في شكر إدواردو جاليانو


* ديريك أوكييف / ترجمة: أزهار أحمد

كان لإدواردو جاليانو الفضل في لقائي بزوجتي، والسبب أن نقاشاتنا الجادة الأولى كانت تتمحور حول كتبه. وللأسف فقد تلقيت مؤخراً بكل أسى خبر وفاته بمرض السرطان، وتذكرت إرثه الأدبي والسياسي العظيم. نفيت عائلة زوجتي من التشيلي لأن والديها كانا جزءاً من الحركة الثورية، واضطروا للفرار مباشرة بعد انقلاب عام 1973 على حكومة سلفادور الليندي الديمقراطية الاشتراكية. حين كانت صغيرة سألت والدتها عن سبب وجود بعض كتبهم في حالة سيئة والتي كان من ضمنها كتاب جاليانو «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية»، فأخبرتها أنهم كانوا مجبرين على دفن كتبهم لأن النظام العسكري وقتها كان يصادر الكتب ويحرقها.

«ما سعى بوليفار لتحقيقه بالسيف، أنجزه جاليانو بالقلم»

يعد إدواردو جاليانو موهبة سابقة لعصرها. بدأ مهنته كصحفي في عمر مبكر في الأوروجواي وكان شخصية بارزة في السياسة وأدب أمريكا اللاتينية. ومن الصعب المبالغة في تأثيره في هذين المجالين، إلا أن المفكر البريطاني طارق علي قال عنه «ما سعى بوليفار لتحقيقه بالسيف، أنجزه جاليانو بالقلم». وبالرغم من أنه لم يحقق الشهرة العالمية التي حققها الكاتب جابرييل جارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل، إلا أن لجاليانو تأثيرًا منقطع النظير على أجيال مختلفة من السياسيين والناشطين في أمريكا اللاتينية.

تبدو كتابات جاليانو تمييزية أو مبالغاً بها في بعض الأحيان لغير المطلعين على السياسة والخطابة والثقافة في المنطقة. فعلى سبيل المثال، تدور فقرات كاملة حول الأقوال المأثورة، أو روح الدعابة، أو المقارنات شبه العبثية. والقليل فقط من الكتاب الذين لهم نفس أسلوبه، فمن بين الكتاب المعاصرين، يمكن القول أن أسلوب الروائية وكاتبة المقالات السياسية أرونداتي روي قريب من أسلوبه، كما نجد هذا الأسلوب في الاستنكارات البارعة واللاذعة في وصف الظلم في أعمال المؤلف توماس كينج (الذي كان بلا شك سيكون له تأثير كبير لو حقق كتابه «الهندي غير المناسب» ولو قليلا من التأثير في شمال أمريكا مثلما حقق كتاب «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية» في الجنوب).

إن مصدر كتابة جاليانو ينبع من تقديره العميق لتاريخ منطقته وحركات المقاومة الشرسة. حيث إن جاليانو لم يتوقف يوما عن التعبير بكل وضوح عن قسوة الاستعمار والامبريالية، إلا أن أمله في إعادة تشكيل قوات تحارب ضد الظلم كان دائمًا ضمنيًا على الأقل. وعلى الرغم من السخط والغضب على ما وصفه بالفظائع، إلا أن كتابته كانت دائما تنقل نوعا من التفاؤل. بالنسبة لجاليانو فإن كل جريمة تحوي في باطنها بذور الخراب. وكثيرا ما كان يحب الاستشهاد بالكلمات الأخيرة لزعيم المقاومة الأصلية توباك كاتارى، الذي توفي وهو يقود التمرد ضد الإسبان فيما يسمى الآن بوليفيا. حيث قال قبل إعدامه «يجب أن أعود وسوف أكون ملايين».

بلغ جاليانو ذروة غزارة إنتاجه الأدبي حين كان محبطاً وفاقداً للأمل وكان ذلك خلال سنوات الدكتاتورية وفرق الموت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وفي مرحلة متميزة انتهت بالنسخة المحدثة من الشرايين المفتوحة في عام 1978، تنبأ جاليانو فيها بسقوط نظام بينوشيه وديكتاتوريات أخرى من دول المخروط الجنوبي سنوات قبل تفكيكها.

في عام 1978، قبل عشر سنوات من الاستفتاء الشعبي الذي أطاح ببينوشيه، وقبل سنة واحدة من الثورة الساندينية في نيكاراغوا ظهر الكثير من النصوص التي تدعو للأمل بسذاجة. ومع ذلك شهد تاريخ أمريكا اللاتينية بالفعل مضاعفة في الأعمال الإبداعية بعد ذلك. ثم ظهر جيل من السياسيين والناشطين الذين نشأوا على قراءة جاليانو يحتلون مناصب في حكومات اليسار أو تيار يسار الوسط، أو يقودون حركات اجتماعية قوية. وأصبحت صور توباك كاتاري معلقة على جدران القصر الرئاسي الذي يقيم فيه إيفو موراليس، رئيس بوليفيا من السكان الأصليين.

أحدث الرئيس الراحل هوجو شافيز تغيرًا في سياسة الأمريكتين، حين أهدى بطريقته المسرحية الرئيس أوباما في عام 2009 نسخة من كتاب الشرايين المفتوحة أمام الكاميرات في قمة اجتماع الأمريكتين في ترينيداد. وفي يوم واحد ذاع صيت الكتاب ووصل إلى قائمة الأكثر مبيعًا لدى أمازون، فارتفع من المركز 29.54 إلى المركز السادس.

بعد أن نجحت حيلة شافيز، انتشرت عدوى الاشتراكية في نصف الكرة الغربي، أو على الأقل اليسارية من مختلف الأطياف، والتي عملت الولايات المتحدة وحلفائها بشراسة لاحتوائها في جزيرة كوبا، إلا أنها انتشرت في جميع أنحاء أمريكا الجنوبية والوسطى. لعب جاليانو المعروف بأفكاره التطرفية دورًا كبيرًا في مساعدة اليسار في أمريكا اللاتينية في انتشارهم بشكل سريع جدًا. ويشير لقاء أوباما مع راؤول كاسترو الأخير إلى بداية علاقة جديدة مع كوبا واعتراف إدارته بأن أميركا اللاتينية لم تعد مجرد الفناء الخلفي الذي يمشي عليه العم سام.

نجح جاليانو في مهنته ككاتب أن ينقل مبادئ العدالة الاجتماعية بحكمة وتعاطف، وليس بالاستنكار فحسب. كان يكره الشعارات العقيمة ولم يكن منتظما في أي حزب. وحين كتب تقييمه الصادق حول كوبا في عام 2003، أزعج وأغضب الكثير من يساري أمريكا اللاتينية.

***
اعتدت أنا وزوجتي أن نتحدث باستمرار عن استضافة جاليانو ليقدم خطاباً في فانكوفر. لكننا لم نتمكن من ذلك أبدا. مع أننا كنا قد اقتربنا من ذلك منذ سنتين. إلا أن منظم جولاته نقل إلينا خبراً سيئاً وهو أن جاليانو مريض مع انه يتمنى زيارة فانكوفر الجميلة. ثم قررنا تضمين بعض كلماته في حفل زواجنا، فاخترنا التالي من نثره:

– أعلنت الأمم المتحدة عن قوائم طويلة من حقوق الإنسان، ولكن الأغلبية الساحقة من البشر يتمتعون بتلك الحقوق فقط لينظروا ويسمعوا، ويظلوا صامتين. لنفترض أننا بدأنا بممارسة حلمنا الذي لم نطالب به أبدا. دعونا نركز أنظارنا إلى ما بعد فظائع اليوم إلى حياة أخرى ممكنة.

– في الشوارع، ينبغي أن تدهس الكلاب السيارات

– اليائسون يأملون والتائهون يصلون لأنهم يئسوا من فرط الأمل وضاعوا من فرط البحث عن الطريق

– ينبغي على الناس أن يعملوا ليعيشوا بدلاً من أن يعيشوا ليعملوا

– لا نسجن الشبان الرافضين الخدمة العسكرية بل نسجن من يقبل بها

– لا يجب أن يسمي الاقتصاديون مستوى الاستهلاك «مستوى الحياة» وكمية الأشياء «نوعية الحياة»

– يجب أن يدخل ضمن القانون جنحة البلاهة التي يرتكبها من يعيشون ليتملكوا أو ليربحوا بدلاً من أن يعيشوا من أجل العيش فقط، مثل العصفور الذي يغرّد من دون أن يعرف أنه يغرد والولد يلعب من دون أن يعرف أنه يلعب

– يجب أن يفهم السياسيون أن الفقراء لا يأكلون وعودا

– لا ينبغي لأحد أن يكون بطلا أو غبيا لأنه فعل ما يعتقده، ولكن بما يجعله أفضل

– لا ينبغي أن يشن العالم حربا على الفقراء بل على الفقر، وعندها لا خيار لصناع الأسلحة سوى إعلان الإفلاس

– لا ينبغي معاملة أطفال الشوارع كأنهم قذارة، لأنه لا ينبغي أن يوجد أطفال شوارع

– نكون مواطنين ومعاصرين حين نرغب في العدالة والجمال أياً كان البلد الأم والزمن الذي نعيش فيه من دون اعتبار للجغرافيا أو للزمن

________

*جريدة عُمان 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *