*حوار: زياد إبراهيم
في أعوام قليلة وجدت الكاتبة والباحثة شهلا العجيلي، الحاصلة على الدكتوراه من جامعة حلب السورية في الأدب العربي الحديث، وأستاذ علم الجمال ونظرية الأدب في جامعة حلب، ثم الجامعة الأمريكية في الاردن، صاحبة “السرد واشكالية الهوية” و”التجديد في العلوم العربية والإسلامية” و”النص الروائي والمثاقفة الحضارية” وروايتي “عين الهر” و”سجاد عجمي” بلادها تتفكك وسط عاصفة اجتاحت المنطقة العربية سعيًا نحو الديموقراطية، لكنها احتفظت بالروح الجمالية لتنقلها على الورق.
_________
_________
– كيف تحولت الدراسات الجمالية والنقدية لرأي مباشر وكيف استطعتِ أن تجعلي الاحداث هي الأفكار؟
آليّة النقد تغاير آليّة الإبداع، وتقبع في مكان مختلف من الدماغ في تصوّري، لكنّهما يلتقيان في مفاصل هامّة للغاية، ومعرفة هذه المفاصل تدعم كلًّا من الناقد والمبدع. لا يعني النقد معرفة المناهج والمدارس فحسب، أو توظيف أقوال النقّاد في العمل الإبداعيّ، أو استخدام لغتهم، بل يعني معرفة الأساليب، وتاريخ الكتابة الأدبيّة، ومزاج المرحلة، وما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال، وما يستحسنه المتلقّي وما ينفر منه، والنماذج الجماليّة، وعلاقتها بالنماذج الفنيّة، وبذلك تكون المعارف النقديّة مكسبًا للمبدع. لاشكّ في أنّ الكتابة الإبداعيّة تحتاج أن تهبها نفسك ووقتك ولغتك، وكذلك الكتابة النقديّة، لذلك لا يمكنني الشروع في مشروعين إبداعيّ ونقديّ في الوقت ذاته، وربّما هذا ما يجعل كتابتي تتناوب على مشروع نقديّ، ثمّ روائيّ، وهكذا.
– فلنتحدث عن رواية”عين الهر”.. ما الذي أثارك في عالم التحف والعاديات؟.. هل لارتباطه بالمرأة أكثر أم لأنك أردتِ أن تقدمي لنا المرأة في تجليات أجمل؟
عين الهرّ عملي الأوّل، أردت أن أكتبه بمنتهى الصفاء الإنساني، فاستعرت عين الطفلة، ثمّ المرأة التي تنشأ على علاقة فطريّة بتفاصيل العالم الأصيلة، العلاقة مع الله، والموجودات العضويّة، ومنها الحجر الكريم أحببت البحث في موضوع معرفيّ، أربطه بقضايا الراهن، وأهمّها الفساد، فساد السلطة، والمال، والعلاقات الإنسانيّة رؤيتي للكتابة النسويّة تقوم على فكرة الاختلاف، وعلى نبذ النظريّة التي تطرّفت في طروحاتها، الكتابة النسويّة ليست مضادّة بالضرورة، إنّها رواية أخرى للعالم. تلك الرواية ستحمل بالتأكيد جماليّات مختلفة، لأنّها مصنوعة برؤية مختلفة قررتها التجربة التاريخيّة للنساء، بناء على الاختلاف البيولوجيّ. وينتهي ذلك كلّه إلى إغناء المغامرة الجماليّة للكتابة عمومًا.
– اختيارك للنساء أبطالا لا يعني إدانة الرجال المعتادة في كثير من النصوص. ذلك لا يتوفر عندك بسهولة، يبدو الجميع احيانا ضحايا، هل أنا على حق؟
تمامًا! الضحايا لا يخضعون لنظريّة النوع الاجتماعيّ، وإن كانت النساء عمومًا ضحايا بتاريخ مزدوج. ليس لديّ عقدة الجندرة، وأرفض أن أكون ضحيّة، وأحاول أن أساعد الآخرين أيًّا كانوا، بالكتابة وسواها، ليتحرّروا من كونهم ضحايا. لكن في النهاية نحن ضحايا بشكل أو بآخر، للمرض، ولليأس، وللقمع، وللرغبة، وفكرة التحرّر التي أتكلّم عليها، تبدأ بوعي حالتنا، ثمّ إرادتنا في التغيير. تجربتي في العمل الإنسانيّ، في الحروب والكوارث الطبيعيّة، مكنتني من أن أرى الرجال والنساء على السواء في أضعف حالاتهم، في الموت، والمرض، والفقد، وهم لا يختلفون كثيرًا في ردود أفعالهم، أو استجاباتهم في اللّحظات الفارقة.
– إذا انتقلنا إلى سجاد عجمي سنجد أنفسنا أيضا بين النساء والرجال والسجاد إذ هو هنا ليس مجرد مهنة لكن تجليات إنسانية رائعة في الشكل. بعيدا عن النص هل الفن معادل أجمل من الحياة؟.
في سجّاد عجميّ قمت ببحث معرفيّ حول فنّ نسج السجّاد، وهو موضوع محبّب بالنسبة إليّ، فمنذ طفولتي كنت أسرح طويلًا في نقوش السجّاد العجميّ في بيتنا في الرقّة، يأسرني التكرار المتقن الذي تبدعه أيدي البشر، كان نوعًا من الرياضات التأمّليّة بالنسبة إليّ، ثمّ بحثت عن تاريخه، الذي فيه الكثير من السريّة، والعلاقة بالحرف واللّون والعبادة، وفيه أيضًا تاريخ أسود له علاقة بالاستغلال والسخرة والعبوديّة، وغالبًا هو فنّ نسائيّ، لكنّني جعلت البطل أو صانع السجّاد رجلًا ذا خصوصيّة بالنسبة للهويّة، والوضع الاجتماعيّ، والمزاج العاطفيّ. الفنّ الآخر المقابل في الرواية هو صناعة الخزف من قبل إحدى الشخصيّات النسائيّة، إذ تشتهر مدينتي الرقّة بصناعة الخزف في تاريخها القديم، والذي يعود للألف العاشر قل الميلاد، بسبب نوع التربة التي يصنعها ماء الفرات، لكن هذه الصناعات تمّ تهميشها بالاتساق مع تهميش إنسان المنطقة هناك، من قبل السلطات في مراحل متعاقبة أو متقطّعة من التاريخ، لم نسمع أو نقرأ عن الخزّافات اللّواتي يفترض المنطق حضورهنّ، وهذا ما بنيت عليه في “سجّاد عجميّ”، فالرواية في وجه من وجوهها تكتب ما غاب عن التاريخ المكتوب، أو ما تمّ تغييبه، بما يتماشى مع منطق ذلك التاريخ، وحياة أفراده، وهذا ما يسمّى بالواقعيّة بوصفها مدرسة فنيّة. الفنّ ليس بالضرورة أجمل من الحياة، إنّه إعادة ترتيب العلاقات فيها، أو كتابة الاحتمالات الأخرى لها، وتجميع لتفاصيلها المتناثرة، وتبئير لها، بحيث تبدو أوضح، وأكثر تأثيرًا.
هل كنتِ ترين ما ستصل اليه الأمور خاصة وان لك دراسات في العلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي. هل كنت تنذريننا؟
لعلّ أيّة قراءة واعية للتاريخ كانت سترهص بالنتيجة التي وصل إليها الحال في العالم العربيّ، أصل الفتن سياسيّ، لا دينيّ ولا اجتماعيّ، لكن دائمًا هناك لطروادة خيول، وللأمواج ركّاب، تضيع الحقيقة بين ممارساتهم المتطرّفة. لقد اتخذت فكرة مصحف فاطمة حيلة فنيّة لأحكي من خلالها عن حقّ الناس في العيش بسلام وكرامة ومحبّة، عن حقّهم في أن يتمتّعوا بفكرة الوطن، والتنمية، والعدالة، والفنون، والحبّ، لا يختلف في ذلك من عاش في القرن الرابع الهجريّ عن الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين للميلاد. الأغراض المستمرّة أساس الكتابة لأنّها أساس الحياة، الحبّ والكره والخيانة والإخلاص والجشع.. ذلك كلّه لا ينتهي، ستختلف تجلّياته فحسب. للأسف التحوّلات القاسية التي كتبتها في سجّاد عجميّ، صادقَ عليها الواقع المرّ، لأنّها صادرة عن رؤية أنثروبولوجيّة ثقافيّة للتاريخ، لا عن عواطف أو أيدولوجيّات.
• في سجاد عجمي لغة الحوار عربية منتقاة بعناية شديدة جدا. بعض مفرداتها قد تكون صعبة على القارئ العادي. هل كنت تقصدين التغريب لبعض الوقت حتى يعود القارئ إلى الاحداث أم كنت تقصدين روعة النساء في الحكي والحديث كأنهنّ الأفضل؟.
– في قضيّة اللّغة، عمدت إلى أن أتحدّى مقدرتي اللّغويّة، ومعارفي، وبياني. أنا شخصيًّا لا أومن بكتابة أدبيّة لغتها ضعيفة، ولا برواية تخون فيها اللّغة منطق الحدث والشخصيّة والعصر. شخصيّات “سجّاد عجمي” عربيّة، تعيش في بيئة مازال الشعر أيقونتها، لكنّ البغداديّ يتكلّم بمفردات بيئته، والرقيّ بمفردات بيئة مغايرة، وكذلك المغاربيّ، والنساء يتفاضلن باللّغة لأنّها مقياس الثقافة والتحرّر بالنسبة إليهنّ، والجواري لهنّ لغة أخرى، ولا تتفوّق شخصيّة على أخرى إلاّ بقدرتها على التمتّع بالحياة والحبّ والعطاء. من خلال التمايز اللّغويّ يمكن أن نقيس مقدار الحريّة والرغبة. أعتز بلغة سجّاد عجميّ، لأنّ النصوص الروائيّة العربيّة في معظمها ذات لغة هزيلة، وهذا غير مسوَّغ على الإطلاق، وأعتزّ مرّة ثانية أنّ القرّاء من شرائح شتّى تفاعلوا مع لغة سجّاد عجميّ، ووقعوا في حبّها، هذا يعني أنّ الخراب ليس بسبب المتلقّي.
_________
*عن موقع “البوابة نيوز”