* عبد القادر بن جدو
( ثقافات )
من سؤال الأمكنة والهوية والذات.. من مساءلة التاريخ ومن سؤال الآخر، تأتي رواية الكاتب الجزائري الدكتور أمين الزاوي التي تحمل عنوان “الرعشة”؛ رواية تثير فينا رعشة أخرى، وتضمر سردا غير الذي تقوله؛ سردا يحمل كثيرا من المعاني والدلالات التي تتواطأ مع المجهول الذي يقهر الواقع والمعاش هربا من هذه الحياة إلى عوالم أخرى في انتظار ما هو آت..
القارئ لهذه الرواية يتساءل بداية عن السر الذي تعيشه هاته الخالة – البطلة – و الذي لا يبوح الكاتب بسرها وسر علاقته بها إلا في الفصل الثامن، أي قبل نهاية الرواية بفصلين فقط؛ فمنذ اللحظة التي يدخل فيها الكاتب (وأقول الكاتب هنا، لأنه هو من يقوم بتحريك العملية الروائية كلها وبتدخل مباشر منه)، بيت زهرة “خالته” – في الواقع أو في السرد – التي تقطن المدينة يحدث نوع من الاسترجاع لهذه اللحظة ولأحداثها التي تشبه الذكريات وتتوقف الأحداث في اللحظة التي التقى فيها الكاتب زهرة، توقف في المكان وفي الزمان لتولد حكاية من حكاية .. حكاية عبارة عن علاقة جنسية أو ما شابه الجنس في خضم أحداث غير سوية عصفت بالبلاد و العباد. كما أن صورة هذا البطل هي صورة المثقف المنعزل، المشرد بين الفيافي و ناطحات السحاب، الممزق والمغيب في وجوده فهو الغائب الحاضر من خلال لعبة الراوي/الكاتب.
دلالات.. الزاوي
الرعشة تأريخ لما بعد الاستقلال تحديدا، وتحديدا عصر اليوم الثالث الذي سبق الاستقلال، وكيف تغير وجه الجزائر بين ليلة وضحاها، والعقداء الثلاثة، الذين قوضوا ورهنوا مستقبل الجزائر، أو من يسمون (الباءات الثلاثة) – هذه هي الحقيقة في نظر البعض، وقد تكون غير ذلك؛ وعلاقة “زهرة” بشوراكي الفرنسي، فالغاصب مذكر ويجب أن يكون كذلك؛ وما نتج عن هذه العلاقة “الوطيدة” التي دامت قرنا ونصف القرن تقريبا، وحينما يحمل الأبناء جينات دوستويفسكي في الجريمة والعقاب، ويصبح الابن جلاد أبيه في ارتكاب الجريمة وفي العقاب مع الرمزية في حكم الجزائر الذي هو على الورق.. فقط، “لقد تزوج أبي زهرة على الورق وأمي في الواقع”. وكأن مدلول الخالة هنا هو الصورة الأخرى للأم؛ أو ما يقابلها لأنها أخت الأم، كما أن الأم في الموروث الشعبي والاجتماعي هي الوطن، فالذي يغتصب الخالة هنا كمن يغتصب الصورة الأخرى لهذا الوطن لأن الوطن الأول قد اغتصب أصلا ومنذ الاستقلال من طرف أولئك الذين يدعون أنهم حرروه.
لهذا فقد اتخذ الكاتب الجنس مطية وتورية لهذا الاغتصاب الذي يقوم به الأبناء تجاه أوطانهم، فالخالة في المدلول التراثي والشعبي تعني الوطن الثاني على اعتبار أن الأم هي الوطن الأول. وما بين الرعشة والرغبة تأخذنا الكتابة إلى هكذا مهاجسة و مشاكسة.
لقد تراجعت الجزائر كثيرا في تطورها ورقيها وحضارتها عندما لم نفهم الاستعمار أو المستعمر بأنه الغازي الذي أتى من أجل تعليم هذا الشعب الثورة على الجهل و محو الأمية.. لا على هذا المستعمر نفسه، هكذا يقول الراوي؛ فهل اختارت الجزائر قدرها ومصيرها على يد رجالها ونسائها، يوم استقلت مثلما أنبأها بها عزرائيل عصر اليوم الثالث من الاستقلال.. هل اختارت الجزائر قبرها يوم استقلت.. ؟؟؟
لقد أثر الواقع الجديد في الجزائر على كل شيء تقريبا بداية من السوسيولوجيا إلى الاقتصاد إلى السياسة إلى الكتاب.. إلى أنماط جديدة من الكتابة، ودرج الدكتور الزاوي على كتابة سرد من خلال الموروث الثقافي و اللغوي العربي/الإسلامي، على طريقة “كليلة ودمنة” و”حكايا شهرزاد” و”الإمتاع والمؤانسة” للتوحيدي و غيرهم من أهل التراث.
ما أراده الزاوي من هذه الرواية هو محاولة تشكيل وعي جديد لجيل جديد يختلف لا محالة عن الجيل المؤسس، فهو لا يؤمن بالخوارق والمحرمات، فقد ولت فترة الكاتب النرجسي والخيالي.. الذين شكلوا نرجسية زائفة وسط حرب شائنة ومخيالا رجعيا.. خلف حربا جديدة !!! (الطاهر وطار، رشيد بوجدرة وبن هدوقة.. ).
يتورط الكاتب إذا في “أيديولوجية كتابة الدم” على خلفية سنوات الفجيعة والنار
والخطيئة، فالرواية حديث عن واقع، عن حرب الأخوين (ص82)، ..حرب نبشت جراءها القبور وأصدرت الفتاوى ونزلت اللعنة، ليقول الكاتب عن نفسه “أنا هنا في الوسط، أو أنا الزوبعة”، ليتناص مع الكتابة ويصرح ” ..مرات تجيء الأفكار دون أن نفكر.”؛ هاته الكتابة جاءت إذا حاكما وجلادا في نفس الوقت على ما صنعه أجدادنا، يقول في (ص9) “يروى أن ابن خلدون نفسه، ..ربما تزوج جدة من جدات خالتي.. “.
والإشارة إلى ابن خلدون هو إحالة إلى كونه يعبر عن التاريخ – الجزائري – تحديدا باعتباره ابن هذا البلد الذي صودر في هويته وانتمائه، وأن المقبرة هي عمق الجزائر بأبعادها الاجتماعية والدينية وتنوعها، لما فيها قبور كل الديانات المسيحية
و الإسلام، ..واليهود الذين شوهت قبورهم وأزيلت شواهدهم المعبر عنها بالنجمة السداسية.. ورابعة العدوية.. ومارية.
“الرعشة” كتابة داخل الكتابة، رواية تدور حول المرأة والجنس والإيروتيكا؛ وهو ما درج الروائي على كتابته في رواياته، فتيمة الجنس حاضرة كثيرا، فكل روايات الزاوي تشكل حلفا إيروتيكيا على الطريقة التراثية، لكن الكاتب نفسه ينفي عن نفسه وعن رواياته هذا الطابع أو هاته السمة.
لقد أراد الكاتب لهاته الرواية أن تكون رواية ضد السلطة التي يحملها الأخطاء التي وقعت فيها نتيجة ظهور الإرهاب الطفولي، الجامح والمهووس جنسيا المتمثل في شخصية العباس (وما تحيل إليه هذه الشخصية في الواقع)؛ والدعاية له، المتمثل في والدته- هذا الإرهاب الذي جاء من رحم الحنان والرحمة-؛ هي في الواقع مدلولات سيمانتية/دلالية ونقد في الحقيقة لما هو دين الذي استباح كل المقدسات لنجد في النهاية أن الرواية تنتهي هكذا وبطريقة “فجة” ومتسرعة، كما أننا لا نجد عملية “الجنس” ممتعة أو شيقة، فالكاتب لم يترك الحرية للراوي ليحكي لنا تفاصيل اللحظة الممتعة لهذه الرعشة؛ فنجدها مبتورة عنوة، لأن الكاتب ربما لم يكن يهمه مصير العملية الجنسية وتبعاتها؛ بقدر ما كان هّمه نهاية هذه الرواية وبأسرع وقت ممكن، مما جعلها رواية غير كاملة أو غير مكتملة فهو ومنذ الصفحة (ص71) .. أصبح يفكر في نهاية هذه الرواية.
لقد راهن الدكتور الزاوي على “المحظور” في الكتابة أو ما أسماها الصديق الخير شوار في حوار مع صاحب الرواية “نصوص الهامش الممنوعة”، من خلال التطرق إلى رواية من شاكلة أدب الجنس لضمان الترجمة والنشر لكن خيبة الزاوي جاءت كبيرة في هذه الرواية التي مرت مرور الكرام (أيمن السامرائي: الجنس في الرواية الجزائرية).
شيفرة.. الزاوي
لقد ولج الكاتب/الراوي ومنذ الفصل السادس نوعا من المتاهة المقصودة.. أو غير المقصودة يقول: “اندلق اللسان فاض على الكلام أو فاض الكلام عليه.. “، وأراد أن يستقي من التاريخ والواقع رموزا وشيفرات ويعبر بكثير من الدلالات على واقعنا و ما نعيشه.. لقد حرمنا كثيرا من المحللات.. لقد بدأ اليباب في الأرض والخراب في الروح.. وجفت الدالية والتهمت العنزات ما بقي من أوراق الأشجار المثمرة و اختفى النعناع”، و أيضا : “حين قامت الثورة وسبَعْنا الوطن وجاء الاستقلال.. ولم يبق سوى مخطوط المتنبي وأخرى في النكاح والمعاشرة والطلاق و هذا ما أنجبته الجزائر بعد الاستقلال”.
ومن تقنيات هذه الرواية أيضا لازمة ” ..سأثبت نص الورقة كاملا في الفصل اللاحق”؛ وهي تقنية انفرد بها الدكتور الزاوي– كما انفرد بها قبله الدكتور السعيد بوطاجين في قصصه -، بحيث كتب بمكر وخديعة وترو كبير فقد جاء الزمن الخطي أي الخارجي للرواية بطيئا جدا وفيه رتابة قاتلة؛ ومن هذه التقنيات أيضا في (ص36) : “كلام محذوف من فعل فاعل” (والذي هو الكاتب أصلا).
و أيضا : “وهناك رواية ثالثة ستحكيها خالتي فيما بعد” (ص38)، فهو كاتب يسبق الأحداث.. “غارقا في روايته” (ص40) هكذا يقول، وهي في اعتقادي حالات سردية مر بها الكاتب الراوي تنم عن تقطعات في الرؤيا واللحظة الإبداعية التي تختلف لا محالة عن لحظة الكتابة أو ما نسميه الزمن الخارجي والزمن الداخلي للكتابة أو للرواية. مع استخدام تقنية الصور السنيمائية : “أهرب إلى هذه الصورة التي تقابلني في إطارها، معلقة في البهو.. ” (ص44)، فهو يدخل تقنية السرد الروائي بمعاييره التقليدية والتراثية (نبيل سليمان: بناء الرواية العربية)، مع أسلوب الكتابة لتنسجم كلها في قالب سيمانتي/دلالي “علي أن أبدأ اللعبة، لا تهم معرفة قوانين اللعبة، سأدركها من خلال اللعب نفسه” ..وعن النظرة الاستشراقية للكاتب أو ما نسميه الرافد الاستشراقي وعن مستويات الكتابة والمعرفة ونوعية القارئ المقابل أو المحتمل يقول (ص69) : ” ..في ذلك الشرق المشكل من الشمس والرمل و الآلهة الكثيرة والأنبياء و الرسل”،.. “و كان يسكن مارية شك في مدى جواز الحج على متن بابور (سفينة)، دنس والبغال المبردعة والأحصنة المسرجة واقفة عند الباب”، و “كيف تجوز زيارة الكعبة المكرمة على متن باخرة ربابنتها كفرة، يأكلون لحم الخنزير ويتمنون للحجاج الميامين حجا مباركا !!” وكذلك قوله في عيد المسيحيين المعروف بالآلووين.. “فالأموات عندنا لا عيد لهم”، هذا الرافد الاستشراقي هو نتيجة هذا الشعور بأننا في حاجة إلى أن نكتب لهذا الغرب/الآخر تحت وصاية ما، ما يجعل من هذه الرواية عبارة عن سرد داخلي وذاتي نتيجة النظرة الفوقية التي تختلف لا محالة عن واقع معيش في خضم أحداث يومية بسيطة وهشة يعيشها الراوي مع هذا الوطن/الآخر الذي يراه في صورة خالته معتمدا على تلك النظرة الفوقية دائما، بحكم موقعه من الإعراب حينها لما يحدث في الجزائر، و هو وجوده وإقامته في فرنسا فهو يكتب عن المجتمع بدل أن يكتب له وإليه، ويجعل من العلاقة بين القارئ والنص “علاقة غير متكافئة”؛ ” ..ويمكن القول بأن الكثير من النصوص الجزائرية المكتوبة بالفرنسية – وحتى العربية منها التي تهادن الشرق أو الغرب في اعتقادي – تتأثر بهذه العلاقة غير المتكافئة التي تحمل، بهذه الدرجة أو تلك، هذه النصوص على تقديم الواقع قيد السرد في صورة ترضي قناعات “الآخر” و مخياله و مركزيته” ( إبراهيم سعدي: تأثير القارئ الفرنسي على النص الجزائري ).
وما يؤخذ على الرواية الجزائرية “المعاصرة” عموما أنها تعتمد تلك النظرة الفوقية للأشياء ولا تذهب إلى عمق هاته الأشياء، وكأننا أمام كتابة من أجل الكتابة؛ كتاب لا يأخذهم ذلك الهاجس الإنساني/الجمالي، وإنما وفي كثير من الأحيان تتحكم فيهم شكليات وقوالب وأنساق من الكتابة وسياسات تبقى أسيرة النظرة الضيقة و الحسابات غير الناضجة، لكن وفي الحقيقة هناك بعض الأقلام الأخرى التي تكتب بزخم – والتي لا تعني بالضرورة الكثرة – ونتيجة هذا الزخم وهذه “الطريقة” في الكتابة فإنها تعطي ذلك التميز السيمانتي والدلالي المنشود في كل عمل ذا قيمة إبداعية.