حكواتي “النوفرة”/قصة


*ناصر الريماوي

خاص- ( ثقافات )

بهذا أفضى لنا في فضاء الحافلة الصغيرة التي أقلّتنا إلى (جسر فيكتوريا)… 
صوّب ابتسامته بكل صفاء نحونا، كالمعتاد، رغم أننا سبقناه لنحتلّ عنوة كل مقاعدها الفارغة، لتكتظ بنا وبركّاب آخرين لا نعرفهم، قال: هي “الشّام”… هكذا تروق لي كلما احتوتني. 
بهذا أثنى على الأشياء فوق رصيف الجسر وهو يترجل عند محطتنا الاخيرة.
بعد “سوق الحميدية” افترقنا، إختار (مقهى النوفرة) وقصة الحكواتي، وقصدنا نحن بيتا قديما، بفسحة سماوية واسعة ونافورة ماء تحفها أشجار خشخاش وارفه. تردد صوت الحكواتي بين جنبات
(حي القيمرية) بنبرة عذبة، واختلط بصخب “النراجيل”، صاحبنا الذي غاب ككل ليلة في تفاصيل الحكايه، أوغل بعيداً، فغاب هذه المرة أكثر مما توقعنا، ولم يأتِ، وحين خشينا أن تفوتنا الحافلة الأخيرة فنفقد بهذا صبحنا التالي عند مصبات الحنين … كنّا نحن من يسعى إليه. 
قال لنا بعض روّاد الأمسية في ذلك المقهى: بأن الحكاية قد سرقته، وأن عباءة الراوي لم تشفع له، كالآخرين. في مدن أخرى مثل “حَلَبْ”، صادفه البعض وهو يحث الخطى نحو حديقتها العامة ويعبر ساحة “سعد الله الجابري” مسرعا، لمحه البعض الآخر وهو يجوب الطرقات المحاذية لشارع “بارون”، ويتفرس في وجوه المارّة ، يطل من نافذة ضيقة على شارع النيل، ويتلصص على عرائش الشرفات في (حي الموكامبو) …، ربما كان يبحث عن شيء فاته في تلك الحكاية. للشرفات التي لا تنام في “حلب” أسرارها… بهذا أفضى لبعض العابرين ذات ليلة. 
في “حمص” لم يؤكد أحد لنا شيئاً، غير أننا كنّا نحصي الظلال هناك وهي ترصف الطرقات بين (حي الدبلان) وشارع الغوطة، حتى طالعنا ظل لا يستريح، أو يستقرّ على مقعد، فعرفناه…! 
” بين الشام و حِمْص… كان لي حبيبة، وأصدقاء، كانوا يد الندى التي تغسل المدينة كل صباح…” 
لم نعثر على سواها أول الامر، لكننا سرعان ما وقعنا على قصاصات أخرى، وحفنة من كتابات باهتة على جدران المنازل والشجر… ، خلّفها الظلّ حين عانق ظلاً آخرَ يشبهه، فاستراح.
” من يأخذ بيدي لشارع الغوطة، لأسترد مقعدي هناك، برفقتها…، حيث كان يغشُّنا الصمت فوق رصيفه المبتل بثرثرات عشّاق لا يروننا، وكنّا نبلل برحيق شتلة عطر – تدلّت من حديقة بيت مجاور- حطب الشفاه، قبل ان نسرجَ ليلهُ بومض قبلات نطيرها لتشرع بسرد حكاية ديك الجنّ الحمصي، تعيدها على سمعي للمرة الألف، لِمَ كنتُ قاسياً لأفرّ من طوق الحكاية ولا اكترث!؟ من يأخذني الآن لنهر العاصي، لمفترق بين قلبين على النهر، لأنهي أمسية قديمة، رحلتُ عنها ذات يوم قبل اندياح الفجر بقليل، كيف لم أكمل قدح (الجمايكا) برفقتها هناك؟ وقلتُ لها سيجمعنا الصيف المقبل، فانتظريني!” 
لون السماء يتبدل تدريجياً مع الصيف، تحتله زرقة أليفة، تشوبه سحب بيضاء رقيقة، لكنها لا تعكر صفو النهر في انعكاسها على (العاصي). في الصيف فقط تتلاقى الظلال أيضا، لتفترق، كل هذا علانية أمام الملأ. كثيراً ما أغرته الشرفات المظللّة بالسهر والتحديق، والتي غالبا ما تفور بأضواء خافتة. 
في حي (الموكامبو) بحلب، ظلّ لشتاء بأكمله، على حالته تلك وهو يرقب الشرفات الخلفية، بلا سأم، يرصد الظلال، وهي تتقاسم حيزاً ضئيلا، ثم تفترق مع الصباح. قال لنا محتداً : وحدهُ الشتاء، ومزاج العسكر الثقيل، ما يسلبان منّا حقيقة الأماكن والناس، كي نقتفي أثر الأحبّة في الخفاء!
“ولم يأتِ الصيف ليظلّ وجه الماء عكراً بين بردى و نهر العاصي في إنعكاس موصول لسحب الرماد، وجهها بقي هناك معلقا بين (رستن) الليل ودوّار جاردينيا (حمص) كمظلة للدمع… بعض الاحاديث أيضاً ظلّت معلقة بيننا، كيف سأصغي لها الآن؟ “
تضيق الرؤى لتتسع بها الشّام، والحكواتي يقلّب صفحاته …!
يرتجل، وعيناه تمعنان النظر في الوجوه الملتفة، حول “ترابيزات” المقهى الصغيرة: “هذا الصيف كان مختلفا…، ساق الينا أرتالا مدججة بأمزجة ثقيلة، لعسكر يرسمون بالرصاص خارطة جديدة، فقط أنتَ لم تأتِ وهذا المقعد ينتظر، أراه يلملم ما تساقط من قُبلات ورصاص…أرى مقعدنا فارغاً، أقرأ عليه وعدك بالمجيء، كالقَسَمْ، فيرد كآبته في وجهي ويقول، في شارع الغوطة، ليس ثمة عشاق لهذا العام…! 
يسكت الحكواتي…، ليغرق (حي القيمرية) بالسكون، إستفاق صاحبنا على وقع الصمت، ابتسم لنا بصفائه المعهود، حثنا على الاسراع وهو يغادر المقهى، سبقنا بمسافة ليحظى وحده بمقعد فارغ هذه المرّة، وهو يقول: علينا اللحاق بالحافلة الأخيرة، وإلا بتنا هنا وفاتنا الصبح بين المقاهي عند النهر… 
وبين مصبّات الحنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قاص من الأردن 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *