المشروع الإبداعي والنص المفرد


*يوسف ضمرة


عُرف الكثير من شعراء العرب بقصيدة واحدة، على الرغم من إنجازهم الكثير من القصائد، ومن ذلك مثلاً أصحاب المعلقات، ومالك بن الريب، والشنفرى، وابن زريق البغدادي، وغيرهم.
وإذا كنا نتغنى اليوم بقصائد محمود درويش التي كتبها في سنواته الأخيرة (لا تعتذر عما فعلت نموذجاً)، فهذا لا يختصر محمود درويش في هذه القصائد، ولا ينسينا أننا كنا تغنينا بأحمد الزعتر وبيروت، ومن قبل بقصيدته «سجل أنا عربي»، التي غيّبها درويش عن ندواته قبل ثلاثة عقود أو أكثر.
ثمة كتابات تظل تمتلك روحاً حية، ترفرف في دواخلنا، حتى لو ارتقت ذائقتنا وكبر وعينا المعرفي والجمالي. صحيح أن كبار الكتاب في العالم عُرفوا بعمل أو بنص مميز، لكن هذا لا يعني أنهم لم ينجزوا سواه، بل يمكن القول إن العمل المميز هو تتويج للأعمال المجهولة، والجهد الكبير الذي بذله صاحبها لكي ترى النور.
فالعالم كله يعرف رواية د. ه. لورانس «عشيق الليدي تشاترلي»، وربما لو سألنا كثيرين عن روايات أو قصص أخرى لهذا الكاتب لما عرفوا شيئاً، إنه أمر طبيعي جداً أن تترك بعض الأعمال دون غيرها بصمة أو علامة في داخلنا، تفتقر إليها أعمال الكاتب الأخرى. وقليلون فقط من الكتاب والمبدعين عبر التاريخ، من عُرفوا بأعمال كثيرة مميزة، مثل شكسبير، وديستويفسكي، وكتاب المأساة اليونانية «آسخيلوس، وسوفوكليس، ويوروبيديس»، بل يمكن القول هنا إننا لا نستطيع اختيار نص محدد لهؤلاء المبدعين، ونقدمه على سواه.
ما نود قوله، هو أن العمل الإبداعي مرتبط بظروف ولادته؛ بوعي الكاتب والوقائع الموضوعية، وحرارة الموضوعات، والقيمة الفكرية، والثقافة السائدة، فعلى سبيل المثال، يمكننا اليوم أن نقول إن قصيدة «سجل أنا عربي» فقيرة شعرياً، وإنها أقرب إلى شعارات التظاهرات والأحزاب والمرافعات السياسية، لكنها حين ظهورها وجدت العالم العربي كله يحفظها ويرددها كخبز يومي. كانت الجماهير تواقة لأي كتابة ترفع من همتها التي أصيبت بعطب كبير إثر هزيمة حزيران، فجاءت القصيدة كي تقول لهذه الجماهير: انظروا ماذا يفعل الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، إنه يتحداه ويقارعه، وهو ما تقاطع مع بروز مقاومة فلسطينية في تلك المرحلة، لتصبح القصيدة نشيداً ثورياً عفوياً، إلى أن اختلف المسار، وظهرت ملامح مستقبل كان ينتظرنا، غير الملامح التي كنا رسمناها في نشيدنا، وهو ما ينطبق على كثير من قصائد درويش في تلك المرحلة، ونخص هنا «يوميات جرح مكابر»، التي كتبها رداً على فدوى طوقان «نحن يا أختاه من عشرين عام (نحن لا نكتب أشعاراً)، لكننا نقاوم».
ليست هذه وقفة مخصصة لمحمود درويش، بمقدار ما كان درويش نموذجاً لطرح الفكرة الأساسية، الفكرة التي نقول من خلالها إن كل ما يكتبه المبدعون الكبار يتوافر على أهمية معينة في سياق مشروع إبداعي كبير، وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نلغي أو نشطب أعمال الكاتب السابقة، ولو لم تعد تتناسب ووعيه الإبداعي المتأخر، الذي قفز بأعماله مراتب ودرجات كثيرة.
يستطيع الكاتب نفسه أن يتجاهل ما شاء من كتابته، لكننا سنظل نحتفظ في داخلنا بتلك القيمة التي مثلها هذا العمل أو ذاك يوماً ما، بل يمكن القول إن تلك الأعمال السابقة، قد تأخذ بأيدينا إلى فهم المزيد عن آلية الإبداع وتطوره وسحره وغموضه.
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *