رواية الحرب والإنسان تقتنص جائزة البوليتزر الأميركية



*هالة صلاح الدين

خلال أوائل القرن العشرين حتى أفقر المنازل الألمانية حوت أجهزة راديو بدعم من الحكومة النازية، مدموغة بالصليب المعقوف، ولا تسمح باستقبال الموجات القصيرة، فقط الترددات الألمانية، والاستماع إلى الترددات الأجنبية جريمة تحت حكم الاشتراكية القومية. وفي رواية “كل ما لا يسعنا رؤيته من ضوء”، يستحضر الكاتب الأميركي أنتوني دور صاحب المجموعة القصصية “جامع الأصداف” عصرا كان فيه سماع صوت شخص غريب بعيد في بيوتنا بمثابة إنجاز تكنولوجي.

يكتب أنتوني دور في قالب سوريالي عن الحب والتاريخ والقدر، وقد نجح في أن تصير روايته “مشروعا للإنسانية” كما ودّ لها. تتجمع خيوطها وتلتئم مع اكتمال عقدتها في كمال، مستعينة بصور بلاغية شعرية مدهشة جديرة بالرواية الأميركية العظيمة.
ولعل هذه الصفة وحدها هي ما أفضت إلى جائزة البوليتسر الأميركية “لما بالرواية من سعة خيال وتعقيد أسرا أهوال الحرب العالمية الثانية. مكتوبة في فصول موجزة رائعة تسبر الطبيعة البشرية والقوى المتناقضة للتكنولوجيا”، كما صرح رئيس لجنة الجائزة.
تتجلى موهبة دور السردية منذ الصفحة الأولى حين يحكي، “ينهمرون في الغسق من السماء. ينطلقون عبر المتاريس. يتشقلبون أعلى الأسطح، يذرعون الوهدان مهتاجين بين المنازل. شوارع بأكملها تدوم بهم، يندفعون بيض اللون على حصى الأرصفة. يجاهرون، رسالة عاجلة لسكان هذه البلدة، غادروا على الفور إلى الريف المفتوح”.
وبعد تلك اللحظات تتناهى إلينا شخصيات ثانوية تتجادل حول الحرب، هل ستقع بالفعل؟ وبعد عدة أيام فقط لا غير، نرتطم بالحقيقة الناشبة في الأعناق، “لقد تجردت الحرب من أداة الاستفهام”.
العمى مجازا
عقد كامل قضاه أنتوني دور في كتابة هذه الرواية، عقد حتى عثر على ماري لور، فتاة عمياء تعيش في باريس مع أبيها صانع الأقفال بالمتحف القومي للتاريخ الطبيعي. وهناك، في أغوار سراديبه تتوارى جوهرة ملعونة في خلال آخر 200 عام.
والعمى هنا مجاز عن سياق المرحلة التاريخي؛ ففي نهاية الثلاثينات ومستهل الأربعينات، فقد السياسيون الأوروبيون أبصارهم، وراحت شخصيات دور تنحت في الصخر محاولة شق الجدار أملا في بصيص من النور.
لا يخلف الروائي ماري فريسة للانعزال والتحسر على الذات، إذ يحوّل عالمها المظلم إلى مشهد نابض بالروائح واللمسات والأصوات والطعوم، ويتشبع عقلها بروايتي “حول العالم في ثمانين يوما” و”عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر”، للفرنسي جول فيرن، وكتاب داروين “رحلة البيجل”.
كادر نخبوي
يشدّ فيرنر فينيج اليتيم، “عبقري أجهزة اللاسلكي”، القاطن في بلدة تعدين ألمانية، انتباه النازيين، “فوجهه نموذج مثالي للجنس الآري”. إنه في السابعة بشعر أبيض كالثلج، والاقتراب منه “وكأنك في غرفة مع ريشة”. تغويه منظمة شباب هتلر، فيتجنب بنجاح مصير مناجم التعدين التي قضى فيها أبوه نحبه.
يرسلونه إلى معهد قومي يدرّب كادرا نخبويا لخدمة الرايخ، فيتتبع خائن المبادئ موجات اللاسلكي عبر روسيا وأوروبا الوسطى. يخبره صديقه في المعهد السياسي القومي للتعليم،”لا يهم ما أريده، إن مشكلتك يا فيرنر هي أنك لا تزال تصدق أنك تمتلك حياتك”.
ولا مناص بالفعل من أن يصارع الصبي دموية الحرب، والقرارات الكارثية تتعقب أثره حتى تفضي به إلى عواقب لا تغتفر، ومع كل هذا يتسلل إلينا ضعفه الإنساني ونتعاطف مع صباه المهدور. يضفر دور هذه القصة في حرفية شديدة بقصة الفتاة التي نلقاها أشد بصيرة من كل الكبار حولها.
وفي نهاية الأحداث، والفتاة في قلب المقاومة الفرنسية توصل رسائل مشفرة مندسة في أرغفة الخبز، يستمع الصبي الذي أوقعته الفاشية في حبائلها إلى صوت فتاتنا عبر الراديو. وبراءة الطفولة النابعة من عيني ماري العاجزتين تلمس برودة الاختراعات الميكانيكية، وإن لا تنكر حتمية التقدم التقني وجدواه. والمفاجأة ستكون الشخص الذي سينتهي به الأمر إلى تصحيح بوصلة الصبي الأخلاقية.
كانت المدينة باختصار لوحة للرسام الهولندي موريتس كور نليس إسخر أو مدينة منتزعة من خيال الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو. كانت في الحقيقة تعود إلى ألف عام مضت غير أن المدفعية الأميركية دمرتها بالكامل عام 1944. أعاد أهلها بناءها، الحجر حذو الحجر، لتستر جدرانها ببراعة متناهية آيات الفناء المنصرم.
الاقتضاب النافذ
لا تتسم رواية دور بسعة المدى أو ملحمية النظرة، وتكنيكها ليس بالضرورة راديكاليا، فأقصى ما طمح إليه الراوي هو سرد الحدث على خلفية من وقائع ماضية. ولكن كل هذه النقائص تتغلب عليها حبكة محكمة ونثر شعري مفعم بالصفات البديعة، نثر ليس في حاجة حقا إلى تزويق.
ولتأثر دور بالشاعرة الكندية آن كارسون والروائي الأميركي كورماك ماكرثي، نجد جمله مقتضبة نافذة بلا هدر أو هلهلة، تردّد صدى تشوش اللاسلكي. وبينما كانت هذه البساطة محل انتقاد النقاد ممن يهوون الأسلوب الأوبرالي، وجدها القراء محببة من النفس. وظلت الرواية في قائمة نيويورك تايمز لأفضل الكتب مبيعا لمدة عام كامل، كما ترشحت لجائزة أفضل كتاب على المستوى القومي.
لا يخفي دور إشكالية الصدام بين قيم الأخلاق الرمزية والتحرر العلمي، وكثيرا ما يتصادمان. وبالضوء يعني المؤلف “الضوء المرئي” الذي نبصره بـأعيننا، وليس غير المرئي في الطيف الكهرومغناطيسي.
يحتفي في الرواية بأشعة غاما والأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء، أي كل الضوء الذي لا نراه يرتحل حولنا. يتلاعبون بالبيانات اللاسلكية الطافية في الهواء و”يسخّرون العلم والطب في خدمة القتل”، كما يقول عم ماري الأكبر الذي كان يستخدم جهاز الإرسال لصالح المقاومة.
يتساءل دور إن كانت هذه الصور النمطية تعبّر على أي نحو عن الحقيقة، أو إن كانت حتى جديرة بالإبداع القصصي. فحنو هتلر على الحيوانات لا يجعله أقل دموية أو وحشية، فقط يجعله إنسانا.
والكاتب يحاول، بالرغم من دهشته من ارتكاب الألمان العاديين كل هذه الجرائم، أن يطفئ زوال الوجود اليومي في دراما الحزن والأمل، ويؤكد على إنسانية الطرفين ليرسم صورا أشد تعقيدا وواقعية للأخيار والأشرار، فيما يلمح، والحرب العالمية الثانية تخبو من الذاكرة مع زوال آخر الناجين، إلى كل ما لا يسعنا رؤيته من ضوء.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *