* طارق عبود
لأن الحياة الإنسانية مزدحمة بالأزمات الخانقة، فإنّ كمال الرياحي في روايته الجديدة «عشيقات النذل» الصادرة عن دار الساقي، قاربها في سياق سردي جمالي من منظور إنساني؛ تأسس على بناء تصويري تراجيدي للمواطن العربي المعاصر، حيث اتّخذ من الفن القصصي وسيلة تعبيرية ليسرد أعطابًا إنسانية نفسية متنوعة، حيث تحوّل الفضاء القائم على الفوضى والأنا مسرحًا للجرائم والخيانة وكشفاً عن الذات المبنية على حساب الآخر، معترضًا على الواقع، مشّيدًا متخيّله السردي على ركيزتين: الأولى جمالية، عبر الجهد الإبداعي المبذول لنحت النص بطريقة تعبّد الطريق أمام الركيزة الأخرى، وهي الكشف عن عورات السلوك الفردي والجمعي في المجتمع التونسي والعربي. إضافة إلى قناعة الكاتب بجدوى الكتابة كأداة ممكنة للتغيير، أو التصويب على مكامن الخلل المجتمعي، مستلهمًا قول الروائي الصيني غاو شينغجيان، الفائز بنوبل للآداب «الكتابة بمثابة طريقة لضبط الخلل». تحت هذه المظلة كتب روايته الجديدة دافعًا بجرأة واضحة، عددًا من الشخصيات إلى واجهة الأحداث، من طبقات اجتماعية متفاوتة، مركّزًا نقده على الطبقة البورجوازية المترفة، ومجموعة المثقفين والكتّاب، وما تعيشه من كــذب وادّعاء وخـــيانة، دالًا على الطرق الموصلة إلى الشهرة من طريق المال والسلطة.
كمال اليحياوي، كاتبُ روايات ذائع الصيت، وزوجته «ناديا عبد الناظر» امرأة ساديّة متسلطة، صاحبة مؤسسة قرطاج نيوز، وناقدٌ ينافس الكاتب في زوجته، وفي الكتابة، و «سارة» الابنة الضائعة بين الثلاثة. وثلاثة عشر طالبًا يدرسون «الدراماتورجيا» يحتجزهم الكاتب في قبوٍ مهجور بعد ثورة يناير من العام 2011 في تونس، ليكتبوا له مسلسلات تلفزيونية، بنى من خلالها مجده الثقافي، مقابل أموال يؤمّنها لعائلاتهم.
يحيك صاحب «المشرط» روايته بخيوطٍ معقدّة من العلاقات المشوّهة في صراعٍ طبقي وشخصي، يسوّره الزيف، وتنهشه الأحقاد والوصولية، فتندفع الشخوص نحو القتل والسرقة، بهدف تحقيق مصلحة مرتجاة، في منحى بوليسي سردي تهكميّ لا يخلو من التشويق والإثارة، ولا سيّما في نهاية الرواية، بعدما تتعقّد الأحداث وتتشابك، وتتكشّف المؤامرات التي تحيكها الشخصيات بعضها ضد البعض الآخر، فتتقدّم النظرية الميكافيلية «الغاية تبرر الوسيلة»، وتتحطم المبادئ والأخلاق والصداقات والروابط العائلية وغيرها على صخرة المصالح الدنيوية العاجلة.
تمثّل «حياة»، المرأةُ المتخيَّلةُ من الرواي، اليوتوبيا الجنسية والعشقية التي يتمنّاها، ويحلم بها، لكنه يصطدم بواقع معاكس مع ناديا التي تمثّل الحقيقة الصادمة له، ليستحيل النص وحدات سردية من الخيبات المتتالية التي يشترك فيها الجميع، خيبات من الحب ومن الأمومة ومن الرجولة ومن الصدق، ومن السلطة ومن رجال القانون ومن الثورة.
تتخبّط الرواية في دائرة مغلقة بعناوين متعددة، بنهايات مأساوية، أولاً: الحمل. حمل «حياة» المتخيّل، يوازيه حمل ناديا بـ «سارة» التي لا تعرف والدها، التي تحمل بدورها سفاًحا، ثم تموت منتحرة، في موازاة حمل القطّة التي يقتلها البطل قبل أن تضع جراءها. ثانيًا: الانتحار – الموت -، انتحار سارة المحتمل، يقابله انتحار كمال – البطل – المؤكّد. وموت الطلاب جميعًا في القبو. وموت الناقد «كمال» أيضًا، الذي يتوهم الكاتب أنه قتله، وأطعم كبده لـ (حياة) «حياة، هل أقتله بالرصاص أم بسكين أم بصخرة أم أدفعه أمام قطار؟». (ص. 79). ثالثًا: الخيانة. يتمظهر فعل الخيانة كسلوك جمعي، ناتج من انعدام الثقة والوفاء بين شخصيات الحكاية. كمال يخون زوجته ناديا مع «حياة» و «هند المونديال» وهي بدورها تخون زوجها الأول معه، ثم تخون الثاني مع حسن ستيلا، الذي يقيم علاقة مع ابنتها سارة أيضًا التي تقول: «لن أتخلّص من هذا الجنين مهما فعلتما. لن أخضع لبريستيجها، ولا لسمعتك أيها الكاتب المشهور. إذهبا إلى الجحيم (ص. 113). وهي على علاقة أيضًا مع بوخا، ومع المحامي اليهودي إيفو.
تنتمي الرواية إلى التيار الواقعي الانتقادي في الكتابة، ينأى بها صاحب «الغوريللا»عن الفانتازيا والهلوسات، ليلامس اليومي، عبر مخيال ينتمي إلى الواقع بقسوته وتفاصيله وجزئياته، فالأمكنة التي بنى منها حكايته انحسرت بين» مقهى المونديال، ونهج مرسيليا وابن خلدون، والحلقة الإيطالية و TGM والبابيلون و JFK وغيرها من الأمكنة، وهي أمكنة واقعية في تونس، لكن الكاتب اخترقها بشخصياته التي فرضت عليها أزماتها النفسية والمرضية. وأشار الزمن إلى حالة الإحباط التي فرضتها التطورات السياسية والأمنية على بلاد ما سميّ بالربيع العربي «علينا أن نستمع لوجهة نظره في ما يجري لنا في هذا الربيع الأسود». (ص. 64)
تميّزت الرواية بالحوار المباشر بين الشخصيات، وتوسّل الكاتب لغة متداولة بسيطة، ولكنها غاضبة، مستخدمًا عبارات نابية تقتحم المحرّم، وتعبّر عن المسكوت عنه في مجتمع يحسب أنه أُحبِط بعد ثورة الياسمين التونسية، كما كان محبطًا قبلها، لكنه بالغ في غير حادثة في الحكاية، ولا سيّما احتجاز البطل طلابه في القبو، وكأن لا أحد يسأل أو يفتّش عنهم. وتبتعد اللغة من كونها صراخ احتجاج طفوليًا، يهدف إلى تحطيم ما تطاله اليد، لتظهر رغبة الكاتب في كشف الأزمة وفضحها، ثم عرضها بوسائط جمالية سردية، أملًا في تشكيل وعي عام لمحاربتها والانتصار عليها..
____________
*السفير