تحرش افتراضي وخسائر واقعية ‪جدّاً



* لمياء المقدم

البعض يتعفف من التحرش الواقعي، ولا يتوانى عن الإتيان به افتراضيا، معتقدا بذلك أنه أرقى ممن يمارسونه في الشارع فنحن نقول له لا فرق أبدا، من يسطو على حرية وخصوصية غيره، متحرش رخيص.

تصلني أحيانا رسائل من صديقات فيسبوكيات يشتكين من سطو بنات “فيسبوكيات أيضا” على حبيبهن، سطوا كاملا، يستعملن فيه كل الأسلحة والوسائل المتاحة. عالم حيوي، حي ومتحرك، كل شيء فيه على حافة أن يكون، وأن لا يكون.

السطو الذي يتحدثن عنه افتراضي طبعا، لكنه يخلف آثارا وانعكاسات وخيمة على من تم التعدي عليها، ويفسد العلاقات وربما يهدم أواصر وروابط حقيقية. في الغالب أنصح من تطلب رأيي بتجاهل الأمر، وأعرف أنني لا أساعدها كثيرا، وأن الألم الذي تشعر به ليس افتراضيا على الإطلاق، بل هو حقيقي جدا.

السوشيل ميديا اكتشاف عظيم، قدم للإنسانية الكثير، قاد الثورات في العالم العربي، وأسهم في إدارة وتنظيم الحركات الاحتجاجية، والعمالية والنسوية وغيرها في أماكن كثيرة من العالم. ولأنه كذلك فإن حكومات كثيرة تخشاه.

وتبذل كل ما لديها من وسائل تعتيم لكي لا يصل إلى الناس، ولنا في الصين خير مثال. حكومات أخرى تدعه يصل، لكنها تشغل ميليشيات وجنودا في الخفاء من أجل نشر الإشاعات وترويج الأكاذيب، واستغلال كل كبيرة وصغيرة لجر الناس إلى نقاشات ومواضيع عقيمة، وصرف نظهرهم عن الحقوق والحريات، والانتهاكات التي تنال من كرامتهم.

في العالم المتقدم انتبهوا إلى حيوية وأهمية السوشيل ميديا، وأصبحت كل مؤسسة أو شركة تلحق بها من هو متخصص في إدارتها من أجل الترويج لمنتجها واسمها، وربط علاقات وإيجاد شركاء وأتباع.

في الصحافة والإعلام أيضا، ظهرت تخصصات ووظائف جديدة، مهمتها التركيز على ما تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار وأحداث، كوظيفة محرر سوشيل ميديا، مثلا، التي لا يخلو منها قسم.

مكتشوفها أنفسهم الذين لم يكونوا يوما يعتقدون أنهم أوجدوا هذا الغول الهائل، يطورونها باستمرار لتقوم بوظائف مستحدثة، وتغطي احتياجات اقتصادية، واجتماعية وسياسية ، حتى أصبح كل سياسي، أو حقوقي، أو ناشط، أو فنان، أو موسيقي، أو طبيب، أو مدرب يملك صفحة على الفيسبوك وحسابا على تويتر وقائمة أخرى من المواقع.

في الوقت الذي يستفيد فيه غيرنا من هذا المنبر المذهل، الذي يكاد يصل إلى أخر مواطن في أطرف مكان في العالم، منبر متعدد الوظائف والاستخدامات، وفي الوقت الذي تتسابق فيه الشركات على فهم سلوك مستخديمه لتقديم الخدمات الأقرب إليهم، يستغله البعض من أجل التسلية والترفيه والتسكع الافتراضي. لا اعتراض على التسلية.

فقد كانت ولا تزال واحدة من دوافع إيجاد وسائل التواصل هذه، بل إن التواصل في حد ذاته تسلية. أما أن يقتصر استخدامه، على المعاكسة، والمشاحنة، والشد، والجر، والمطاحنة فهذا أمر غريب.

منذ فترة وجيزة كنت أتحدث مع شاعر معروف، ثم جاءت سيرة شاعر أخر بيننا فإذا به يصفه بـ“شاعر فيسبوكي”، والعبارة كما لا يخفى، مشحونة بالتعالي والاستنقاص من المتحدث عنه، ليس بسبب قيمته الأدبية والفنية، بل لأنه ينشر على أداة “المعاكسة” و“الترفيه الوضيعة”، التي تسمى فيسبوك، مع أن فيسبوك اليوم لا يخلو من شعراء كبار، يكتبون يوميا على جدرانه قصائد عظيمة، يقرأها جمهور عريض من المتذوقين ويداومون عليها. ولا أعرف من أين جاءتنا فكرة أن فيسبوك شيء تافه، لا يجب التعامل معه ومع ما ينشر عليه بجدية؟

متحرشو السوشيل ميديا لا يقلون ابتذالا، عن أي متسكع يلاحق الفتيات في الشوارع والساحات، والمقاهي، والمنعطفات، وإذا كان البعض يتعفف من التحرش الواقعي، ولا يتوانى عن الإتيان به افتراضيا، معتقدا بذلك أنه أرقى ممن يمارسونه في الشارع فنحن نقول له لا فرق أبدا. من يسطو على حرية وخصوصية غيره، متحرش رخيص، فلا تحاول أن تقنع نفسك بغير ذلك.
___________

*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *