*محمد عبد الرحيم
يعتبر لوي بونويل (22 شباط /فبراير 1900 – 29 تموز/ يوليو 1983) أحد أهم مخرجي السينما، والصوت السيريالي الأعلى في فن السينما، وأفلامه الشهيرة والمؤثرة في تاريخ السينما، التي ناقشت قضايا مصيرية لم تزل تدهِش مشاهديها، من حيث الأفكار ومعالجة الموضوعات وفق رؤية بصرية خاصة ببونويل، إضافة إلى خلق مساحات تتماهى بين الحلم والواقع.
ومن هذه الأفلام على سبيل المثال.. «سمعان العمودي 1965، حسناء النهار 1967، سحر البورجوازية الخفي 1972»، الحائز جائزة الأوسكار. إلا أن لبونويل تجربة وثائقية وحيدة لافتة تمثلت في فيلم «أرض بلا خبز» Land Without Bread 1933. ومن خلال هذه التجربة يمكن ملاحظة كيف كان بونويل ينظر إلى الواقع، ويُعالجه فنياً، حتى لو جاء في شكل فيلم من الممكن أن يكون وثائقياً.
وجهة النظر الجمالية
عن كتاب «لاس أوردس» لمدير المعهد الفرنسي في مدريد، بدأ بونويل التحضير لفيلمه الوثائقي «أرض بلا خبز». ويدور حول سكان قرية (لاس أوردس) المعزولة والواقعة في شمال غرب إسبانيا، على الحدود مع البرتغال. أرض بعيدة عن أي من معالم الحضارة، يعيش سكانها وكأنهم في العصور الوسطى. مفردات الحكاية إذن مُستمدة من الواقع، سواء على مستوى الموضوع أو الشخصيات، فلم يستعن بونويل بممثلين لتأدية بعض الأدوار، بل اعتمد كلية على الشخصيات الحقيقية في القرية.
إلا أن الحس السيريالي كان لم يزل يسيطر على بونويل، الذي قام قبل ذلك بإخراجه لفيلمين يعتبران من أوئل الأفلام التي حملت الفكر والروح السريالي، وهما «كلب أندلسي» 1982 و”العصر الذهبي” 1930. فهذه الأرض البعيدة عن مظاهر المدنية، التي يخيّم عليها الموت والخراب، أوحت بمعالجة فنية تشبه الواقع، من دون أن تنقله، خاصة أن الانجذاب لمظاهر الموت من أكثر أفكار السريالية وضوحاً.
هذه هي وجهة النظر الجمالية التي انطلق منها بونويل لمعالجة موضوعه، وأعاد إنتاج الواقع الحقيقي، وحوّله إلى واقع فيلمي على هذا الأساس.
الإيديولوجيا
لم يكن بونويل يتحرك بعيداً عن مفهومه الإيديولوجي، الناقد بشدة للمؤسسات الرسمية للدولة.. الساسة والكنيسة والجيش، ويرى أنهم سبب الخراب وتشوه الإنسان في كل مكان. فالفيلم رد فعل لبونويل على موقفه السياسي من اليسار الإسباني وقتها، الذي كان يرى أن هناك طفرة من التقدم في جميع مناحي الحياة، ليخرج بونويل بفيلمه «أرض بلا خبز» ليكشف لهم زيف خطابهم الدعائي. وبذلك أعاد بونويل تقديم الواقع الحقيقي إلى واقع فيلمي، من خلال مفاهيمه ووجهة نظره الذاتية. وسيتضح الأمر أكثر عند مناقشة التقنيات السردية التي اعتمدها، على مستوى … المكان، الشخصيات، والبناء الفيلمي.
المكان
اعتمد بونويل على مكان واقعي، فلم تكن هناك ديكورات، أو أي شيء مصنوع، لكنه لم ينقل الواقع كما هو، بل سيطرت عليه نظرة سيريالية، قادت وجهة نظره لتصوير واقع القرية … الأزقة الضيقة/البيوت الخافتة الإضاءة، والأشبه بقبور الموتى/المنازل شبه المتهدمة مقابل الكنائس الشاهقة الارتفاع/المدرسة والتلاميذ الحفاة/ حظائر الحيوانات، والمقابلة بينها وبين بيوت سكان القرية.
كما جاءت الأماكن في أكثرها خاوية وشبه مهجورة، وكأنها أرض أصابتها لعنة أو وباء قضى على ساكنيها، إضافة إلى تصوير القرية من أعلى وكأنها أرض للمقابر الجماعية، وقد اتضح الأمر أكثر في عملية دفن الطفلة الصغيرة، وتمرير جثمانها في النهر، حتى تعبر إلى الضفة الأخرى، حيث تم دفنها أخيراً في مقابر القرية. فهناك رؤية روائية لسرد الحكاية، رغم النهج الوثائقي الذي التزمه بونويل ليسرد حكايته.
فإن كان النهج وثائقيا من حيث الأسلوب، فإن الرؤية روائية، وهو نوع من المزج بين الشكلين الوثائقي والروائي، وإن لم يكن في صورة مباشرة، كما في أفلام الدوكيودراما.
الشخصيات
لم يعتمد بونويل على شخصيات خيالية، أو على ممثلين يقومون بأداء شخصيات حقيقية، بل جعل شخصيات القرية تقوم بأداء أدوارها الحقيقة أمام الكاميرا، وأتى بها من خلال تصرفاتها وأفعالها الطبيعية واليومية… من جمع الحطب وفروع الأشجار من الجبال/تناول الطعام/التدخين/الأطفال في المدرسة/النساء وهن يغسلن الملابس في مياه النهر/الجلوس أمام أبواب البيوت. كما لم تكن هناك بطولة لشخصية دون أخرى، بخلاف الأم التي تفقد طفلتها، وتطالع موتها. إضافة إلى حالة حاول بونويل التدليل عليها طوال الفيلم، وهو عدم وجود فارق بين شخصيات القرية وحيواناتها … فالمرأة التي تقوم بتحضير الطعام القليل أمام منزلها، يقابلها الخنزير الذي يبحث عن طعامه بين القمامة، والأشخاص المرضى والهزيلون يسيرون بجوار حيواناتهم الهزيلة. وأخيراً مشهد موت الحمار من أثر لدغات النحل، يقابله مشهد موت الطفلة، وكأنه تمهيد له، وأن هذا المصير هو المصير الحتمي لسكان القرية.
البناء الفيلمي
يعتبر الموت الثيمة الرئيسية للفيلم، ومن خلالها قدّم بونويل رؤيته للقرية المنسية على الحدود الإسبانية. وما بين اللقطات الواقعية وإعادة بناء هذه اللقطات في سياق خاص وفق هذه الرؤية ووجهة النظر الإخراجية.. خلق بونويل عالما متكاملا ما بين البشر وحيواناتهم، مما وحد المسافة أو الخط الفاصل بينهما، فلا فارق بين حياتهم وحياة الحيوانات… طفل يشرب من الماء الجاري مقابل خنزير يشرب من المكان نفسه/سقوط غزال من قمة الجبل/جثة الحمار المتعفنة/قطع الأشجار/وجوه العجائز المتغضنة/حالات مرض الملاريا.
التعليق
لعب التعليق المُصاحب للفيلم دوراً درامياً أعطى عدة دلالات… فهو من جهة جاء كالمحاكاة الساخرة للأفلام الروائية التي تعالج الواقع، بداية من نبرة الصوت المتعالية والتقريرية، وغير المتعاطفة بالمرّة، إضافة إلى سرد المعلومات شبه الإحصائية والحقائق الجغرافية للمنطقة التي تدور فيها الأحداث. فالتعليق يتجاوز الحياد ــ أشبه بالتقرير الحكومي ـ إلى السخرية، والسخرية بدورها من الأفكار الرئيسية للمدرسة السيريالية.
الموسيقى
ووفق مفهوم التضاد لتعميق حس السخرية السوداء، تؤكد الموسيقى هذا الإحساس. فالموسيقى التي توحي بالعظمة والرّقة تتناقض واللقطات التي اختار بونويل أن يعرضها على الجمهور. فهو لا يريد من المُشاهد أن يتعاطف مع ما يراه، ولكنه يريد من خلال القسوة أن يجعله يفكر أكثر من مجرد التعاطف.
الرواية السينمائية للواقع
هناك بعض الشواهد التي تثبت أن بونويل تحايل على الواقع الحقيقي من أجل الواقع السينمائي، بهدف خلق المعنى الذي يقصده، وهو ما يدخل في البناء الدرامي للعمل ككل، كما يؤكد توظيف النهج الوثائقي (الحقيقي) في بناء روائي (خيالي) كما تصوّره بونويل ــ يعتبر الكثيرون أن الفيلم ينتمي للشكل الوثائقي تماماً ــ ففي فيلم وثائقي حديث بعنوان «سكان لاس أوردس ما زالوا أسيري بونويل» للمخرج رامون جيلنج، وهو فيلم حول آراء سكان هذه القرية في تجربة بونويل… نجد أن المخرج تقابل وبعض السكان الذين عاصروا تصوير «أرض بلا خبز» ليسردوا كيف تلاعب بونويل بالواقع، ضاربين عدة أمثلة… كطلاء الحمار ببعض العسل حتى يتجمع فوقه النحل في سرعة وكثافة شديدة، وأن الطفلة الميتة في نهاية الفيلم، وتصوير طقوس دفنها كانت نائمة، إضافة إلى أن الغزال الذي سقط من فوق قمة الجبل تم توجيه رصاصة له، لأنه تسلق الجبل في مهارة، ولم يسقط من جرّاء نفسه.
___________
القدس العربي