*لينا أبوبكر
بمقياس ساعة روبيديوم، يصبح الوقت بطيئا جدا، بحيث يحول رواد الفضاء إلى سائحين زمنيين، يسافرون على متن مركبة فضائية غدا، ليعودوا إلى الأرض قبل خمسين عاما!
هل نسأل: من هو الزمن أم ما هو الزمن ومن أين جاء؟
كيف نتعامل مع فلسفة الأبدية حين يصبح اختراق الضوء تجاوزا لسرعته ودخولا في مرحلة سكون تام؟
الجواب عند نيتشه، فكل رغبة تائقة إلى الأبد!
قد لا يتمكن أي جسم على وجه الكرة الأرضية من اختراق الضوء إلا إذا كان بحجم «نيوترينوس» أصغر بكثير من الذرة، فكتلته وشحنته صفر، ووحده قادر على إدراك اللانهاية!
وقد يكون الساحر الألماني «توماس مان» على حق عندما رأى في الزمن لغزا أقرب إلى العظمة، حسب موقع جائزة نوبل الذي يحيلك إلى حيرة رجال الدين قبل أكثر من خمسة عشر قرنا من هذا، حول ماهية الزمن الذي أربك الإغريق القدماء وحشد حراس الفلك في دكة الأولمب لإبداع ملحمة فنية هي إلياذة هوميروس التي اشتغلت على تكرار الأبدية.
الساعة صفر بتوقيت الحب!
نحن إذن أمام احتمالين لا ينفصلان، أحدهما أسطوري والآخر علمي، وبين هذا وذاك تتجلى دورية الزمن، وتجدر الإشارة هنا إلى المعتقدات الشعبية الموروثة التي يسخرها الكتاب لإبداع أعمال أسطورية مثل «مئة عام من العزلة» للساحر اللاتيني غابرييل غارسيا ماركيز، وحجر الشمس لأوكتافيو باث، فالأول استلهم من الثعبان الهندي في الأسطورة ذيله الذي عضه، لأن أروليانو آخر سلالة أوركاديو بوينديا اكتشف أن كل الشيفرات التي كان يحاول فك لغزها تفضي إلى كون القصة هي قصته وعائلته وقريته (ماكوندو)، بالتالي فهو يدور ضمن وحدة قياس الأبدية، كل من تظنه تلاشى مع الزمن يقوم زمن آخر بإعادته إليك عبر شخصية أخرى.. وهكذا دواليك!
أما حجر الشمس الذي اقتبسه أوكتافية باز من ثقافة شعوب المايا، فقد كان يعبر عن دوران الوقت ضمن نظرة تشاؤمية للدمار الذي اجتاح مدريد في الحرب الأهلية الإسبانية، وحاول اجتياز دائرة الزمن واختراقها بالحب. والحب كما يفترض بلا شحنه ولا كتلة، تماما كالعنصر «نيوترينوس»، أليس كذلك؟!
ولكن هل يمكنك الهروب من الوقت؟ ثم هل للوقت علاقة بارتداد التشاؤم نحو الزمن الشخصي أو العكس لصاحب العمل الإبداعي؟ بمعنى آخر من يشبه الماغوط في قصيدته الوشم؟
ألا يشبه بطل فوكنر في روايته «الصوت والغضب»؟
ارتداد التشاؤم الزمني
إنه يوقف حركة الزمن عند الساعة الثالثة من القرن العشرين، فأية ساعة وفي أي يوم وسنة من المئة العام هذه يقف الزمن؟ أنت لن تعرف طبعا، وقد لا يعرف الماغوط نفسه مادام الزمن بالنسبة إليه هو ساعة المداهمة التي حولته إلى بغي هلوع! وفي كل الأحوال الزمن عنده واحد يتراوح بين العتمة والآن!
«الآن في الساعة الثالثة من القرن العشرين/ حيث لا شيء يفصل جثث الموتى عن أحذية المارة/ سوى الإسفلت» هنا تختلط الحالات ين الضحك والبكاء والكتابة في زمن أسود، لا يرى من ثقبه الوحيد سوى ذعره واصطكاك عظامه، حيث الشرطة تطارده من شريان لآخر، لكنه يقفل اللحظة على نتيجة حتمية لا يرى للسوط أو صفارات الإنذار أو مكاتب التحقيق بها أي ذنب، المأساة الحقيقة هي لحظة الارتداد إلى حبل السرة الذي كان في الأصل حبل مشنقة، فميلاده لم يكن سوى ميلاد موت…إنها مشهدية ساكنة، قاتمة حد العبث!
بينما يتذكر بطل فوكنر عبارة أبيه آخر أيامه: «الزمن يتوقف لأنه زمن ميت طالما أنه يشتغل بتحريك عجلات الساعة، ولا يعود للحياة إلا عندما تتوقف الساعة» لا بل إنه حاول الهروب من سطوة الوقت بتهشيم ساعة أبيه التي ورثها عنه، فووجه بالوقت يحاصره في كل نفس منذ تدفق النهر إلى أجراس الكنيسة إلى صفارات المصانع… فممن كان يهرب إذن؟ من أبيه؟ من زمن موروث أم زمن ميت؟ أليس الارتداد في قصيدة الماغوط يحيلك إلى وحدة قياس تأملية غارقة بالحداد على الزمن؟
الشاعر والأديب ميتان في لحظة واحدة هي لحظة الارتباط بالساعة الجينية!
المتصل الزماني المكاني
السياب له شأن آخر مع الزمن، فهو لا يهرب منه بقدر ما يسعى نحوه، خاصة عندما أطلق صرخته الشعرية مناشدا ربه أن يعجل بأجله وهو في أحد المستشفيات في لندن: «منطرحا أصيح أنهش الحجار/ أريد أن أموت يا إله»وقد تدرج إلى تلك القفلة الحاسمة بعد إثارة أسئلة استنكارية وتأملية «أود لو أراك، من يراك؟»… وبين هذه وتلك تدوير للزمن الأسطوري عند الثعبان الهندي في مئة عام من العزلة: «نحن نحمل الوجوه ذاتها»! بينما ترى الزمن عنده بعد عام من هذه القصيدة وتحديدا في أنشودة المطر مرتبط بسمات الطبيعة والجمال فساعة السحر هي غابتا النخيل «عينا حبيبته»، فإلى أي مدى يتحكم الشاعر بالزمن ضمن مزاجه أو حالته النفسية!
لم يخطئ ألبرت آينشتاين عندما عقد علاقة موحدة بين المكان والزمان، بل إن الزمن هو البعد الرابع لكل شيء، ولو كان مريد البرغوثي يكتب قصيدته «صمت الحرب» في مكان آخر غير فلسطين، لاتخذ الزمن الإبداعي عنده ملمحا آخر، فالعائلة التي كانت تتناول غداءها تحت شجرة التوت وتوقفت فجأة عندما ظهر الجنديان، اللذان اشتبكت عيونهما بعيون أفرادها في حرب بلا صوت، غادر على إثرها الجنديان بلا أية كلمة، لتفجر السماء قهقهاتها العالية في غرفة الضجيج الصامت والمطبق تلك، تفضي إلى زمن بطيء وثقيل يستمد وطأته من زمن فوكنر الأميركي الغارق بالانحلال والتفكك. كل ما كانا يستغرقان به هو التمدد في التباطؤ!
يا أيها الزمن من أنت؟
سل آينشتاين عنه، لأنه تعامل مع هندسة الوقت بوضعه تحت شريحة آنية وإخراجه من تصور إسحاق نيوتن الذي رأى أن معدله ثابت وسرعته متفاوتة، إذ يرتب التقويم الزمني بجزر منفصلة، يتخذ بها النظام الحركي للزمن الإبداعي زمنا خاصا به، يصبح التفريق يه بين الماضي والحاضر والمستقبل بديهيا! وهنا فقط يخترق المبدع حاجز الزمن ويدخل في الماضي بمرونة وسلاسة ليصل إلى الأبد مباشرة!
الزمن الإبداعي ليس نظريا ولا يخضع للحقائق العلمية بقدر ما هو جدلي وتصوري يستلهم من النظرية تكرار الأبدية للوصول إلى الأبد!
كل ما ذكرته آنفا يصب في ساعة أنانستاسيوس، تاجر الخردة القبرصي في حي «كوينزوي –العاصمة البريطانية لندن»، حيث التقطت هذه الصورة لساعته المعلقة بمواجهة المارين في دكانه الذي لا يتسع لسواه، ولقطع الأنتيكا المتناثرة فوق جدرانه العتيقة، كأن أناستاسيوس هو الذي يكتب هذه المقالة عني، فالساعة التي قام بصنعها وتظهر هنا في الصورة، جاءت بعبارة ملصقة فوقها مفادها «حياتك كلها عبارة عن دقيقة واحدة»، ولما سألته عنها أخبرني أنها ساعة جينية تدور عقاربها حول أعراق بشرية مختلفة، فميقاتها يحدد طبيعة السلالات بعد مئة عام، حيث تتغير الصفات الجينية الموروثة، وتتداخل الأعراق، بما يخدم الترويج لبضاعة التاجر، بدهشة تاريخية لم تثبت صحتها منذ المؤتمر الصهيوني الأول أي ما يتجاوز المئة عام، فنحن لم نزل فلسطينيين، ولن نكون أبناء أعدائنا كما تنبأ أناستاسيوس!
تخطئ ساعة أناستاسيوس إذن وتصيب الساعة الآن لأنها بتوقيت فلسطين!
_____
*الاتحاد الثقافي