*ناصر أبو الهيجاء
خاص- ( ثقافات )
عرف التاريخ الحديث للعالم العربي فئة بعينها من رجال الإمبراطورية البريطانية ونسائها الذين قوربت سيرهم بضروب شتى من التأويل والتحليل لما انطوت عليه ذواتهم من تَعَقّد وغرابة ، مثل توماس لورنس ، واللورد كرومر ، واللورد كيتشنر ، وإيميلي كين ، وويلفرد ثيسغر، وويلفرد بلنت ، وجون فيلبي ،وأورد وينغت …… الخ.
وقد خضع هؤلاء، وغيرهم ، لسياسة انضباطية صارمة ،جعلت من معظمهم نماذج مختزلة عن السلطة ، طبقا لتوصيف ميشيل فوكو ، أو دمى سياسية تبعا لتعبيره المجازي.
ويستحضر المفكر الفرنسي ، في سياق تقصِّـيه لآليات السلطة في تطويع الأفراد ، شخصية الملك فردريك الثاني الذي كان مسكونا باستخدام الدمى الصغيرة التي تمثل الجيوش ليحركها بيديه ويضع لها الخطط بما يشخص اختزالا ماديا للذات البشرية، وتنتصب المدارس الرسمية في بريطانيا الإستعمارية تشخُّصا مؤسَّساتيا لسياسة الانضباط هذه.
وقد ذهب المؤرخ البريطاني ديرك هوبود في كتابه الموسوم بـِ (التصورات الجنسية عن الشرق الأوسط) إلى أن المدارس الرسمية خلال القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين مَّثلت مراكز التدريب لخدمة الإمبراطورية، مُمِّثلا على ذلك بكلية وينشستر التي كانت تقوم على إعداد النخبة، حيث كانت تُرسَّخُ القيم الإمبريالية في نفوس الطلاب الذين سيعكفون على حكم الأجناس المتخلفة.
كما خضع رجال الإمبراطورية ونساؤها إلى تراث استشراقي كبير تتبعه ادوارد سعيد نسابيّا ليضم إليه كل من ايسخليويس وهوغو ودانتي وماركس، وحدد سعيد أواخر القرن الثامن عشر نقطة عَيَّنتْ الإستشراق بوصفه “مؤسسة غربية شُيِّدت للسيطرة على الشرق وإعادة إنتاجه سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخييليا”، غير أنه في الوقت الذي حققت فيه السياسة الانضَّباطية نجاحا عظيما في تحويل عدد كبير من الجنود والإداريين الذين اضطلعوا بمهام الإمبراطورية ، وغيرهم ممن دفعهم حب السَّفار إلى تلك الأصقاع من الشرق ، إلى أجساد طيّعة في ماكينتها الإمبريالية، فإنها عجزت عن ذلك فيما يتصل بطائقة منهم؛ فقد مارس الشرق ، تأثيرا، قلَّ أو كثر ، على أفكار ثلة من هؤلاء وحيواتهم . ولعل في شخصية كل من ويلفرد بلنت وايميلي كين ما ينهض دليلا قويّا على ما سلف قوله، فقد كان الأول ما قبل إمبريالي طبقا لوصف ألبرت حوراني، فيما كتب بلنت نفسه يقول : (مع العرب امتلكت وطنا ثانيا أقل غربة مما سواه من الأمصار )، أما إيميلي كين فقد قصدت المغرب وخرجت على كل أعراف المجتمع الفيكتوري حين اقترنت بشريف مدينة وزان، ثم انصرفت،بعد أن هجرها الأخير، لخدمة ناس المدينة والعناية بهم حتى طواها الموت عام 1942م.
بيد أننا نقحم أنفسنا في مجازفة بعيدة الأمداء إذا أرجعنا ما صدر عن هاتين الشخصيتين، وكثير غيرهما ممن لم نذكر، إلى سبب وحيد تمثل في ما مارسه الشرق نفسه من تأثير على أفكار هؤلاء وحيواتهم . فقد كان لنفر منهم دوافعه واستيهاماته الخاصة فضلا عن اختلالاته العاطفية.
إذ مثـَّل ارتحال بعضهم إلى الشرق والتماهي مع سكانه هروبا من حب عاثر . وتبدَّى الشرق لبعض آخر، مسرحا جنسيا يشاكلُ ما قرأوه في ( ألف ليلة وليلة ) تبعا لما فصَّله هوبود في كتابه آنف الذكر، ومن الممكن أن نضيف على ذلك فنقول إن الازدواج الذي ميز مواقف آخرين مثل توماس ادوارد لورنس ، يوحي بأن ولاءهم لمبادئ الإمبراطورية أخذ صورة التزام في حين جاءت الصداقة التي جمعتهم بثلة من الرجال العرب من باب الهواية.
أما الذين شفَّت أقوالهم وكتاباتهم عن بعض حب وإعجاب للعرب فقد أخذ معظمها صورة اعترافية خجولة تحاور اعترافات الشهوة في التقليد المسيحي. ولربما مثلت القلة القليلة التي تماهت مع المجتمع والثقافة العربيين استثناء يؤكد القاعدة ولا يلغيها كما يرتئي سعيد ، بيد أن الاستثناء ، بداهة ، يؤكد ذاته إذ يؤكد القاعدة.
ولسنا هنا بصدد الخوض في مماحكة نظرية من هذا الغرار. فقد أردنا من التقديم السالف أن يكون مدخلا لاستكناه شخصيه إمبريالية مثلت بما تحمله من تعقُّد وغرابة افتراقا عن تلك الجمهرة من الإمبرياليين الذين تطابقت ذواتهم مع مرجعيات الإمبراطورية الإيدلوجية والسياسية ( مثل اللورد كرومر الذي برز تجسُّدا آدميا خالصا لتلك المرجعيات )، كما مثلت شذوذا عن تلك الكوكبة من البريطانيين الذين أكنَّوا للعرب كثيرا أو قليلا من الإعجاب والود.
فقد كان أورد تشارلز وينغيت ( 1903- 1944) ضابطا بريطانيا عُهد إليه في الأعوام (1936ـ 1939 ) بتشكيل مجموعات من دوريات الحراسة في فلسطين، فغدا بذلك مؤسِّسا للطلائع الأولى من الجيش الإسرائيلي، وتمثل حلمه المقيم ( أو المجد الذي يناديه كما زعم ) في قيادة هذا الجيش الذي سيحمل مشعل القدر التوراتي وينشئ مملكة الرب تبعا للتعبير الكتابي، وقد فاق بصهيونيته اليهود أنفسهم مما حدا بكاتب سيرته ( كريستوفر سايكس ) إلى نعته بالمتطرف بين مجموعة من المتطرفين . أما الجنرال وافل ؛ قائد القوات البريطانية في فلسطين آنئذ ، فقد وصفه بالمخلوق الشاذ والغريب، وقد عمل وينغيت خلال سنين ثلاث على تدريب جيل من الشبان اليهود ، مثل موشيه دايان ويغال علوني ، الذين كان لهم الدور الأبرز في حرب عام 1948م . ومثلت أعماله التي تميزت بطيش كبير إزعاجا ، أو بصورة أدق، استباقا لسياسة الحكومة البريطانية في ذلك الوقت. فنقلته الأخيرة إلى أثيوبيا بعد أن منحته وساما عسكريا .
وكان من الطبيعي أن يلقب وينغيت، تأسيسيا على هذا التاريخ الشخصي، بـ” لورنس اليهود” مما أثار سخطه. فلورنس ، طبقا لوينغيت ، واحد من العصبة الضالة التي ربطتها بالعرب آصرة حب وإعجاب . ولنقل بوجازة، كان وينغيت صورة عسكرية عن هرتسل الذي جرت في عروقه دماء يهودية خالصة فيما كان الأول يهودي الهوى. فلماذا، كما يسأل الكاتب اليهودي ؛ هليل هالكين، شذ وينغيت عن زملائه من الضباط البريطانيين ممن خدموا في فلسطين، الذين، وإن قاتلوا العرب ، فانهم آثروا الشخصية العربية بما تنطوي عليه من إخلاص وتسامح على الشخصية اليهودية بما تحمله من جلافة وتطاول؟. ربما كان من العسير رد ذلك إلى سبب بعينه؛ إذ تآصرت جملة من الأسباب لتصوغ هذه الشخصية المضطربة التي ذهبت في تأييدها للصهيونية حدا أثار عجب اليهود وإعجابهم.
وقد تبدى ذلك في ثلاثة أسباب رئيسة تمثل أولها في :
أولا: الموروث العائلي والثقافي:
يعرض الصحفيان البريطانيان ؛ جون بريمان وكولين سميث ، في السيرة التي أفرداها لحياة وينغيت رأيا ناجزا لدى استجلائهما الأسباب التي كمنت خلف تبنيه للصهيونية . فيرى المؤلفان في كتابهما الذي أسمياه ” نار في الظلام “أن البيئة العائلية التي نشأ فيها وينغيت وترعرع أسهمت في التأسيس لهذا التوجه . فقد ولد لأبوين مسيحيين متعصبين . وكان الاثنان عضوين في جماعة “الإخوان بلايموث الانفصالية التي تأسست في إنجلترا عام 1830م ، ودأبت على تدارس النبوءات التوراتية في لقاءاتها الخاصة.
وكان من وراء ذلك كله موجة من الخطابات السياسية والثقافية المشبعة بالرؤى التوراتية التي اجتاحت بريطانيا منذ القرن السابع عشر. فقد جاءت الثورة البيوريتانية بقيادة اوليفر كروميل(1599-1658 ) لتعيِّنَ اتجاها جديدا غدا معه العهد القديم الذي وعد بالأرض لشعب مختار ناسخا للعهد الجديد الذي وعد بالسلام الأبدي . واستعملت العبرية لغة للصلاة في الكنائس . وبرزت للعلن كتب تدعو إلى ” عودة “اليهود إلى الأراضي المقدسة إنفاذا لرؤية الكتاب المقدس .
وقد جسَّد برايتمان هذا الاتجاه أفضل تجسيد في كتابه ” رؤيا القديس يوحنا ؛ نهاية العالم ” الذي ظهر عام 1588م. ولسنا هنا بصدد التأريخ لهذا التيار، غير أنه من المهم أن نستحضر شخصية كان لها أثر باق في تنمية هذا النمط من التفكير والزج به داخل الدوائر السياسية. وهي شخصية القس ويليم . هـ .هيتشلر (1845- 1931م) الذي عمل قسيسا للسفارة البريطانية في فينا. حيث وضع كتابا حول “عودة ” اليهود إلى فلسطين وبذل جهودا لاغبة في تنظيم هجرة اليهود الروس إليها . فضلا عن مؤازراته لهرتسل في فترة حاسمة من تاريخ الحركة الصهيونية . وقد عبَّر هرتسل عن ذلك في مذكراته قائلا : “لقد دعمني “هيتشيلر” على نحو شبه إعجازي ….. وكان كثيرا ما يرسل لي ببطاقات بريدية، دون وجود أي مناسبات خاصة، ليبلغني أنه لم يستطع النوم في الليلة السابقة لأن القدس خطرت بباله ” . ولعل أفضل توصيف ترميزي لهذا اللقاء بين هيتشلر و هرتسل جاء في ثنايا ما كتبه ريتشارد بوبكين في كتابه التأريخي الهام ’’ الجذور المسيحية للصهيونية ‘‘. يقول بوبكين : ’’ إن هيتشلر ليس إلا مثالا على نجاح تلك الصفقة اليهودية الإنكليزية التي تبرع بها الإنجليز بخلع صاحبهم ’’ يقصد المسيح ‘‘ لا جزاء ولا شكورا , ومحوا كل ما ترتب على ظهوره من آثار, ورموا بستة عشر قرنا من تاريخ المسيحية في بئر النسيان ليعيشوا على أمل مجيئه من المستقبل بصيغة جديدة مقبولة للطرفين ،. ولم تنقطع سلالة البيورتانيين عند هيتشلر , فقد مضت بريطانيا العظمى بما تحمله من تركة كرمولية في إستيلاد هذه الفئة من الرجال مثل ديزرائيلي وجورج غولر ؛ الحاكم البريطاني لأستراليا , وديفيد لويد جورج رئيس وزراء حكومة الحرب الائتلافية بين عامي (1916-1918) الذي كتب في مذكراته يقول :’’ حين كان الدكتور وايزمن يتحدث عن فلسطين ظلت تبرز أسماء أماكن مألوفة بالنسبة إلي أكثر من نظيرتها على جبهة الحرب الغربية “.
وعليه , فقد هيأ الخطابان الثقافي والسياسي المثقلان بالرؤى التوراتية مكانا وثيرا لخيالات وينغيت الذي ألف نبوءات العهد القديم إلف ولادة , فجاء على مثال البيورتانيين في تطرف الاعتقاد وان فاقهم في تمثـُّله لمحاربي العهد القديم . إذ كان مسكونا في التماهي مع شخصية النبي التوراتي يوشع , فأمر في إحدى المرات أن يؤتى له بقرني كبش من أجل استخدامها كأبواق , حاذيا بذلك حذو يوشع لدى نزوله بأريحا . وأطلق اسم القائد التوراتي؛ جدعون , على القوة التي قادها في أثيوبيا، كما كان يبتدر ضيوفه بمطولات مضجرة حول معارك العهد القديم ومحاربيه.
ثانيا : موقف الحكومة البريطانية :
تمثل ثاني الأسباب التي عملت على تشكيل صهيونية وينغيت في موقف الحكومة البريطانية المحابي لليهود , الذي أخذ صورته الرسمية في وعد بلفور الشهير 1917م.ولم يأت هذا الوعد تتويجا للمؤثرات التوراتية التي غزت عقول ووجدان جمع غفير من السياسيين البريطانيين وحسب، بل إن تأثر عدد غير قليل من الإمبرياليين بالنص التوراتي لم يكن صادرا عن شعور ديني كلاسيكي . فقد عثر هؤلاء في معارك العهد القديم ورؤاه القيامية على ما يصلح مرجعا لاهوتيا لرؤاهم الإستعمارية , مثلما رأوا في المسألة اليهودية وسيلة مثلى لإنفاذ هذه الرؤى . حتى إن جملة من المصادر التاريخية تقول بكره بلفور لليهود على الرغم من أن الأدبيات السياسية درجت على تصنيفه واحدا من البيورتانيين الجدد تأسيسا على وعده الشهير وغيره من المواقف , مثل افتتاحه للجامعة العبرية سنة 1925م .
مهما يكن من أمر , فقد تمازجت المؤثرات التوراتية وحسابات السياسة والاستعمار التي سبقت ظهور الحركة الصهيونية ذاتها على نحو معقد . فشهد العام 1839م جهودا كبيرة من جانب البريطانيين لحماية الجالية اليهودية في فلسطين وتيسير هجرة يهود العالم إليها، وعلل الفايكونت بالمرستون ؛ رئيس وزراء بريطانيا في ذلك العهد , هذه الجهود في رسالة بعث بها إلى سفيره في اسطنبول جاء فيها ” إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت حمايته تشكل سدا في وجه مخططات شريرة يعدها محمد علي أو من يخلفه”.
كما أن فكرة تشجيع استيطان اليهود لفلسطين،كما يرى عبد الوهاب الكيالي، ارتبطت, منذ البدء, بفكرة إقامة حاجز بشري استعماري غريب يحول دون قيام دولة عربية مستقلة موحدة تضم المشرق العربي وإفريقيا العربية.
ومن هنا فقد نقل , طبقا لتعبير هرتسل , مرتكز الصهيونية من ألمانيا إلى نقطة أرخميدسية جديدة , هي بريطانيا .إذ برز الوجود اليهودي, في سياق التنافس الأنجلو فرنسي , الوسيلة الأنجع من وجهة نظر الإنجليز لإخراج الفرنسيين من الشرق الأوسط ,وعبر لورنس عن هذا الرأي على الرغم من كونه لا ينتمي إلى طابور الصهيونيين المسيحيين . وهكذا , ففي الوقت الذي ’’ تجشَّم ‘‘ فيه بعض رجال الإمبراطورية , مثل لورنس , عبأ التغرير بأصدقائه العرب في سبيل إنفاذ مخططات الإمبراطورية , فقد توافقت شخصية وينغيت اليهودية مع مبادئ الإمبراطورية , فتبدت فلسطين مراحا ترابيا لاستيهاماته الذاتيّة . ولعل المديح الذي خُصَّ به وينغيت من جانب أحد أساطين الاستعمار ؛ تشرشل , ينهض شاهدا على تلك التوافقية.
ثالثا: الطبيعة السيكولوجية
إن غرابة أطوار وينغيت وسلوكاته الشاذة مادة مطروقة في كل ما كتب عنه . وقد جرت على أقلام وألسنة خصومه و’’محبيه‘‘ على السواء , وان قـُرأت من جانب هؤلاء الأخيرين وفق التأويل التقليدي الذي يعالق بين الجنون والإبداع . على الرغم من ظهور تيار ما بعد الصهيونية في الدولة العبرية, الذي يرى في الصهيونية وصورها المرضية, عقبة في سبيل إبراز صورة مدنية للمجتمع اليهودي .
فقد كان وينغيت يعاني من إكتئاب إكلينيكي كُلل بمحاولة فاشلة للإنتحار . وكانت تجتاحه نوبات غضب هستيريه دون سبب واضح . فضلا عن هوايته الأثيرة في الإستعراء . إذ اعتاد على إرباك الآخرين باضطجاعه عاريا مُدلِّكا جسده بفرشاة؛ فيما بدا أسلوبه الوحيد في الإستحمام . وانطلق مرة، عاريا بكل زهو بين صفين من الجند الذين راحوا يصفعونه كلما دنا من أحدهم. وشوهد, مرة, يغمس جوربه في كوب الشاي قبل أن يحتسيه، كما دأب على وضع عقد من البصل حول عنقه في حلّه وترحاله.غير أن هذه الاضطرابات الوظيفية لم يصاحبها اضطراب جوهري في إدراك وينغيت للواقع ولدوافعه الشخصية. ففي إحدى المناسبات سأله زميله ثيسغر لماذا تبنّى الصهيونية في الوقت الذي لم يكن فيه يهوديا ؟ فأجاب : بأن ذلك يعود إلى ما كابده من عوامل العزل في المدرسة التي أبقته مغمورا . بيد أن هذا التخريج السيكولوجي الذي حاول فيه وينغيت أن يعقلن عملا عد من جانب زملائه شاذا يظل مقاربة منقوصة . فلم يكن وينغيت وحيد عصره فيما خَبره من حياة مدرسية شابها القمع والإهمال . فقد كابدت أجيال كاملة من البريطانيين حياة مدرسية بائسة نحتت ’’ إذا ما استعرنا التوصيف النيتشوي في موقع مغاير‘‘ حتى أجسادهم . لكن استجاباتهم لهذا التاريخ الطفولي تغايرت من شخص لآخر. فبينما انتهى بعضهم الى تعميم الكراهية للآخر”أو الى ما اصطلح فرويد على تسميته استخلاص المعنى السلبي”.فان بعضا آخر عمد الى مساماة هذه التجربة عبر توحُّده مع الضحية. فقد سامى ثيسغر عذابات الطفولة وما واجهه من عنت ومعاناة في المدرسة عبر خدمته للصبية السودانيين , فيما عمد بلنت إلى مناصرة الأمة العربية المضطهدة بأثر من تجربة العبودية التي قاساها في المدرسة (“أنظر التصورات الجنسيّة عن الشرق الأوسط”).
وربما كان من الأصوب أن نقارب هذه الشخصية وفق ما يمكن أن نطلق عليه طفولة خام سابقة على أي تاريخ طفولي.ولا نقصد هنا أن نطابق بين ما أسميناه طفولة خام ومفهوم دي ساد الذي يرى أن الإنسان مجرم بالسليقة.بل إننا نستخدمه، بصورة ما، وفق الفضاء الدلالي الفرويدي الذي يرى في الطفولة ذاتية مطلقة . يقول فرويد: لو هيأ للطفل القوة الكافية لهدم العالم لَفَعَل.إذ يمكن لهذا المفهوم ، إذا ما حُرّف قليلا عن مظانه وتوظيفاته الفرويدية العامة، أن يضيء العديد من مواقف هذه الشخصية المضطربة.فيغدوا ، تأسيساً على ذلك،هيام وينغيت بالشخصية اليهودية هياما نرجسيا يقوم على ما بينهما من مشترك تاريخي وسيكولوجي. وفي هذا السياق , كتب ثيسغر في تعقيب شديد الدلالة على ما أجابه به وينغيت قائلا :’’ … في وسعي أن أفهم ذلك تماما فقد اقتحموا خصوصياته واضطهدوه. ووقع في الكتاب المقدس آنذاك على أولئك القوم الذين ’’ تبعا لوينغيت ‘‘ عاداهم الجميع ولوحوا بقبضاتهم ضدهم , دون أن يثنيهم هذا عن دمويتهم أو يفت في عضدهم.وثمة حادثة تلقي بعض الضوء على ما تقدم به القول . ففي إحدى المرات ، بينما كان ديان عائدا من إحدى المهمات فوجئ بوينغيت يضطجع عاريا تماما في ركن من أركان قاعة الطعام وهو يقرأ في الكتاب المقدس” التوراة” ويلتهم البصل النيئ، فيما كان الجنود منهمكين في إعداد العشاء “.
إذ يوحي هذا الفعل التدنيسي بأنه لم ير الى العهد القديم بوصفه كتابا مقدسا بل بوصفه رواية تاريخية يقرأها بقدر ما تقرأه ويحاكي شخوصها بقدر ما يحاكونه؛ فالتوراة كتابه بقدر ماهي وجوده.
ولعل أية دراسة مقارنة لا بد وأن تلمس ناظما ،فكريا وسيكلوجيا،يجمع وينغيت بالشخصية الصهيونيّة. فحديث وينغيت عما خبره من عذابات الطفولة بروح احتكارية ،ينتظم،خطابيا ،مع تلك الروح التي تبطّن الادبيات اليهودية التي تتحدث عن الهولوكست.كما أن عنفيته التي لم ينج منها الجنود الأثيوبيين الذين خدموا تحت امرته ، تترادف مع السلوك الصهيوني “المتوحِّد مع المعتدي النازي(Identification)” في فلسطين ولبنان.
غير أننا لا نلح في هذه المقالة على هذا الربط الميكانيكي بين شخصية وينغيت العصابية وما أطلقنا عليه طفولة خام . فلربما أوقعنا ذلك أسرى سهولات (Facilities) بعض مدارس علم النفس التي ترى أن جميع أشكال العصاب تَتأصل غريزيا .ولم نعمد إلى هذا المقترب إلا بغرض الإيضاح ،دون سعي للتقليل من المؤثرات الثقافية وما صاحبها من ميراث طفولي في صياغة هذه الشخصية .وإذا شئنا تكثيف كل ما سبق قلنا: إن الفضاء المعرفي والثقافي الذي نشأ فيه وينغيت متواشجا مع إرث طفولي اتسم بالنبذ عمل على إغلاق هذه الشخصية داخل طفولة غدت مستديمة” suspended childhood “مما طوَّر لديه شخصية عصابية،ذاتيَّة المرجعية.
مهما يكن من أمر، فإن أية مقاربة تعمد إلى ثنائية السبب والنتيجة لا بد وأن تنطوي على مجازفة الوقوع في قراءة إسقاطية، ولعل هذا ما دفع ببعض المحللين النفسيين إلى تصنيف العصابات وفقا للأعراض لا الأسباب.وإذا كان تعقد شخصية وينغيت يفاقم من صعوبة القبض على تلك الأسباب التي أنتجتها،فانه من المؤكد،بالنظر إلى ما طفا على سطح هذه الشخصية من أعراض،أنها عانت اضطرابا إكلينيكيا حادا.
ولربما كان الحديث عن اختلالات هذه الشخصية واضطرابها مناسبة لاستطراد شيق، فقد خلعت الدولة العبرية على وينغيت لقب (Hayedid ) الصديق، وأصدرت طابعا بريديا يخلد ذكراه، وأطلقت اسمه على عدة أماكن ،منها قرية للأطفال و كلية للتربية البدنية وميدان في القدس . وما زالت تحتفظ ، في أشهر متاحفها ، بالنسخة التوراتية التي كان يحملها معه وينغيت أينما حل وارتحل . وغير خفي ما تنطوي عليه هذه الاحتفالية ،التي تعمد إلى أسطرة هذا النمط من الشخصيات،من نزوع تربوي، مما يغري بالقول إن الأمر لا يتعلق، هنا، بسلطة تقصد إلى الكشف عن الانحراف بغية إصلاحه أو عزله بصورة تمكّنها من مراقبته، بل بسلطة تتعهد هذا الانحراف وتستثمره.
________-
*مترجم وكاتب من الأردن.