رسائل السادة والعبيد..


*سميحة المصري

( ثقافات )

كُنّا سَيّدينِ
وبعدَ الذهاب صِرْنا عَبداً واحِداً …

…………………..

رأيتُ الحياةَ تتنزّهُ بِبَنانٍ فـَبَيانٍ؛ بِحَنانٍ؛ على وترٍ شَجِيّ مُنفصلٍ عن الضجيج، ورأيتُ معها الموتَ المُطارِد، لم أكُنْ نِدّاً لعلوهِ فودّعني تاركاً وعْده المُسَجّى، باللقاء، المُنَوّس صوته الخَطيرُ المُفزع، لذلكَ لمْ أمُتْ الا بمقدارِ ما انْدسَّ في سريرتي من الأوهام المتمادية والهواجس التي تلفحُ الأنفاس، لقد أصبحتُ أحَدَّ بصراً، وأجملَ وأطولَ مقالاً، ما اهْونَ الموتَ على اللامنتظِر! وما أصعبه على الواقفِ خلفَ أكثر المخابئ حميمية وهَسيساً ..هكذا قالتْ ريحانة وهيَ تَتمشى عند النهر ….

أدورُ وَليسَ منْ بابٍ فأطُرقه أو عَتَبةٍ فتَلقاني
..دواليكَ حتى بَدا كُلّ عَراء الأرض
فمنْ يُمَنطقُ كلّ هذي التَراويد وهذي الأغاني!

الليلُ سيّدُ السادة حينَ يصيرونَ …أسيادَ رسائلهم … ووسائدهم، ويصبحونَ أُسارى الأرقِ في حَضرةِ نُجومهمْ التي تَفِزُّ مِن أناهم ..حينَ يُشاطِرونَ العبيد معنى كَلمة حُرّية، وخُبز، ومَحبّة، وقِربة ماءٍ غير مَثقوبة، ..حينَ يُشافهونَ العَبيد معنى كَلمة (..الله .. )

الليلُ مُؤنِس العَبيد الذين يودّعونه بينما يَغْرَقُ في نوبةِ ضَحكٍ، غير مُدرجةٍ في قوائِمِ “الليلاتِ السود” ولمْ تُسَجّلْ في مرْماهُ خساراتٍ تُذْكر، ولا توجدُ خلفَ ظِلالهِ سفنٌ مُحَمّلة بذعرِ المُنتظرين على المرافئ بالزُهور ..
أيها السادة، أيها العبيد ..ذبولُ أي وردة كانَ يجبُ أنْ يحصلَ بعد مشهدٍ ربيعي، النهاياتُ كانَ يجبُ ان تجيءَ بعد مشهدٍ شتوي، الحياةُ كان يجبُ أن تُعاشُ حتى لو على نحوٍ يتعارضُ مع ما تُريدون، تلكَ الاشارات التي تتركونها على الدروبِ والريح آتية لا محالة  لماذا لم تحفروها في القلوبِ فما أكثر الاشياء التي اكتملتْ بالاشارةِ وذهبتْ ولمْ تَعُدْ ..لقد محَتِ الريحُ بيوت الرَمل…فالريحُ دائما تَعبثُ بالأثر..

ليسَ من حقِ السادة أو العبيد ان يقيدوا أقدامَ الطريق البعيدة أو أن يحبسوا أنفاسها، إنها مكانٌ جيدٌ للتنزه، وقد تصلحُ ضِفافها كَعَتَباتٍ متروكة لــلحديثِ عن قصيدةِ تحكي عنِ الاحلام المُرّةِ أو الحُلوَة ،الطيور المهاجِرة، العِنَب الأحمر، السواقي المُعَطّلة، بقايا مَحَبّات لَمْ تَنْضُجْ، ولكني لستُ أكيدة من هذا تماماً، مكانٌ لطيفٌ أيضاً لحديثٍ ذو شُجون ولكنْ ليسَ هناكَ أشخاصٌ مؤهلينَ للاعتناءِ بالحالات الطارئة! فالشيخوخة – يا لها من كلمة محزنة – (أمَرّها) طيّبٌ ان لمْ تمكُثْ طويلاً في النفسِ، تُشبهُ اغنية تلامسُ شغافَ القلب وقتَ “بُرهة التدليل” القصيرة التي تَحظى بها من مُهذّبٍ أو عزيز ولكن: ليسَ صواباً ألّا تُحررَهم من عتبكَ في حالِ لمْ يُمسكوا بيدِ “عَشمكَ” وَقْتَ بُرهَة الحُزن تِلك، فلا أحدَ مُلزَم بِمسكِ خيوط الشمس وتسليطِها على بردكَ ليَشِعَّ دِفئكَ ثُم تشِّع ظُنونكَ الجَميلة بهم .

وللعسسِ أن يترفقوا بمَنْ يَظنّونَ بأنهم أشباح الظلام قبلَ أن يتنفسوا موتاً في وجهِ رباتِ الحياة اللابِسات فساتين زرقٌ وخُضرٌ وبنفسجياتٌ ، عليكم أنْ تَدَعوا الطُرق تتنفسَ فما من فينيقٍ أخذ نيشانَ الخُلود ..

نَسيتُ مراراً أنْ أتحدّثَ عنِ العبدِ السيدِ بلسان ضبابيةِ قَدَرِهِ، فما أحزنَ القلمَ حينَ يُلقي بصره على مساءَينِ أحدهما مقيدٌ والآخر طائرٌ، ونسيتُ بكائي الداخلي لأجل اعتيادهم وأُلفَتهم وتكيّفهم مع الأصعب والأشد غرابة وهو نهوض الأسف الأكبر! وعندما سُئلتُ قلتُ: نسيتُ بأنَ قارئي الأكثر حنيناً والأكثرُ سيادةً هو “وطنٌ ” غيورٌ يقيمُ أبداً في شرعةِ قلقهِ، وأنا أتأملُ كيفَ يقلقُ الذهب ..!! ومن خلفِ جفنيهِ يُودعُ كتاباتي مُغلّفات تحملُ اسْمي ويبعثها بالبريدِ في رحلةٍ الى الآن لمْ تصِلْ ويَكتبُ عليها .. من رسائلِ السادةِ للعبيد ..ثُم يذيلها بعبارة ” زهورٌ لا أعرفُ لمن اهديها “

هل يقلقُ العبيدُ ..هل يقلقُ السادة ..! يا للسخرية ..!
أما آنَ أنْ يتفَيأ العبدُ فما أكثرَ أشجار البلّوط / والصنوبر / وما أوسعَ المَمْشى
والوحشتانِ ؟ أما آنَ لَهما أنْ تَتبددا !
والمَسرحيتان / أما آن لَهما أنْ تُمَثْلا؟
فليَتباطأ وقْت الرحلة لا أُريدُ أنْ أصلَ قبلَ انْ تَمحو كُحلَ الهَباء من عينِ الطَريقِ
أُريدُ الكثيرَ من الأباريقِ العَبيقة، لأصُبّها على حرائقِ الحيّ العتيقةِ وسهْده العَتيق ..

دائماً خلفَ (الهواجيس) توجدُ سَنابِل لا تقدرُالسَواعدَ أن تَحصدها، وسِرُّ لا يصلحُ للبوحِ، هُناكَ أسَفٌ سَرّاقٌ، وقصيدةٌ ليتَها تكتَمل، ولقاءٌ ينتَظِرالوصْل، وشخص تتمنى أن يُحبكَ وتُحبه، ويدٌ تتمنى لَوْ تصافحكَ طويلاً، هناكَ قرابين عليكَ انْ تقدمها من أجلِ خطاياكَ التي أوهموكَ بها …

هناكَ كشوفُ حسابٍ بينكَ وبينَ نفسكَ عليكَ أن تاخذها بعينِ الاعتبار، عليكَ أن تكونَ مُتطرفاً جداً وبدون مُرافعات ولا شُهود فأنتَ وحدكَ الآن وكل هؤلاءِ مُستعرضون أو مُسْتَطولون! عليكَ انْ تكونَ عارياً تماماً أمامَ بطولاتكَ المُفْتعلة، وهزائمكَ الملفوفة بكيسٍ شفّاف، ومسلسل السعار والأرق المخلوط بمائكَ، وسباحتك الطويلة في بحرٍ أهْوج فأنتَ بهذا تفحصُ منسوبَ الشَرف عندكَ وهو ما لا يعرفه عنكَ الا أنتَ ..

بالمناسبة : لا تحتاجُ لأنْ تغمض عينيك لِترى بوضوحٍ أكثر …وأخبرني بعدها أسيّدٌ أنت ؟

بِلا تَيئيسٍ من طباعِ الدنيا ولكن: مَنْ لي بِمَنْ احَدّثه ولا يَنهَبُ بواكيرَ الكلام، عن العظماءِ والأدبِ وتفاصيلَ الرحلة ولا يَمِلُّ، ومِنْ ثُم تبدأ فَيْنَتهُ للحديثِ ولنْ أمِلّ هناكَ عُمرٌ اضافيٌّ في الأعمار فقطْ للذينَ صَمتوا طويلاً ، هنا ثمّةَ منْ يرْقُبهم – وما أشد وطْأة وَخز الترَقُب – وثمّةَ مَنْ يَرْقبونه مِنْ خلفِ قماشٍ بالغِ الرَهافَة، مُفرِطٌ في التَنَسّكِ ..وقليل الشُرود أمامَ دربٍ وحيدٍ منْ بينِ كلّ تلكَ الدروب …

وأنا أستمعُ لصوتِ الضميرِ ذاتَ غيبةٍ، وافْرِطُ في السعيِ من أجلِ النَوال والتَطَهّر سمعتُ صوتَ خَطيتي تقول : أبداً لمْ تُخطئي؛ الكاهنُ الذي بشّركِ بالخطيةِ لمْ يَسمعْ صوتَ الله ولمْ يقرأ ماذا خَطَّ قلمُ الله …فليكنْ تَطهّركِ بالمصابيحِ والزهورِ والكشّافاتِ التي لا تُطفئها أصداءُ الذينَ ( يُهَذْرِمون )….

الذينَ يتوافدونَ إلى الليلِ بُمقتنياتِهم النَفيسةِ والبَسيطةِ تُرى ماذا يَبنونَ داخله؟ هلْ يعلمونَ بأنَ الليلَ هوَ سيّدُ الدُوار، وسَيدُ العَتماتِ، وسيّدُ التَجلي، وسَيدُ الكتابة، وسيّدُ الوحْشة، وسَيد الأنْسِ، وسيّد السادَةِ حينَ تَتَسَيّدُ أحزانَهم على أحلامهم ، وسيدُ العَبيد حينَ يَرَونَ شَمساً تُشْرِقُ منْ ظُلمتهِ لَهم وحدهم ، وسيّدهم حينَ يتشاركونَ عُبوديةَ المَحَبّة فيما بينَهم قبلَ أنْ يُلبِسهم السادةُ عبوديةَ البغضِ والفَوقية والتَعالي ..

الليلُ وَقْدَ العَبيد الذينَ يسخرونَ من ليلٍ باردٍ يَسْتعطفهم مِعطَفهم ليَتدَفأ…
الليل مُفَكّرَة العبيد الذينَ خانتهم ذاكِرتهم، فَخانوها، فصاروا أشقياءَ لأنَهم ينشدونَ البرهة المارّة ما لا تَملكُ وما يملكون! فَوَقفوا هُم على جانبٍ من الآمال وهي على الآخر …
الليل غَيثُ العبيد الذينَ يَحلمونَ بالمَطرِ ..والذينَ يتقاسمونَ شتاءَ المدينة في ليلةٍ حافيةٍ، باردةٍ، مُنْتَشينَ بِقَمرٍ وحيدٍ لا يَطلعُ إلّا لَهمْ ..
الحُبُ لا يتأمّلُ التفاصيل الموجِعَة وَلكنّه يَعرفُ مَتى وكيفَ يَكفرُ بالغُفران …
السادةُ سادةٌ بلا أسباب، والعبيدُ سادةٌ بلا أسباب أيضاً …
فـ ، طوبى للمُتمردين …
____________

*شاعرة من الأردن تقيم في الإمارات

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *