*هيثم حسين
تعود الروائية السورية غادة السمان في روايتها “يا دمشق وداعا” إلى مدينتها في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، لترسم بدايات التغيير الذي أحدث شروخا عميقة في بنيتها، على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثير كل جانب على الآخر، وعلى صورة المدينة نفسها.
تحاول صاحبة “لا بحر في بيروت” في روايتها (منشورات غادة السمان، بيروت، 2015) الانتصار لصورة مدينتها دمشق التي تودعها واقعيا وتحتفظ بها في خيالها ووجدانها، وتؤرخ للأمكنة الدمشقية قبل أن يطالها العبث والتشويه على أيدي الغرباء عن دمشق، كما تستعمل قاموسا من المفردات “الشامية” التي تضطر لشرحها وتفسيرها للقارئ في الهوامش التي تثبتها.
وتحكي غادة السمان (من مواليد دمشق عام 1942) سيرة امرأة دمشقية متمردة تضع حريتها شرطا لحياتها ووجودها، واستطاعت أن تشكل شرارة لتغيير النظرة الذكورية للمرأة في زمنها، وتمكنت من توسيع دائرة التحدي والمواجهة، وتؤسس بتمردها نواة للتغيير التالي، وتنقل في السياق حكايات عدة نسوة سعين إلى الانتصار لذواتهن المهدورة، وتحقيق أحلامهن بعيدا عن الفرض والتقييد والإذعان، وتعترف بأن حبها لدمشق وحده يذلها وما عداه يمكن ترويضه.
دروب دمشقية
بطلة الرواية هي زين الخيال، وهي امرأة دمشقية متمردة لا تنفك تقاوم محاولات استلاب أنوثتها وشخصيتها، تجاهد للدفاع عن حقوقها، تصمد في مقاومتها ونضالها ضد السلطة الذكورية التي تحاول إرضاخها بمختلف السبل، وتصر على إكمال مشوارها في الحياة والأدب بقوة ويقين وإيمان وعناد.
وتستذكر صاحبة “عاشقة الحرية” بلغتها الشاعرية عددا من حكايات التمرد التي تستهلها بحكاية زين التي تكون بصدد عملية إجهاض، لأنها لا تريد الإنجاب من رجل لا يقدرها حق قدرها، وهي التي كانت قد أعلنت عن حبها له وتحدت الجميع وأجبرتهم على القبول به وبقرارها المتمرد على عادات العائلة وأعرافها، ثم خاب ظنها بعد سنة من زواجها وهي لم تزل في الثامنة عشرة لتطالب بالطلاق وتحظى به.
تقع زين في أخطاء، لكنها تسعى إلى تصحيح أخطائها بنفسها، لتستفيد من تجاربها وخبراتها التي تراكمها، وتؤمن بأن شخصيتها تنصقل أكثر بعد كل تجربة، ولا تخشى الاعتراف بأخطائها، بل تمتلك الجرأة لمواجهة ذاتها بها كي تستطيع تلافيها. وتمضي في درب الأدب تشق طريقها بإيمانها بذاتها وبدور الكلمة في إحداث التغيير، وأن إرادة المرء هي التي تصنعه وترسم له درب مستقبله.
كما ترسم السمان في الرواية وجوها متعددة للرجل، تتخلل تلك الوجوه عدة عوالم، منها عالم الأدب والصحافة والسياسة والتجارة والمخابرات والأعمال والحرف.
فهناك الأب الواعي المتفهم أمجد الخيال، وهو الذي يناصر ابنته في قراراتها ويشجعها على المضي في سبيلها، وهناك الطبيب المناهلي الذي لا يتوانى عن مساعدة من يلجأ إليه، ويعاني من آلام طفولته ويتمه، ويكون واقعيا في تعاطيه مع من حوله. وهناك الزوج الخائب الذي يريد زوجته خادمة في البيت لا شريكة في الحياة.
كما أن هناك الملازم ناهي الذي يمثل وجه السلطة البشع، إذ يسعى -بعد انقلاب البعث الذي أطاح حينذاك بالسلطة وجاء بسلطة معادية للشعب وتطلعاته- إلى تشويه المجتمع السوري وبث الفرقة بين أبنائه، ويحاول استغلال منصبه للفتك بمن لا يرضخون لإملاءاته ورغباته المجنونة، ولا يتوانى عن المتاجرة بالممنوعات والأدوية المنتهية الصلاحية التي يقع ابنه ضحيتها، وتراه يوزع قائمة الاتهامات هنا وهناك في سبيل الابتزاز والاستغلال.
ثم هناك الأديب الفلسطيني غزوان العائد المسكون بقضيته وعشقه لفلسطين، وجسّد صورة المناضل الفلسطيني المثقف بقلمه وفعله، ويكون نصير المرأة، وتجمعه بزين عدة مواقف ومفارقات ومصادفات فيجدها الأقرب إليه، وهي تتمنع هاربة من تجربة حب ثانية، رافضة الانصياع لقلبها ومتشبثة بإرادته في الحرية التي تصفها بأنها حبيبها الأوحد الأزلي الأبدي.
مفارقات وعتبات
تُظهر السمان مفارقة مريرة تتمثل في النظرة العدائية من قبل جميع من يحيطون ببطلتها زين، وهي صورة واقعية عن انطباعات وآراء من يختلفون معها ويجدون أنها تشكل خطرا على مركزياتهم وقواقعهم بتمردها وسعيها لنيل حريتها. فمن كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين كانوا يجدونها البنت المتمردة، لكنْ الوفية لطبقتها البرجوازية، والبرجوازيون كانوا يجدونها متمردة وثورية لا تطاق، وسلوكها بحاجة إلى تشذيب بضربة على رأسها، ناهيك عن نظرة أفراد العائلة والحي والمدينة المتباينة إزاءها.
وتصوّر الروائية كيف ضاقت مدينة دمشق على تمرد أديبة تعشق بلدها وحريتها، واضطرت للابتعاد عنها إثر تلفيق اتهامات لها من قبل ضابط حاول ابتزازها، منطلقا من نظرته الفحولية لها كامرأة مطلقة، ثم تتعقب انطلاقها في عالم الأدب محققة كينونتها، ومنتصرة للنساء اللاتي لم يستطعن التمرد على واقعهن ولا تحطيم قيودهن.
كما تشير إلى مأساة الباحثة عن حريتها وسط حقول ألغام تحيط بها، فتجد نفسها في بيروت ممنوعة من العودة إلى دمشق، وحين يرحل والدها لا تستطيع الذهاب مع جثمانه لدفنه، فتبقى منكسرة القلب والروح على الحدود، ثم لا تلبث أن تحاول ترميم جراحها والانطلاق من جديد في رحلة الحياة والأدب بحرية وقناعة.
تُنوع السمان اشتغالها الفني، إذ يحضر لديها تعدد في الرواة، فهناك راوية عليمة تنقل خيوط السرد بين الداخل والخارج، وتبادل بين الرواة الذين يتقاطعون فيما بينهم، وتميز الأحاديث بينهم بتغيير لون الكتابة باختيار الأسود الغامق والأقواس لتمييز الانتقال وتبيينه. وتكون أثناء ذلك بومتها الأثيرة -التي تحضر في معظم أعمالها- رفيقة دربها، وحاضرة معها في حلها وترحالها وفي حالاتها كلها، تحدثها وتؤنس وحدتها وتبدد وحشتها وتمنحها القوة والسكينة.
وتحظى العتبات النصية بأهمية لافتة في الرواية، وذلك ابتداء من العنوان الرئيسي الذي تتبعه الكاتبة بعنوان فرعي “فسيفساء التمرد”، مرورا بالإهداء الذي تصفه “رسالة حب متنكرة في إهداء”، ثم تنويه منها بعنوان “لحظة تذكير بحقيقة روايتي”، وتلفت النظر فيه إلى جانب المصادفة بين الشخصيات والواقع.
ثم يأتي دور الفصول واختيار عناوينها، فتراها تكتب في الهامش أن روايتها هي الجزء الثاني من عملها “الرواية المستحيلة” الذي كان الجزء الأول قد صدر بعنوان “فسيفساء دمشقية” وكان فيه خمس محاولات لكتابة الرواية، لذلك تبدأ هذا الجزء بعنوان فرعي جديد، وتستهل الفصل الأول بمحاولتها السادسة.
ونرى غادة وهي تشير في الهامش عادة إلى أنها تكتب أكثر من عنوان وتترك للقارئ حرية اختيار واحد منها وشطب الآخر، وهنا تتجسد محاولتها في إشراك القارئ في لعبة الكتابة.
_______
*الجزيرة.نت