952.
لعلّ ما يأسر في مثل هذه الكتابة هو البريق الذي يمنحه الكثير من الشجاعة والبراءة، في الحديث عن أفراد العائلة في لحظات ضعفهم وقوّتهم، وفي صورة تجعل منهم رجال معابد من مثل ” الكتّاب” أو “رابطة الحبّ والصداقة”، أو لاعبي قمار في بيت ما يسمّى “الأم فريدة الصبّاغ”، أو بنات ليل، أو عشّاقا لخليلات مثل أمّ كلثوم، لفحل يهودي من مثل ليون لينيادو، زير النساء، والذي يكون الوالد: “في سنوات لاحقة سيصل إلى مسامعي أنّ سيّدة الغناء الشهيرة المسلمة التقيّة أمّ كلثوم، التي تربّت في قرية صغيرة، حيث كان أبوها إماماً، كانت خليلة لأبي!”.
الموضوعيّة فخّ في منتهى الخطورة أيضاً، فهي قد تنتج عن علميّة مطلقة، مثلما قد تنتج عن ذكاء مخاتل، يتكرّر فيه عدم الرضا عن قيام “إسرائيل”: “وأكثر ما ألهب المشاعر وأوغر الصدور هو ولادة دولة إسرائيل”.
كلّ يروي التاريخ من صدره المثقل بالمأساة، والذي نطلق عليه اسم الذاكرة، وهي ذاتها القرص المرن المعجون بالخيال، ومن حقّ الطرف الآخر أيضاً أن يقرأ التاريخ بناء على قرصه المرن المبنيّ بالطريقة ذاتها: “عندما غادر أبي مصر في ستينيّات القرن الماضي، فإنّني ما زلت أتذكّر رغم مرور كلّ هذه السنوات، كيف كان يصرخ على ظهر المركب التي أقلعت من الإسكندريّة، مردّداً بالعاميّة : رجّعونا مصر، رجّعونا مصر…”!
يعود التاريخ بنا إلى حلب، حيث الجدّة “ظريفة” بنت العشائر العربيّة، وسليلة الأحبار الذين سميت المعابد بأسمائهم هناك، والتي نقلت تقاليد حلب اليهودية القاسية والسريّة، إلى حياة العائلة القاهريّة، وأحاطته بها في الزواج، والعمل، والتفاهم مع المآسي المتلاحقة، والتي تجد أقساها تحوّل أحد أبنائها إلى المسيحيّة، ليصير من أشهر رهبان “سيّدة صهيون” في فلسطين أرض الميعاد، يليها قتل ابنتها وأفراد أسرتها في إيطاليا، خلال الحرب العالميّة الثانية، لتعيش في غربة مضاعفة، سببها الصدفة التاريخيّة التي جعلتهم يهوداً، كتب عليهم الترحّل من مكان إلى آخر، ذلك ما يجعلنا، بسحر السرد، ننجرف وراء التعاطف حتّى مع التراجيديا التي لا علاقة لفكرة الأقليّة بها، فالجدّة الثانية ألكسندرا سليلة أغنياء الإسكندريّة، خانها القدر لتلقي نفسها في أحضان رجل يكبرها بخمسة وعشرين سنة، مُعدم ونصّاب، خلّفت منه ثلاثة أطفال، وهي لا تعرف كيف تمشّط شعرها، بسبب الاتكال على الخادمات، ليأتي زوجها يوماً ويخبرها بأنّه باع الطفل الصغير، من الفقر، فتصاب بمسّ منذ ذلك الوقت تقريباً، وتبقى تبحث عن صغيرها حتّى النهاية، وذلك هو المشهد الأقسى في فصول المأساة كلّها، وهو مشهد فرديّ بلا هويّة أوطائفة!
لقد ضيّع الملك فاروق باستهتاره، فضلاً عن المُلك، الحياةَ المستقرة لليهود،: “كان يمكن لفاروق أن يغشّ في لعبة البوكر، حتّى لو كان اللّعب لمجرّد التسلية.”، وجعل يهود مصر يعيشون في حنين أبديّ لها، مثلما جعلهم ضحايا في كلّ مكان، حتّى في أميركا: “فقاهرة الأربعينيّات ويهودها صاروا ذكرى بعيدة بعد أن تمّ إبعادنا لسلسلة من الفنادق الرخيصة في باريس ونيويورك، حتّى انتهى بنا الحال إلى بقعة في بروكلن لا تزيد على عشرة مبان تأوي آلافاً من اللاّجئين غيرنا، آل مآلهم إلى هناك، من يهود الشرق الأوسط”.

تريد الكاتبة أن نبكي معها، وأن يأخذنا السرد الساحر، لننسى كلّ الذين ضيّعتهم أمهاتهم في فلسطين، ونحن نحتاج إلى كثير من الوعي والصلادة حتّى لا نبكي مع الأعداء، ونكفّ عن أن نقنع ذواتنا بأنّ تاريخ الضحايا يشبه بعضه البعض، وألاّ نجحد المشترك!
تلك لعبة الثقافة ذاتها التي جعلت إدوارد سعيد ابن مسيحيّة القدس ذاته، يغادر وطنه: “بدأ ذلك مع دخولنا مرفأ نيويورك على متن الباخرة “ساتورينا” مطلع تمّوز 1948. كانت فلسطين قد سقطت ونحن غافلون عن حقيقو أنّ حيواتنا تقودنا إلى الولايات المتّحدة، حيث سنعيش أنا وأمّي، ونصاب بمرض السرطان الذي سوف ينهي حياتنا في العالم الجديد”.
أصرّ على ألا أتعامل مع هذا التاريخ بكثير من الاطمئنان، ولا أرتاح للفورة الأخيرة التي تقترفها القوّة الناعمة العربيّة، من سينما ورواية، ودراما… لتعزّز فكرة العيش المشترك الرائق، باتّجار واضح بالتاريخ الجذاب المحاط بالسريّة، للذين رحلوا إلى فلسطين.
بعد سبعة وستين عاماً على النكبة، دخلنا عالم ما بعد الحداثة، الذي تحثنا فلسفته على النسيان، وبعيداً عن الشعارات، سأبقى في صفّ الذين قرّروا ألاّ ينسوا.
إنّ الذين بكوا مع الأعداء ندموا كثيراً، إذ انساقوا وراء بشريّتهم، المتعاطفة حيناً، والطمّاعة حيناً خر، والمرهقة حيناً ثالثاً، لكن حتّى لو أعادت الثقافة ترتيب الذاكرة، علينا أن نتذكّر دائماً أنّ الأعداء لا يبكون مع أحد.
______
*عمّان.نت

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *