* عبده وازن
لا يمكن التساهل روائياً في شأن الصراع الطائفي والمذهبي عربياً. هذا الصراع الذي ما زلنا نحياه هو أعمق من أن يمسي ذريعة لنشوء تيار يمكن أن نسميه “الرواية المذهبية”. وهو ليس تياراً بمقدار ما هو «صرعة» أو «موضة» غدت رائجة أخيراً عقب احتدام الأزمة المذهبية في العالم العربي، وكان مشروع «الهلال» الشيعي الذي ذكّته إيران واحداً من حوافزه، ناهيك عن المشكلات الشخصية والجماعية، المعلنة أو غير المعلنة التي تجتاح العالم العربي.
وليس مستغرباً أن تروج اليوم هذه المذهبية روائياً بصفتها مادة إثارة وجذب، سواء نجح الروائيون في توظيفها أم فشلوا ووقعوا في فخ السطحية وسوء الفهم والتسرع… تُرى ألا يكفي على سبيل المثل أن تسمي الكاتبة السعودية سارة مطر روايتها (يوميات) «أنا سنّية وأنت شيعي» حتى ترتفع أيدي القراء إلى رفوف المكتبات أو أجنحة المعارض لتتلقفها بسرعة؟ الرواية هذه قد يرميها قراء، نادمين على شرائها، وقد يعجب بها آخرون ويحتفظون بها. المهم أنها أوقعت القراء في أحابيل عنوانها المثير وما يخفي من محاذير ومواقف غير متوقعة. وعلى غرار هذه الرواية حصدت «مذكرات امرأة شيعية» نجاحاً شعبياً في لبنان وعواصم عربية نتيجة عنوانها، وبعيداً من اسم الكاتبة اللبنانية رجاء نعمة وطبيعة المادة التي تحملها هذه «المذكرات». كان يكفي اختيار هذا العنوان ليروج الكتاب، لا سيما في أوج صعود ظاهرة الموجة الشيعية في لبنان وبعض المناطق العربية، مع هيمنة «حزب الله» الأيديولوجية والعسكرية. ولو تخلت الكاتبة عن صفة «شيعية» لما راج الكتاب، مع أنها لم تكن يوماً طائفية أو مذهبية، بل كانت علمانية ومتحررة من أسر التصنيف الديني. لكنها «الموضة» التي تفرضها السوق والمرحلة الراهنة المضطربة وغير السليمة.
ليس مطلوباً من الروائيين أن يغضّوا الطرف عن مشكلة مثل المشكلة الطائفية والمذهبية التي يعاني منها العالم العربي، بخاصة أنها مشكلة جوهرية ووجودية، عميقة وغير عابرة، أما أن يجعلوا من هذه المشكلة مادة روائية مثيرة و «مشوقة» ومغرية للقراء و «إكزوتيكية» إن أمكن القول، فهم إنما يسيئون إلى «الكينونة» العربية وإلى الحضارة العربية والتاريخ والإنسان والجماعة. فالطائفية والمذهبية تندرجان في جريرة أزمة الانتماء والهوية، ومقاربتهما فكرياً أو روائياً وفنياً تحتاج إلى العمق والدقة والوعي السياسي والتاريخي والأيديولوجي. ولئن كانت الطائفية والمذهبية بغيضتين ومستهجنتين، فهما تظلان حقيقتين لا يمكن إهمالهما أو الاستهتار بهما والتخفيف من أثرهما السلبي. ويكفي النظر إلى ما يحصل في العراق وسورية ولبنان لتتضح خطورة الحال الطائفية.
في مطلع الستينات أصدر الكاتب اللبناني جورج مصروعة رواية عنوانها «ضحيتان» تناول فيها قصة حب بين فتاة مسيحية وشاب مسلم انتهت مأسوياً بعدما أثارت حفيظة أهل الحبيبين والأقارب. بدت الرواية حينذاك حقيقية وغير مفتعلة ومعبّرة عن الشرخ الطائفي الذي طالما اعترى الجسد اللبناني، وكانت سباقة في طرح هذه المسألة التي أشعلت لبنان عام 1975، وقسمته ورسمت خطوط تماس بين أهله طوال أعوام. لكنّ هذه القضية لم تغب عن أعمال روائيين تناولوها تناولاً غير مباشر وتحايلوا عليها لئلا يوقعوها في حال من الخفة والسطحية، بل هم كانوا واقعيين ومصيبين في معالجتها وتلمسها كما لو كانت جرحاً بالغاً: توفيق يوسف عواد، يوسف حبشي الأشقر، إلياس خوري، رشيد الضعيف، علوية صبح، حسن داود، وسواهم… وفي مصر نجح روائيون رواد وشباب في معالجة المشكلة الطائفية ذات الوجه الآخر المتمثل في العلاقة الإشكالية بين الكيان الإسلامي والكيان القبطي، وفي طليعة هؤلاء نجيب محفوظ وإدوارد الخراط وبهاء طاهر ويحيى الطاهر عبدالله وسواهم… علاوة على روائيين عرب من دول عدة توقفوا أمام هذه القضية، وإن لم تكن تعنيهم مباشرة. ويمكن هنا إدراج روايات فلسطينية تطرقت إلى قضية العلاقة الشائكة بين اليهود والفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين. وبعض الروائيين الفلسطينيين كتبوا قصص حب رهيبة بين يهود ومسلمين. لكنّ الطائفية هنا اكتسبت بعداً وجودياً وسياسياً وعرقياً، نظراً إلى أن علاقة الحب تتراوح بين رمز الجلاد والمحتل ورمز الضحية والمقتلع.
الروائية اللبنانية جنى فواز الحسن لم تحسن توظيف العلاقة بين الشاب الفلسطيني المسلم والفتاة اللبنانية المسيحية، وبدت مقاربتها لهذه العلاقة في روايتها «طابق 99» (الصحيح: الطابق 99) التي أُدرجت في اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية، سطحية ومتسرعة و «سياحية»، لا سيما أن الأحداث تجري في جزء منها، في نيويورك. لم تكن قصة الحب بين فتاة تنتمي إلى اليمين المسيحي وشاب نجا من مجزرة صبرا وشاتيلا، مقنعة ولا مؤهلة كي تكون حقيقية ولو روائياً، لا سيما أن البطلة راقصة والشاب أعرج. لكنها المادة الطائفية المغرية، مضافاً إليها بعض التوابل (صبرا وشاتيلا)…
في الكويت تروج أيضاً الرواية المذهبية ومنها رواية سعود السنعوسي الجديدة «فئران أمي حصة» التي تدور في مناخ الصراع الشيعي – السنّي المضمر وكذلك رواية طالب الرفاعي «في الهنا» التي عرف كيف يخضع قصة الحب فيها بين شيعية وسنّي، للحبك السردي مخافة أن تقع في شرك السهولة والاستسهال.
_______
*الحياة