«حلم شهرزاد».. سيمفونية بصرية عن مواجهة الشعوب للحكام



*رانيا يوسف

التاريخ هو الحاضر، تلك المقولة التي أطلقها الكاتب التركي أورهان باموق أثناء أحد حواراته الصحافية في القاهرة الشهر الماضي، من دون أن يدري شيئا عن تجربة المخرج الجنوب أفريقي فرانسوا فيرستر الذي صنع وثائقيا يؤكد على هذا المعنى في تجربة فيلمه التسجيلي الأخير «حلم شهرزاد»، الذي عرض في القاهرة ضمن فعاليات مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة «دي كاف»، وعبر حكايات ألف ليلة وليلة الأسطورية الأشهر في تاريخ الأدب العالمي.

يدخل المخرج إلى العالم السحري من خلال سيمفونية الموسيقار الروسي كورساكوف، بينما يدور الفيلم في ثلاث مدن مختلفة، حضارياً وثقافياً واجتماعياً، يمتد التوزيع البصري لموسيقى شهرزاد بينهما، العزف الذي ينفرد به قائد الاوركسترا التركي، يصنع إيقاعه الشعب المصري في ميدان التحرير، وفي الوقت الذي كانت تشهد فيه مدينة اسطنبول اندلاع موجة من الاحتجاجات الشعبية ضد إزالة أشجار في ميدان تقسيم، وإعادة إنشاء ثكنة عسكرية عثمانية، ثم توسعت لتصبح مظاهرات مناهضة لسياسات حكومة رئيس الوزراء اردوغان في مايو/أيار عام 2013، كانت إحدى الورش الفنية في مصر تواصل عروضها التي تحاكي مظاهر التحول السياسي في مصر، الذي لم ينتج عنه سوى مزيد من قمع حرية التعبير وتدني الوضع الإنساني وتدهور العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

يدخلنا الفيلم عبر أربعة فصول مقتبسة عن حكايات شهرزاد الخيالية، من خلال توظيف الدلالة الرمزية لقصة شهرزاد، التي حاولت تغيير سلوك الملك شهريار، باستخدام قوتها الناعمة في فن الحكي، التي تتفوق على قوة السيف، حيث يدعم الفيلم قوة تأثير الفنون على تغير المجتمعات، خاصة جيل الشباب الذي يلجأ إلى ممارسة الفنون أو تذوقها، كونها جزءا من أسلحة مقاومة السلطة ووسيلة لتحفيز الوعي.

اختار المخرج بعض الحكايات التراثية التي تتماس مع الحاضر ويستدل بها على أن ما يحدث في الحاضر ليس سوى جزء من تاريخ قديم يتكرر، مثل علي بابا والأربعين حرامي، وعلاء الدين والمصباح السحري وغيرها من القصص التي تروي علاقة الحاكم بشعبه، وأسلوب إدارة السلطة في مملكة الخيال التي تفوق الواقع عليها وتجاوزها، شهرزاد في هذا الفيلم هي الشعوب التي تروي قصتها مع الحكام المستبدين، الصراع بينهما لازال مستمرا لم ينتصر أو يهزم فيه أحد.

ثلاثة نماذج للقمع وتكبيل الحريات في القاهرة واسطنبول وبيروت، لكن أحداث ثورة يناير/كانون الثاني وحتى سقوط نظام الإخوان المسلمين احتلت الجزء الأكبر من الفيلم، وكانت احتجاجات ميدان تقسيم في اسطنبول عام 2013 هي الحدث الوحيد الذي عبر به الفيلم عن الصدام المباشر بين المعارضة التركية وحكومة أردوغان.

أما الوضع في بيروت فاختزله الفيلم في ممثلة شابة عانت هي وعائلتها أثناء العدوان على لبنان، وغادرت إلى مصر، حيث بدأت تسعى لتحقيق حلمها، في الواقع هي جملة لحنية واحدة لكنها تختلف في توزيعها الموسيقي، حيث تبدأ النغمة الأولى من اسطنبول مع قائد الأوركسترا الذي يحاول قيادة العازفين إلى التمرد على نظام التعليم الذي يعتمد على التلقين، وتحفيزهم على طرح الأسئلة وإثارة الحوار والتحرر من التبعية، ثم تأتي جملة موسيقية أشد حدة تعلن عن تصاعد حدة التوتر واندلاع الصراع بين شهرزاد وشهريار، عندما يتجول المايسترو في شوارع اسطنبول وسط المحتجين على سياسة أردوغان وبين الموالين له، ثم تنخفض النغمة مرة أخرى عندما يهرب إلى جزيرة بورغاز الهادئة في الجزء الآسيوي من اسطنبول.

تختفي موسيقى السيمفونية الشهيرة عندما تهبط الكاميرا في القاهرة، وتفرض الموسيقى الشعبية المصرية وجودها على الصورة، حيث تروي الكاميرا قصة أوركسترا أخرى لكنها أوركسترا من نوع خاص، تتجول في محافظات مصر الأكثر فقراً، وتعرض عليهم كافة أشكال الفنون، إنها فرقة الورشة للفنون التي قدمها الفيلم كنموذج مصغر عن تأثير تيار الفنون المستقلة، خاصة على جيل الشباب، لا يمكن لأحد أن ينكر دور الفنون المستقلة خلال السنوات العشر الأخيرة في ربط جيل الشباب بكافة أنواع الفنون، ودورها الأكبر في التخلص من توجيه الدولة لأفكار الفنانين بما يتناسب معها، ومحاصرة أي موجة أو تيار يخرج من تحت وصايتها، بعض هذه الفرق استمرت في انتقاد السلطة مستخدمة الفنون وسيلة لها، واقتربت بعضها من الشرائح الأكثر جهلاً بحقوقها وواجباتها، من خلال المواد التي تقدمها معظم الفرق الفنية المستقلة، المخرج أسقط لغة السرد واعتمد على توزيع الجمل الموسيقية بما يتناسب مع إيقاع الصورة، حتى أصبح السرد البصري والموسيقي نغمة واحدة متجانسة، خاصة المشاهد التسجيلية عن أحداث ثورة يناير وما تبعها من خلع نظام مبارك وممارسات المجلس العسكري، ثم الانتقال إلى فترة حكم الإخوان التي انتهت سريعا بخلع مرسي، سيطر فيها شريط الصوت الذي يصدح بموسيقى كورساكوف على شريط الصوت الثاني الذي ينادي فيه المتظاهرون بإسقاط النظام الديكتاتوري، ليؤكد أن النظام لم يسقط بعد.

اعتدنا في السنوات الأخيرة على مشاهدة أفلام تتعرض للثورات العربية أو لفترات الحرب الأهلية أو الأوضاع السياسية المتدهورة التي تميل إلى ابتزاز مشاعر الجمهور باستخدام الصور الأكثر عنفاً أو دموية لاستقطاب تعاطفهم مع وجهة نظر صناع الفيلم، لكن في هذا العمل كسر المخرج هذا الشكل النمطي باستخدام أحد أكثر الوسائل الفنية جمالاً وإبهاراً وهي الموسيقى التي جعلت المتفرج، من دون أن يختار يقف في جهة واحدة مع شخصيات الفيلم التي تستمر في طرح سؤال واحد وهو، هل اعتق شهريار شهرزاد حقاً، أم أنها انتزعت حريتها بذكائها ودهائها وقوتها الناعمة، وهل شهرزاد أصبحت سلطانة بعد أن أعتقها شهريار، أم أنها اصبحت أسيرة داخل هذا القصر؟ إما أن تحيا معه أو أن يقتلها، الوضع الذي أصبحت عليه شعوب البلاد التي تخضع لحكم الفرد.

الفيلم إنتاج مشترك بين عدة جهات منها مؤسسة جنوب أفريقيا الوطنية للسينما والفيديو، صندوق مهرجان أمستردام الدولي للسينما الوثائقية/بيرثا، صندوق ساندانس الوثائقي، أفلام سبير، صندوق وورلدفيو التابع لاتحاد إذاعات الكومنولث، الصندوق السينمائي الهولندي، الاتحاد الأوروبي ومبادرة وثائقيات لأفريقيا (أفري دوكس)، بالتعاون مع المنتج وائل عمر.
يعد المخرج فرنسوا فيرستر أحد صانعي الأفلام التسجيلية في جنوب أفريقيا شارك في عدد من الأفلام الروائية المستقلة، قبل أن يقدم فيلمه الوثائقي الأول كمخرج ومنتج، وهو فيلم «أرستقراطيو الرصيف: مشردو كيب تاون» (1998)، وهو الفيلم الذي نال عنه جائزة أفانتي الفنية، وقدم بعد هذا عدداً من الأعمال الحائزة جوائز دولية، منها فيلم «محاكمة أسد» (2002)، الفائز بـجائزة إيمي في 2006، «عندما تنتهي الحرب» (2002)، «منزل الأمهات» (2006) و»أيام لقاءات البحر» (2009).
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *