حتى الأجساد ستتصل ببعضها عبر الانترنت مستقبلاً !


*ترجمة: رقية الكمالي

يتصل حوالي ملياري شخص وربما أكثر عبر شبكة الإنترنت. وفي غضون سنوات قليلة، سيعيش معظم سكان العالم في ظل تدفق مستمر للمعلومات. يحيط بنا الكثير من الأجهزة الذكية في حياتنا اليومية، على سبيل المثال: السيارات، الثلاجات، عدادات الكهرباء، النظارات، الساعات، وما إلى ذلك، ولن تتأخر أجسادنا أيضا بالاتصال ببعضها البعض على الشبكة العالمية!

يتشكل هذا العالم الرقمي، حيث نقوم ببناء جزء متزايد من وجودنا، بواسطة ما يزيد قليلا على ألف من العلماء و المهندسين في مجال الحاسب الآلي “الكمبيوتر”، ومعظمهم يعمل في وادي السليكون الواقع في المنطقة الجنوبية من منطقة خليج سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأميركية. ومن بين المهام المسؤولين عنها: لغة الـ HTML وهي اللغة المستخدمة لإنشاء صفحات الإنترنت، أجهزة الكمبيوتر الشخصي، الأي فون، والبرامج الرئيسية التي نستخدمها يوميا، بالإضافة إلى مواقع الإنترنت الأكثر تصفحا على مستوى العالم. 
فلسفة الكمبيوتر
أحد هؤلاء العلماء يعمل ويكتب في فلسفة الكمبيوتر منذ خمسة وثلاثين عاما، وهو جارون لانير. من جهة، يعتبر لانير والد مفهوم “الواقع الافتراضي”، ومشارك مؤسس في حركة البرمجيات الحرة، وعضوا في شبكة الأعمال العالمية المؤثرة. ومن جهة أخرى، لا يؤيد المصادر المفتوحة أو مجانية المعلومات، أو الويب 2.0؛ ولديه رهبة من تقدم الذكاء الاصطناعي. كما أنه لا يقرأ بنهم مجلة Wired على الرغم من أنه يكتب فيها. يستند هذا الفكر كليا على بديهية تنص على أن: الحياة هي نظام للمعلومات، ووفقا لهذا المنظور، فإن مجرة درب التبانة، المحيطات، الإنسان، الفكر أو المشاعر هي عبارة عن تجمعات معلوماتية، وقواعد بيانات متنوعة يجب على الخوارزمية “أو نظام الحلول الحسابية” أن تكون قادرة على جعلها واضحة ومعالجتها. 
بالنسبة للانير، أصبح الإنترنت الأداة الرئيسية لتحول الإنسان إلى بتات قابلة للقياس و التنظيم، (البت : هي وحدة قياس الآلات الإلكترونية وهي عبارة عن نبضة كهربائية إما موجبة أو سالبة ،ويرمز لها بأحد الرقمين الثنائيين: 1 أو 0 ) . رغم أن شبكة الإنترنت تقدم منذ عشرين عاما مشهدا انفتاحيا لفوضى واسعة، غير أنها اليوم تتكون من مجموعات غيرمعروفة بقيادة المجموعات التجارية الكبيرة على سبيل المثال Facebook ، Google ، Yahoo، و Amazon ، ينسى لانير عادة مديره في العمل Microsoft) )، بالإضافة إلى عدد قليل من الشركات ، مثل: Wikimedia و Mozilla. يعتقد لانير أن احتكار شبكة الويب على يد أقلية أدى إلى أربعة آثار مؤسفة:
1- تقييس وتماثل المحتوى الرقمي والسلوكي، الذي يصاحبه إفقار ثقافي كبير، 
2- 2- إشادة وثناء جماهير مجهولة على حساب أشخاص معينين مما قد يضر ببعض الأفراد الرائعين الذين ليس لديهم جماهيرية أو لايجدون دعما .
3- 3- التقزم الاقتصادي وتآكل الطبقة الوسطى في الغرب.
4- 4- إضعاف مفهوم الإنسانية ذاته.
التوحيد القياسي للأدوات الرقمية ومستخدميها
مثل أي تقنية ، تشيء المعلوماتية الأفكار العامة أي تحولها إلى أشياء في أجهزة صلبة ومرنة. كل البرامج الجديدة وكل جهاز كمبيوتر جديد أو محيطي “يقع بعيدا عن المركز”، قد لايعمل إلا إذا تم ضبطه في نظام بيئي معلوماتي يتطور ببطء نسبيا، لهذا السبب، يرى لانير أن التفرد التقني مجرد هراء وكلام فارغ. قد تزداد القدرات الحسابية للأجهزة” hardware” ” الضعف كل عامين، وفقا لقانون مور، (بالفرنسية : loi de Moore) ، الذي ابتكره غوردون مور أحد مؤسسي إنتل عام 1965، حيث لاحظ أن زيادة عدد الترانزستورات على شريحة المعالج بدون تكلفة يتضاعف تقريبا كل عامين، وأدت هذه الملاحظة إلى بدء دمج السيليكون والدوائر المتكاملة من قبل إنتل مما ساهم في تنشيط الثورة التقنية في شتى أنحاء العالم، بينما لاتتبعها البرمجيات والخوارزميات (softwares) ، ناهيك عن المؤسسات والعادات الثقافية. 
الكمبيوتر أذكى من الإنسان؟
تقوم أجهزة الكمبيوتر الأكثر نفوذا في العالم بأكثر من مليون مليار عملية حسابية في الثانية، لكنها ليست “أكثر ذكاء” من مخترعها ، ولا تزال أقل بكثير من خيال الإنسان
.
بسؤالنا عن معالجة البرامج التي نتفاعل معها كأفراد، يحث المهندسون المعماريون الأفراد على التصرف كما البرامج. هناك طريقة آمنة جدا لحل اختبار Turing ، الذي يهدف للكشف بين متحاورين مختبئين أحدهما جهاز كمبيوتر والآخر إنسان ، إنه انتقاص لمكانة الإنسان على مستوى الحاسوب، بدلا من محاولة رفع الكمبيوتر إلى المستوى الإنساني. إذا كانت الآلات تحل محل العمالة الماهرة، فإن هذا لايعني أنها أصبحت بذكاء وحساسية البشر. عندما نشبه الآلة الذكية بالإنسان، فهذا لن يكون إلا على حساب افتقار تصورنا للإنسانية.
المزيد والمزيد من أنشطتنا الرقمية موجهة نحو الخوارزميات بدلا من الإنسان. ومن المرجح أن تقوم الخوارزميات بتصنيع الجزء المتنامي من المحتوى الرقمي. ومن ثم، يتم حث مستخدمي الإنترنت يوميا على الامتثال لمنطق أجهزة الكمبيوتر، والتعبير عن الذات والتواصل مع الآخرين بناء على الالتزام بالمعايير التي تحددها برمجيات الحاسوب. على نحو نموذجي، يقدم موقع التواصل الاجتماعي Facebook للمستخدمين ميزة التعبير عن فرديتهم عن طريق ملء استمارات موحدة. مثل هذا التوحيد القياسي للمحتوى ينطوي على فقر ثقافي خطير. 
محو الأمية الرقمية
لقد أصيب الإنتاج الثقافي الحالي بخلل، كما يتم إعادة تسجيل أصوات مختلفة وتعديل لا نهاية له للموسيقى والبرامج التلفزيونية والأفلام المنتجة خلال الفترة 1970-1990. من المؤكد أننا نستطيع دوزنتها كما هو الحال في شبكة الإنترنت، مما يجعل إعداد وجمع الأفلام والموسيقى أمرا سهلا ، و يعزز بشكل كبير من ثقافة الريميكس والدمج. تستند شبكة الإنترنت إلى رقمنة الواقع، ما هو أكثر من الاعتيادي أن محو الأمية الرقمية ينبغي أن يشمل الثقافة غير الرقمية كمحتوى رئيسي أولي، على الأقل في البداية. في المقابل، هناك اهتمام في الكيفية التي يؤثر بها وادي السليكون على شبكة الإنترنت لزيادة الهيمنة العالمية للثقافة الأميركية.
الحكمة العمياء للجماهير
يتم إنتاج محتوى مواقع الويب 2.0 مثل ويكيبيديا، تويتر أو الفيسبوك، بناء على ما يكتبه وينشره مستخدميها. تكمن المشكلة في ويب 2.0 هو أن الفرد يختفي فيه وراء الجماهير، وخلف كتلة عديمة الشكل من المساهمين المجهولين . لم يدعم ويب 2،0 الذكاء الفردي والتمكين الشخصي بل غريزة القطيع، وعقلية العشيرة والجماعة، ورفض الآراء المتضاربة. فمن الواضح أن الاحتفال بحكمة الجماهير يخفي الحقيقة التي تمجد قوة الآلات وضخامة البيانات، وهذه البيانات الكثيرة جدا تحتاج أساليب جديدة لتخزينها وتنظيمها ومعالجتها. يمثل الجمهور في نظر مهندسي ويب 2.0 المعلومات المحررة من الجهات الفردية المصدرة لها. إنه تصور متناقض للجمهور المدافع عنه بواسطة الشركات الرقمية الكبيرة حيث يمثل الجمهور هذه القوة من المعلومات المحررة التي يجب نشرها بحرية مطلقة.
في الوقت الذي تتباهى فيه مواقع الإنترنت الرئيسية بالحياد التام مع مستخدميها، تظهر عملاءها الحقيقيين وهم عبارة عن مجموعات كبيرة تشتري بيانات ومساحات إعلانية، وتعاملهم بطريقة أفضل من الآخرين .
يضيف لانير في هذا الصدد أن الخوارزميات التي تستخدمها المواقع الرئيسية لا تتضمن تصنيفات المستخدمين وفقا لأنظمة إحصائية، لكنها تؤثر على هؤلاء المستخدمين بطريقة التأكيد على هذه الأنظمة. وقتئذ، تميل إلى خلق واقع يتوافق مع معاييرها، حتى لو لم تستند هذه المعايير إلا على حقائق قابلة للقياس الكمي. على سبيل المثال، بالإضافة إلى الخوارزمية المستخدمة في مواقع التعارف، فهي تشجع على تشكيل أنواع معينة من الأزواج ومعظم هذه الأنواع من العلاقات لديها فرصة للتكاثر و الازدياد. بناء عليه، تخلق الخوارزمية واقعا يتفق مع افتراضاتها وفئاتها الإحصائية ، أو بالأحرى، إلى افتراضات المصممين والفئات الإحصائية لمستخدمي الموقع. 
باختصار، بدلا من ابتكار كل ماهو جديد، فإن مواقع الإنترنت ، التي تجمع غالبية مستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم، تولد الامتثال للشبكة، وهذا التطابق يدعم بمقدار ما يوجد الاندماج عبر القوة البسيطة للأرقام، وهو بدون شك، يجمع التنميط الأدائي لمنطق الجماهير الذي تبدو آثاره على الواقع هي الأكثر وضوحا.
إعادة تأسيس الإنسان
بالنسبة للانير، تعد أهم قضية في مجال التقنية والمعلومات هي:”كيف يؤثر تعريفنا للإنسان في هذه المجال؟ لقد غيرتنا التقنية الرقمية بعمق باعتبارها جزءا متناميا في ثقافتنا وبيئتنا الرقمية، كما أن حياتنا تعتمد بشكل متزايد على قدرتنا على التعامل مع المعلومات من خلال أجهزة الكمبيوتر المتصلة ببعضها البعض، ويتم إعادة صياغة الفن، القانون، الاقتصاد وكذلك السياسة وفقا لمعايير التقنية الخاصة. ومن ثم نتساءل: كيف سيكون الغد عندما يصبح من الصعب استقبال جميع أنواع الرقائق في جسد الإنسان؟
يؤدي تزايد انتشار التقنيات الرقمية، تحت غطاء التقليل من قدراتنا ومجالات العمل لدينا، إلى تقييد سلطتنا في اتخاذ القرار والمنطقة الواقعة تحت مسؤوليتنا، لتقدم لنا البرمجيات المشورة، ونوعية الموسيقى التي نستمع إليها وما هي الأفلام التي ينبغي مشاهدتها، ماذا نأكل وأين نذهب؟، ماذا نلبس وكيف؟…إلخ.
لم تكن التقنية يوما سوى أداة لخدمة الإنسان، والويل لتلك الجماهير الغفيرة التي تمجد الأدوات الرقمية كما لو كانت أهدافا في حد ذاتها. وعلى عكس الرأي السائد، فإن التقنية ليست فاضلة ولا مفسدة بحد ذاتها ، وليست هي من تجعلنا أفضل أو أسوأ أخلاقيا أوثقافيا أو فكريا، هي فقط تجعل أنشطتنا أكثر كفاءة، على سبيل المثال، إدارة مخيم للاجئين، البحث عن عنوان مطعم أو الاستعداد للسفر ومعرفة الكثير عن وجهتنا السياحية . إن تتويج مبدأ الفعالية كقيمة أساسية في المجتمعات الغربية، في مقام مبادئ العدالة والكرامة والمساواة والتضامن، من أبرز وأكثر الآثار الضارة لهذا التقديس التقني . 
______
حكمة 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *