*د. شهلا العجيلي
نمتلك متلازمات لغويّة يصعب التخلّص منها، تصير مثل فعل “بافلوف” المنعكس الشرطيّ، وتلازمنا كلحن يسكن في الذاكرة، نستعيده في لحظة قلق متجاوز. صديقتي قالت لي إنّها كلّما رأت أحدهم يأكل جزراً، تُفلت من فمها عبارة طفوليّة لتقول له: الجزر يقوّي البصر! وأحدهم قال لي إنّه كلّما حطّت حمامة على شبّاكه قال لها: “أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا”! في حين أنّني كلّما وقفت على شاطئ الخليج العربيّ في إحدى دوله، يكون لزاماً عليّ أن أردّد عبارات”السيّاب”: “أصيح بالخليج: يا خليج، يا واهب اللولؤ والمحار والردى/ فيرجع الصدى/ كأنّه النشيج”.
فعلت ذلك منذ يومين فائتين، في زيارتي إلى معرض أبو ظبي للكتاب، بدعوة من مؤسّسة “بحر الثقافة”، لألتقي مع المهتمّين بالكتابة الروائيّة على مدى ساعة، حكيت فيها عن مؤرّقات الكتابة في رواية الشباب العربيّ. عنوان المعرض لهذا العام هو “أبو ظبي تقرأ”، وهي تقرأ فعلاً. المكان الذي أقمت فيه كان يطلّ على بوابات المعرض، كنت أرى أعداد الداخلين والخارجين، المحملين بالكتب بفرح: نساء ورجال شباب بخاصّة، وأطفال ومراهقين… وعلى أرض المعرض كلّ يتصفّح، وينتقي، ويسأل عن عناوين محدّدة، وهذا عدا عن الوافدين، والضيوف العرب والأجانب. الخدمات كلّها متوافرة ومجّانيّة، والمساعدات تقدّم لك من الجهات كلّها، وأَفيدُها عربة حمل الكتب التي تريحك من حمل الأكياس المرهقة، كما أنّ غالبيّة المكمّلات صديقة للبيئة. وعلى الرغم من أنّ الإقبال ممتاز، والمعرض مزدحم، فإنّ الزحام لا يضايقك، بسبب التنظيم الفائق، والتقاليد التي تمّ إرساؤها منذ سنوات. التقيت أيضاً بالذين قدموا من إمارات أخرى بمناسبة المعرض، كانوا يتناقشون بحماس حول العناوين التي انتقوها، أو التي يطمحون في الحصول عليها في اليوم التالي.
أرجوكم! لا تدعوا عقدة النفط تحجب الحقيقة عن أعينكم، لتزدروا بعض الجغرافيا، أو بعض تاريخ الآخرين، فما كان للمال وحده أن يصنع بلاداً في الهجيرة، بل ثمّة وعي حادّ بالتغيير وإرادة متّئدة. أرجوكم ثانية أن تتوقّفوا عن التبشير بنظريّة الدفع التاريخيّة، التي تقول إنّنا في في الشام، والعراق، واليمن، ومصر نعود إلى عشرة آلاف قبل الميلاد، وإنّ غيرنا مازال يحبو في درب الحضارة، وذلك الطول الزمنيّ كفيل بدفعنا لنقوم من جديد، وننطلق بقوّة! لا تنسوا أنّ الحتميّة العلميّة سقطت باكتشاف الطفرة، وأنّ أميركا التي تصطفّون طوابير على أبواب سفاراتها، عمرها لا يزيد على مئة وخمسين عاماً فقط، وأنّ الخليج العربيّ هو جمّاع لحضارات قديمة، عربيّة، وإفريقيّة شرقيّة، وفارسيّة، وبذلك فهو يمثّل هجنة عزّ نظيرها، وإن كان الاتحاد قد قام بين الإمارات العربيّة الصغيرة عام 1971.
في الشام حرب، وفي العراق حرب، وكذلك في اليمن ومصر، وفي الحرب ليس ثمّة إمكانيّة لتعزيز القراءة بوصفها فعلاً للتغيير، لتكون جماعيّة، ومدعومة من الدولة، وكلّ شروطها متوافرة بما فيها الرغبة الفرديّة. البلاد التي تقولون عنها صحراء تقرأ بشغف، وتنتج موادّها القرائيّة بشكل أو بآخر، وليس صدفة أن يكون جلّ ما اقتنيته من كتب المعرض، صدر في مشروع “كلمة” للترجمة، وهو مشروع داعم، وتابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، في حين ثمّة بلاد متأصّلة في الصخور والجذور، وضاربة في التاريخ بوصفها دولاً، غادرتها نجمة الحظ، وتركتها للحرب، والمرض، والجوع، والفساد، والتهجير، والملاحقات الأمنيّة.
سعدت بفكرة القراءة الواعية، فتلك ظاهرة، لا حدثاً عابراً أو فرديّاً، إذ وجدت من خلال متابعتي لكتابة الروائيّين الشباب في الخليج ، ثيمة الدعوة إلى القراءة داخل نصوصهم، كما فعل الإماراتيّ سلطان العميمي في روايته “ص. ب 1003″، التي تحكي تحوّلات مجتمع يسير على مهل، والقراءة نافذته التي يتعرّف منها على العالم،وكذلك فعل السعوديّ طاهر الزهراني في روايته “الميكانيكي”، التي يفرد فيها خريطة شوارع جدّة الخلفيّة البائسة، التي تغرق بمياه المجاري، وتمّ إصلاحها فقط حين بدأت تخرّب الإسفلت في الطريق المؤدّي إلى مكّة، فالإسفلت في نظر الحكومة أغلى من الناس كما يقول! ضمن هذه السرديّة الناقدة تظهر القراءة مخلّصة للعالم البسيط، الذي لا يحتاج للبريق كي يغدو سعيداً، لكنّه يحتاج إلى دار واحدة للسينما، يمكن أن يحضر المرء في صالتها فيلماً من أفلام “دزني”، لأنّ السينما فعل جمعي، لا يعوّضه الـ DVD، وألاّ يُضطرّ لأن يُمنح إذن السفر إلى البحرين من قبل ذويه ليخوض التجربة.
في الحين الذي تصير فيه السينما ترفاً مفقوداً، تُحرق المسارح، وتهدّم الصالات في بلاد الفنّ، والجمال، والحريّة، الاجتماعيّة، ويصير الذهاب إلى ما بقي منها أشبه بالموت!
كان الأولى بنا أن نسعد بالقراءة، وقبل ذلك، بالصحّة، والرخاء، والحبّ، وأن نجلس في الحدائق، ونستمتع برياح شرق المتوسّط، وأرجوكم أيضاً ألا تحدّثوني عن “مدن الملح”، والمستقبل البعيد. حدّثوني عن حياتي المسروقة، وأحلامي التي شظّتها مكاسب الآخرين، وأطماعهم، وثوراتهم! حدّثوني عن الأمن الذي يعيش في المواطن، لا العكس، أمن بلا مظاهر أمنيّة مرعبة تحاصره. ولا تتبجّحوا بالتاريخ، والحضارة، فكم من مرّة عليّ أن أقول إنّ الثقافات ليست تفاضليّة، وإنّ أبناء كلّ ثقافة ينسجمون مع مكوّناتها، ويعون هويّتهم الوطنيّة انطلاقاً من هذا الانسجام. كان الأجدر بنا بوصفنا مواطنين حداثيّين أن نأخذ حقوقنا ونقوم بواجباتنا، من غير أسبقيّة الواجب على الحقّ، لكنّ أعمارنا ذهبت في إثبات حسن النوايا، وفي مواربات في التعبير عن رغباتنا بحياة أفضل، وفي تجنّب مواجهة الغوغاء الذين خرّبوا بيوتنا وذهبوا إلى باريس.
أعرف ما سيقال عن التحالفات الدوليّة، وطائراتها، وصواريخها، لكنّني أتحدّث عن حياة مواطنين في دولتهم، وأتابع الشاطئ الآخر مع السيّاب: “وأسمع القرى تئنّ والمهاجرين/ يصارعون بالمجاديف وبالقلوع/ عواصف الخليج، والرعود… وينثر الخليج من هباته الكثار/ على الرمال، رغوه الأجاج والمحار/ وما تبقّى من عظام بائس غريق/ من المهاجرين ظلّ يشرب الردى/ من لجّة الخليج والقرار/ وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق/ من زهرة يربّها الفرات بالندى!”
_______
*عمّان.نت