قوة الكتابة.. و الرقابة الماكرة على الذات


*ترجمة: عادل صادق

يقول الأديب الأميركي الراحل كورت فونيغات، ” مؤخراً فقط توصلتُ إلى فهم أن الكتّاب ليسوا هامشيين بالنسبة لمجتمعنا، ذلك أنهم يقومون لنا، في الواقع، بتفكيرنا كله ، و أننا نكتب أساطير و يؤمن الناس بأساطيرنا هذه، و يظل الإيمان بالأساطير القديمة سارياً حتى يكتب شخصٌ ما أسطورة جديدة “.

و في الوقت الذي يبدو واضحاً فيه أن الكتّاب لا ” يقومون بكل تفكيرنا لنا “، فليس هناك من شكٍ في أن الكتّاب، كالفنانين من كل الأنواع، يمتلكون قوةً تخشاها بعض الحكومات و التنظيمات الدينية، كما يقول الكاتب النايجيري بين أوكري Ben Okri في مقاله هذا. ففي عام 1995، أُعدم الكاتب النايجيري كَين سارو ـ ويوا لانتقاده الحكومة النايجيرية و قيادته حملة اللاعنف ضد شركات البترول التي تخرّب البلاد. و اليوم هناك كتّاب كثيرون يقبعون في السجون في مختلف أنحاء العالم لكن في مجتمعنا نادراً ما يُسجن الكتّاب بسبب كلماتهم أو آرائهم. فلدينا هنا حرية كلام و يمكننا أن ندعو أنفسنا أحراراً. و هناك القليل من الرقابة العلنية. و ليس هناك عقاب واضح على الكتّاب الذين يسائلون النظام أو الذين يناصرون التعبير الفردي. و على كل حال، فإن نوم تشومسكي يقول في كتابه ( المصلحة المشتركة The Common Good )، ” إن الطريقة الذكية لإبقاء الناس سلبيين و مطيعين هي تحديد طيف الرأي المقبول بشكل صارم، لكن مع السماح للنقاش الحيوي جداً ضمن ذلك الطيف “. و الرقابة تأتي في أشكال كثيرة بمعنى أن بلداً نعتقد بأننا أحرار فيه يمكن أن يكون أكثر كبتاً لحرية الفكر من آخر تكون حريتنا فيه مقيَّدة بقوانين خارجية واضحة ــ لأننا ببساطة غير قادرين على رؤية التقييدات الداخلية أو الذاتية التي نضعها لأنفسنا. فهناك طرق كثيرة لـ ” تحديد طيف الرأي المقبول ” و بعض هذه الطرق ماكرة أو دقيقة جداً إلى حد أننا يمكن ألاّ نكون حتى مدركين أن هذا هو ما يحدث.

و في عالمنا الدنيوي على نحوٍ متزايد لم تعد الكنيسة لوحدها تحدد ما الأورثذوكسي أو ” المعتقد القويم “. فقد تأرجح البندول من عقيدة الكنيسة إلى عقيدة العلم. و العلم يقوم بمساهمة لا تُقدر بثمن في فهمنا للعالم و في نوعية حياتنا، لكن روح الاستفهام و الاكتشاف لديه تتعرض لخطر إبداله بأورثذوكسية تقودها الشركات. فبمرور الزمن اخترقت روح العقلانية العلمية المجتمع كله و حددت في غضون ذلك ما هو أرثذوكسي و ما هو هرطقي. و حيث اتّهمت الكنيسة غاليلو ذات يوم بالهرطقة و عاقبته لرأيه بأن الشمس و ليس الأرض تقع في مركز النظام الشمسي، فإن العلماء المعاصرين الذين يخرجون على الوضع الراهن و يتَحدَّون الأرثذوكسيات الحالية يتعرضون للعقاب من خلال سخرية الرأي العام، و يجري التضييق على الصحافة العلمية. و حلت محل ملاحقة الساحرات و السحرة مع التعذيب و الإحراق في الماضي عقوبة السخرية و العزلة الاجتماعية في وقتنا هذا. إذ يجري الآن إبعاد الآراء الخارجة على التقليد و تجريدها بالتالي من قوتها. و يتم التهكم على ما هو غير منطقي أو متعذر القياس تقليدياً، مصنّفين إياه بـ ” العصر الجديد “، و بأنه خفيف الوزن، و أحمق … إلخ. و هكذا فإننا في الوقت الذي نعتقد فيه بأن عقولنا حرة، تجدنا محصورين ضمن ما أسماه تشومسكي بـ ” الطيف المحدَّد للرأي المقبول “، ممارسين بذلك من دون وعيٍ الرقابة على أنفسنا، و على كتابتنا بطبيعة الحال.
__________
 عن/ A Way of Being Free/ المدى 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *