المثقف وعفاريت الكراهية


ليلاس سويدان

عندما كتب جون أوزبورن مسرحية «انظر خلفك بغضب» بعد الحرب العالمية الثانية، كان يعبر عن جيل لم يشارك في الحرب، لكنه حانق على نتائجها التي لم تكن منصفة بالنسبة له ولا تعطيه أملاً بمستقبل أفضل. وربما صرخة بوتر بطل المسرحية «اللعنة عليكم جميعا.. لقد دمرتم حياتنا.. ودمرتم الوطن الذي تناثر أجزاء»، كانت صرخة الجيل كله.

المسرحية كانت بالفعل إدانة كبيرة لمجتمع سيطر عليه الأفاقون والمدّعون في كل مجال. الحربان العالميتان، كان رد الفعل الثقافي عليهما حركات فكرية وفنية متمردة وغاضبة، شكلت وجه التغيير الاجتماعي في أوروبا منذ منتصف القرن العشرين. الغضب عندما يكون فعل تغيير، هو أيضا موقف رولان رومان من الحرب العالمية الأولى، ورفضه للقتل الجماعي وتكوين جبهة من المثقفين لإقامة حوارات أكاديمية تقود للسلم الدولي. كان رومان ومن معه ينطلقون من مواقف إنسانية وأخلاقية في تحد يلزم المثقف أن يبقى على منصة القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية وتقبل الآخر لا سحقه وقتله. 
في وقت كانت ترفع في أوروبا شعارات تشرعن الكراهية والموت مثل «الوحدة القومية» و«الاتحاد المقدس» من أجل الحرب. كان رجال الدين والصحافيون وحتى المدرسون في المدارس يعمقون مشاعر الكراهية والتعصب والعداء. حربان خاضتهما أوروبا كانتا كفيلتين بأن ينظر جيل كامل خلفه بغضب. ولكن هل كان حراك الشارع العربي ومعه المثقف هو حراك غضب؟. هل غضبنا حقا لكل ما جرى وما فعل عبر عشرات السنوات بالفرد والوطن؟. هل أدرك من وقف في الشارع أو الميدان أنه محتاج أن يغضب فعلا، إن كان ينقلب على كل ما مضى؟. 
نعم كان هناك صراخ وانفعال كبيران، ولكنه كان صراخ كراهية أو غضب أنتج كراهية، لم يمر بتحولات اجتماعية ولا ثقافية ولا اشتبك مع منظومة اقتصادية تعيد تشكيل الكتل الفئوية المجتمعية، والتي لابد أن تدخل إلى صياغة جديدة تنتمي إلى مشروع آخر يمكن أن يحمل واقعاً سياسياً جديداً، لا يعيد إنتاج علاقات التخلف، بل بالعكس؛ أدار الغاضبون ظهورهم لكل هذا واستخرجوا الكراهية من منابعها التاريخية بدلا من القطيعة مع الماضي، وتم تمويه الكراهية بقناع الغضب عبر المثقفين من منظري «الشعب»، وحملة مشاعل حرق الساحرات الناطقات بنبوءات الذهاب إلى الهاوية. 
كل من كتب من المفكرين العرب في التنوير والنهضة والحداثة ونقد الموروث، صلتهم مقطوعة بكتل الشعب ولا مجال لتمثلها أصلا في سياق تركيبة محكمة من علاقات مجتمعية واقتصادية وسياسية هي مستفيدة حتى لو بشكل غير مباشر من ذلك الواقع. خارج هذا السياق فإن حركات الاحتجاج تصبح مثل فرد يشعر بضيق ما، لا يعرف أصله ومغزاه وربما يصفع من بجانبه!. 
في رواية «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»، ينظر البطل في عين عدوه عندما يقع بين يديه، فيجده إنسانا مثله له حياة وأحبة وأحلام يريد أن يعود لها، ليس كما أفهمه من يريدون هذا الصراع والقتل. الكراهية الآن لها غطاء سياسي وديني، والعنف معادل الغضب بشكل بدهي بالنسبة للكثيرين!. من الخراب تظهر العفاريت، والمحزن أن يكون المثقف من يحضّرها لا من يدعو لصرفها. الجماهير تشعر بضيق ولكن المشعوذ «بكل المجالات» هو من حضر عفريت الكراهية، ربما لأنه كان يعلم أن عفريت الغضب سيكون خصماً له كجزء من ماضٍ يجب أن يسائله وربما يعلن القطيعة معه.
________

القبس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *