*د. حسن مدن
يرى غابرييل ماركيز أن الترجمة مهنة شاقة، لذلك فإنه يكنّ إعجاباً خاصاً بالمترجمين، لأن الترجمة الجيدة هي إعادة إيجاد بلغة أخرى. إنه يبدي إعجاباً خاصاً بمترجم أعماله إلى الإنجليزية، جريجوري راباسا، لأنه المترجم الوحيد الذي لم يطلبْ توضيح أمر ما، كي يضع له هامشاً في الترجمة، على خلاف مترجمي أعماله إلى اللغات الأخرى التي بلغ عددها العشرات، واستطراداً يرى ماركيز أن آثاره الروائية أُعيد خلقها بشكل تام بالإنجليزية.
هناك بعض الكتب في غير اللغة الإسبانية التي ودَّ ماركيز أن يقوم هو نفسه بترجمتها إلى لغته الأم، ولكنه أيقن أن ذلك يتطلب وقتاً طويلاً كالوقت الذي ينفقه في كتابة أعماله الروائية، وفي هذا إقرار بأهمية الترجمة وحجم المسؤولية الملقاة على عاتق المترجم، التي قد لا تقل عن تلك الملقاة على كاهل الكاتب، إذا ما ذهبنا إلى ما رآه ماركيز من أن الترجمة إعادة خلق للنص في لغة أخرى غير اللغة الأولى التي كتب بها.
في فضاء الترجمة إلى العربية نجد ميلاً لإعادة ترجمة بعض الأعمال الكلاسيكية الأجنبية التي سبق ترجمتها إلى لغتنا، ليس لأن الترجمات السابقة سيئة بالضرورة، وإنما لأن للمترجمين الجدد للنص الذي سبقت ترجمته رؤية أو قراءة مختلفة للنص، لا تلغي الترجمة الجديدة سابقتها، وإنما تمنحنا خلقاً جديداً للنص، كما أومأ ماركيز.
ليس هذا الأمر مقتصراً على الترجمة إلى العربية، ففي فرنسا مثلاً ترجمات جديدة عن الألمانية لأعمال فرويد ونيتشه وكذلك هيجل، فاللغة من حيث كونها كائناً حياً تتطور وتتسع وتتغذى بمصطلحات وأفكار جديدة تجعلها أكثر مقدرة على تقديم الأفكار في اللغات الأخرى بصورة أفضل. قارئ اليوم المزوّد بأدوات معرفة جديدة وبذائقة جديدة تمكّنه من أن يرى في النصوص الكلاسيكية أشياء جديدة لم يكن بوسع معاصري كتّابها أن يروها، وهذه آية النص العظيم، الذي هو كالحجر الكريم الذي يزداد تألقاً مع الزمن، ولا يبلى.
بالفعل نحن في حاجة للمزيد من الترجمات لأعمال فلسفية أو فكرية أو إبداعية أجنبية سبقت ترجمتها، فالعدة الفلسفية والفكرية وحتى الإبداعية في فضائنا اللغوي العربي اليوم أكثر مرونة وأوسع أفقاً وثراء مما كانت عليه، وإنها بالتالي أكثر قابلية لاكتشاف ما تستبطنه هذه الأعمال من معانٍ لم تبلغها الترجمات السابقة.
يقول المفكر المغربي عبدالفتاح كليطو، الذي وضع كتاباً مهماً عن «حكايات ألف ليلة وليلة»، إنه كان يرد على أسئلة طلابه في الجامعة حين يطلبون منه أن يحدد بين عدة ترجمات لهذه الحكايات إلى اللغة الفرنسية كي يقرأوها، بأن يطلب من هؤلاء الطلبة قراءة كل هذه الترجمات. وينطلق كليطو في هذا من أن كل ترجمة تحمل دلالات قد تختلف عن الثانية، وأن تعدد هذه الترجمات لا يسيء إلى النص الأصلي، إنما يساعد على التعرف إلى روحه، وبالتالي فإن قراءة عدة ترجمات للنص الواحد تبعث على إثراء البصيرة، لأنها تسمح بقراءة هذا النص في أعين كتاب مختلفين.
وهذا يرتقي بالترجمة إلى إعادة إنتاج فكرة الكاتب الأصلي، لأن البحث عن دلالة المفردة في اللغة الأصل، والبحث عن مقابل لها في اللغة التي نترجم إليها، يقدمان أيضاً ثقافة المترجم وعدته اللغوية والفكرية، خاصة أن الترجمة تضع المترجم أحياناً أمام مآزق أبعد من أن تكون ذات طبيعة لغوية صرفة وإنما تنطوي كذلك على مضمون فكري.
لعل كليطو هو نفسه من ضرب مثالاً على ذلك بعبارة ترد كثيراً في النصوص الأدبية وغير الأدبية في التراث العربي، هي عبارة «أما بعد» التي ترد في المراسلات العربية أو حتى في مقدمة النصوص العربية المختلفة بعد الانتهاء من المقدمة أو الديباجة تمهيداً للدخول في الموضوع، ملاحظاً أن هذه العبارة حتى في اللغة العربية ذاتها، أي في لغة الأصل، تحمل دلالات مختلفة وتفرض مقاربات مختلفة، فهي أبعد ما تكون عن التبسيط . إن المترجم هنا سيوظف عدة لغوية-فكرية- ثقافية في البحث عن المعنى التقريبي ولا نقول الحرفي للكلمة.
خلاصة القول، إنه إذا ما تجاوزنا الترجمات الرديئة التي يقدمها بعض الهواة، فإن الترجمة في العمق أبعد ما تكون عن النقل الميكانيكي لفكرة أو موضوع . إنها بالدرجة الأولى تمثل هضماً واستيعاباً للنص موضوع الترجمة ثم إعادة تقديمه وفق رؤية تعكس ثقافة المترجم.
المثقفون الذين يقرؤون بالعربية والإنجليزية معاً يفضلون العودة إلى كتب الراحل إدوارد سعيد في اللغة «الأصلية» التي كتبها بها، أي الإنجليزية. يقولون إن استيعاب أفكاره في تلك اللغة أيسر وأدق. المثل الأبرز في هذا السياق كتابه «الاستشراق». قيل كلام كثير عن الترجمة العربية التي وضعها كمال أبو ديب للكتاب. وأبو ديب ناقد ومفكر ضليع في اللغتين العربية والإنجليزية، وهو بذل جهداً كبيراً جداً في اجتراح التراكيب اللغوية، فضلاً عن مقابلة المصطلحات والمفاهيم، في اللغة العربية ليقدم «استشراق» إدوارد سعيد للقراء العرب. لكن حتى القراء المتمكنين من اللغة والمعرفة شكوا من صعوبة الترجمة، وكثيرون منهم وجدوا العودة إلى النص الإنجليزي حلاً أكثر ملاءمة.
نسوق هذا المثال على سبيل التدليل ليس إلا، فالأمر هنا لا يتصل بإدوارد سعيد وحده، ولا بترجمة كمال أبو ديب وحدها، وإنما يتمحور حول فكرة الترجمة بحد ذاتها. الأصل في الكتابة هو إيراد المعنى، من يكتب يرغب في قول معنى من المعاني لمن سيقرأ له ما كتب، وطالما كان المعنى هو الأساس، فإنه من الممكن قول هذا المعنى بأكثر من لغة. المعنى المُقال في لغةٍ من اللغات يمكن أن «يترجم» فيقال في لغة أخرى، بكلمات أخرى لا تشبه أبداً، أو لا تشبه بالضرورة، الكلمات التي قيل فيها المعنى أول مرة، لكنها، رغم ذلك، قادرة على حمل هذا المعنى أو نقله أو قوله.
لكن هذا الأمر لا يخلو من الصعوبات، فطالما كان الهدف هو قول الشيء نفسه بلغة أخرى، فإن ثمة صعوبات عدة يجب تذليلها حتى يتحقق ذلك. ولو لم تكن الترجمة لما قدر لكبار الفلاسفة والأدباء أن يعيشوا قروناً. إن فيلسوفاً مثل أرسطو اليوناني، الذي كتب بالإغريقية القديمة، ما كان سيصير معروفاً لدينا نحن الذين نعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين لو أنه لم يترجم إلى السريانية، ثم إلى العربية، ثم إلى اللاتينية، ثم إلى سواها من اللغات، أي أنه ظل باقياً لأنه صار «ينطق» بلغات أخرى غير لغته الإغريقية، التي لم تعد أهم اللغات في عالم اليوم، وكان سينتهي الأمر بأفكاره لو قدر لها ألا تترجم أكثر من مخطوطات عتيقة تحفظ في أحد متاحف أثينا، يراها اليونانيون، ولكن لا يقرأوها.
لكن الكلام أو النص إذ ينقل من لغة إلى أخرى لا يعود هو نفسه بالحرفية التي كان عليها قبل نقله. وحتى لم حمل المعنى نفسه فإنه يكتسب ظلال معانٍ جديدة تضيفها عليه اللغة الجديدة التي نقل إليها، محكومة في ذلك بالبناء الخاص بها، الذي لا يحرف المعنى وإنما يغنيه بروحٍ جديدة. وليس أدل على ذلك من شروح ابن رشد على نصوص أرسطو. إن ابن رشد لم يكن مترجماً، بالمعنى المتداول، حين ترجم أرسطو إلى العربية، إنه كان منتجاً للمعرفة. كان فيلسوفاً يقدم أطروحات فلسفية جديدة، وإضافات خلاقة، ولا يقدم أرسطو بالعربية، إنما يقدم إلى قرائه وإلى العالم وإلينا نحن فيما بعد أرسطو العربي.
النص حتى لو لم يترجم، فإنه في نطاق اللغة التي كتب بها يحتمل تأويلات مختلفة، فما بالنا إذن إذا نقل إلى لغة أو لغات أخرى، لها سياقاتها المختلفة، وبنيتها الخاصة بها، فضلاً عما تحمله من دلالات قد لا تتوفر في اللغة التي ترجم منها هذا النص أول مرة.
حتى الآن ما زال جُهدُ الترجمة العربية موجهاً للنقل من اللغات الأوروبية. ليس تحت أيدينا بيان أو إحصاء بهذا الخصوص، ولكن نظرةً عامةً على الكتب المترجمة تجعلنا على يقين بأن هذه الكتب نُقلت إما عن الفرنسية أو الإنجليزية أو الروسية، وفي العقدين الأخيرين عن الإسبانية. وبالتالي فإن «الآخر» بالنسبة إلينا كقارئين للترجمات، هو الآخر الغربي الذي كدنا نختصر فيه العالم، ناسين أن في هذا العالم لغات أخرى عريقة ثرية شكلت وعاء خصباً لثقافات عظيمة خاصة في آسيا، وليس من سبب يدعونا لعدم الاهتمام بالثقافات الصغيرة، أو بالأحرى ثقافات الشعوب الصغيرة، فمثل هذه الثقافات قادرة هي الأخرى على أن تقدم أسماء لامعة في مجال الإبداع والفكر.
نحن العرب موزعون على قارتين عظيمتين هما آسيا وإفريقيا. هنا كان مهد الحضارة العالمية، ولكن جهلنا بثقافة وأدب شعوب هاتين القارتين يكاد يكون مُخزياً. ماذا نعرف عن ثقافة الهند مثلاً؟ حتى طاغور وصَلنا كصدى لاهتمام الغرب به، لسنا من اكتشفهُ أو سعى لمعرفته. وماذا عن الصين، ثقافةً وتاريخاً وأدباً؟ إذا ما استثنينا تلك الشذرات التي قدمها بعض المأخوذين بعمق هذا البلد وغرابته وعراقته مثل الراحل هادي العلوي؟
ومن نعرف من باكستان سوى محمد إقبال؟ وماذا نعرف عن إيران القريبة جداً التي تشاطرنا التاريخ والجغرافيا؟ إن «الآخر» القريب منا، الآخر الشرقي، والآخر المسلم، الآخر الآسيوي والآخر الإفريقي، مجهول تماماً أو يكاد يكون مجهولاً من قبلنا. نحن نعرف بعض المعرفة الغريب البعيد ولكننا نجهل كلياً جيراننا.
لا يمكن التعرف على مقادير التنوع الثقافي في عالم اليوم، أذا ظلّ اهتمامنا منحصراً في وجهة واحدة، خاصة وأن الثقافات المختلفة تعبر عن رفضها التنميط الثقافي الذي يُراد فرضه على العالم، من خلال النماذج الابداعية التي تُقدمها والتي يرتقي بعضها إلى مستوى العالمية، ولكنها تظل مهددة بالإقصاء والتهميش لصالح النموذج المسيطر عالمياً، والذي يمتلك آليات تسويقه الفعالة.
_______
*جريدة عُمان