غرفة تخصّ «صبري» وحده


*سمر نور


حبل غليظ يتدلّى من سقف غرفتي، كأنه ثعبان مجدول يمكنه التمدُّد وملاحقتي في كلّ مكان، في كلّ منزل جديد أقيم فيه، بل في كلّ غرفة أدخلها.
كنت أسمع، في الليلة التي رأيت فيها هذا الحبل، لأوّل مرّة، شخير أمي. وفي ليلة أمس كنت أسمع شخير زوجي، أنشوطة صبري تتأرجح في مخيِّلتي، وكأنني رأيتها منذ ساعات قليلة، وليس منذ أكثر من عشرين عاماً! 
ما الذي دار في عقل صبري في تلك اللحظة التي وضع فيها عنقه داخل الأنشوطة، وركل الكرسي من تحت قدميه؟!
تلك اللحظة الزئبقية التي لا يمكن إمساكها تسيطر على عقلي الآن أيضاً. 
– العقل «الباطل» يا أبلهَ، العقل الباطل، هو العقل الباطل.
ابتسمت بمرارة، منذ عشرين عاماً، قالتها عيشه لأوّل مرة، وضحكت بصوت مرتفع، وتعجبت عيشه ومصمصت شفتيها. اعتدت على نبرة صوتها الواثقة وهي تمارس مهنة الطبّ النفسي دون أن تدرك ذلك.
عيشه هي رفيقتي الوحيدة الآن، أنتظر زيارتها لي كل صباح لتقوم بشؤون المنزل، وتسلّي وحدتي بعد خروج زوجي إلى العمل، ابنتي تدرس في الخارج، ولم تعد لديَّ مسؤوليات كبيرة. أصبحت حبيسة منزلي، لا أخرج ولا أخالط البشر، كأنني لست تلك الشابّة العشرينية التي كانت تجلس في صالة تحرير الجريدة منتظرة لحظة العمل كفهد يستعدّ لوثبته القادمة على فريسة محتمَلة، حتى باغتتني فريسة لا يمكن مقاومتها، وتعلَّقت رقبتي بأنشوطة صبري يا عيشه!
كنت آنذاك جالسة في صالة تحرير جريدة أسبوعية، خرج مدير التحرير من مكتبه، واستند إلى الباب متأمِّلاً الجالسين وهو يهرش ذقنه كأنه يفكِّر بعمق، قبل أن يشير إليّ ويعطيني صفحة حوادث مقطوعة من جريدة يومية، رغم أنني محرِّرة تتدرَّب في صفحة الأدب التي لا تصدر إلا في ذكرى نجيب محفوظ وما شابهها من باب الوجاهة.
مدير التحرير يشبه بلطجية أفلام سينما الأبيض والأسود. يحكي الزملاء في لحظات التجلّي عنه ويتندَّرون. يقولون إن أصله كان مرشداً للأمن، أكمل تعليمه فتمَّت ترقيته إلى «مرشد صحافي»، تلك الفكاهة التي كانت تثير الضحك بوصفها دعابة.. يبدو أنها لم تكن تخلو من الحقيقة أبداً!
«أنا بدأت حياتي بصفحة الحوادث، وأي صحافي عايز يبقى صحافي مهمّ لازم يبدأ منها».
هكذا تحدَّث فخامة مدير التحرير وهو يضع بقلمه دائرة حول مانشيت حادثة:
«عجز عن إطعام أطفاله فانتحر.. حلّ لغز مقتل نَقّاش المرج». 
وكان مطلوب مني -وفقاً لتعبيره- أن «أقلب» الحادث إلى حكاية فيها «تحابيش» جديدة. بالطبع، يقصد أن تكون «متخيَّلة»!
أصررت، بمنتهى السذاجة، أن أقوم بالمهمّة بمهنية؛ أن أذهب إلى موقع الحادث بنفسي وأتقصّى التفاصيل الجديدة. ابتسم بسخرية وتركني، ودخل مكتبه وهو يتحسَّس كرشه بعصبية.
أنقذتني عاملة التليفونات.
يصعب أن تحدّد عمر أمل فبشرتها مختفية، تماماً، تحت أطنان من ألوان المكياج. كرَّست كل وقتها في محاولة الإيقاع بصحافي في حبّها، كان الصحافيون يستغلّونها لاستعمال التليفون وقتما يريدون، حيث حدَّدت إدارة الجريدة دقائق محدودة للمكالمة الواحدة، تقوم بقطع الخط بعدها، كان صحافي شاب يمتدح أناقتها، ويطلب منها تحويل مكالمة، وهي تبتسم في دلال وتلاعب خصلة مصبوغة ومتدلية من ثنايا حجابها. ابتسمت بدوري وأنا أسألها عن مكان الحادث في إحدى عزب المرج حيث كانت تقيم في عزبة قريبة منها، فعرضت عليَّ خدماتها (بجدعنة) بنت بلد أصيلة، وهي تؤكِّد أن العزبة المذكورة قريبة منها، وسترافقني إلى هناك، وكان خطّ السير من آخر خطّ مترو المرج إلى ميكروباص، ثم عربة مفتوحة أشبه بعربات نقل المسجونين، ثم حارة ضيِّقة وبيوت متلاصقة من دورين في الغالب، متراصّة في عشوائية، حجرات ضيِّقة بعضها بلا شبابيك، يمكنك أن تتطفَّل على العائلات التي تقطن بداخلها، وليس هناك غرفة إلا ويقطنها سبعة أشخاص على الأقلّ.
كانت حجرة المنتحر في منتصف الشارع، بالدور الأرضي وبلا شبّاك، لكنها مطليّة حديثاً، كما يبدو، بلون أبيض، مما جعلها مختلفة عن البيوت المجاورة لها، وكانت المشنقة ما زالت في مكانها.. حبل غليظ متدلٍّ من السقف المشقوق الذي يستعدّ، أساساً، للسقوط، ينتهي بأنشوطة متينة، يبدو أن مَن ربطها كان قد قرَّر ألا يترك مساحة للخطأ. ورغم حضورها فلم تكن هي بطلة المكان. الجدران، تلك الجدارية المرسومة بخامات وألوان مختلفة، هي البطل الحقيقي!
جدران الغرفة المشقوقة ممتلئة عن آخرها برسوم ملوَّنة وأخرى بالفحم، مناظر طبيعية لزرع وطيور وأشجار.. جوّ ريفيّ، ووجه فتاة صغيرة بعيون سوداء واسعة مكحولة وشعر طويل أسود وغجري، تتكرَّر صورتها في أنحاء الجدار. في أماكن أخرى من الجدار رسومات بالفحم لمجموعة من النسوة بأعمار مختلفة مُتَّشحات بالسواد جالسات في وضع القرفصاء. شعرت أن هذه الرسومات الجميلة تتناقض مع روح المكان العشوائي بقذارته، والروائح المميتة المنتشرة في أركانه، وكأن مصدر جمال تلك الرسومات البسيطة هو وجودها بين كل هذا القبح المسيطر على الحارة المتربة!
– فاكره أوضة المرج يا عيشه؟
لا بد أن تمسك عيشه ظهرها في أثناء الاعتدال من انحنائها حتى لا ينكسر، يكفيها ما تشعر به من ألم وانتقالها بين الأطباء والمستشفيات دون أن تعرف ما بها، رشيقة كما عرفتها رغم امتلاء أردافها، لم تعد بالتأكيد، هي تلك الفتاة الصغيرة النحيلة، لكن قوامها لم يمتلئ باللحم والدهن لاستمرارها في العمل الشاقّ في البيوت، تلقي عليَّ نظرة لائمة، كأنها تقول لي: كيف أنسى! لكنها مع ذلك عادت إلى الانحناء والعمل والثرثرة عن البنات والأبناء الذين كبروا ومصاريفهم تزيد معهم، وعرَّجت إلى أمور السياسة لتتحدَّث بثقة متحدِّث في برنامج حواري بالتليفزيون. 
عيشه لم تعد تسمعني أو تجيب عن أسئلتي مثلما كانت في الماضي، حين انتقلت للعمل في منزلي منذ عقدين، وانتقالها معي بعد زواجي. عيشه تعرف عن ابنتي أكثر مما تعرف عن أبنائها، ومع ذلك لا تسأل عنها! لا أعرف ما جرى لك يا عيشه!
كان الخبر الصحافي يشير إلى أن المنتحر يدعى صبري، ويعمل نقّاشاً، انتحر بسبب ظروفه المادية الصعبة، تبرَّع صاحب البقالة المجاورة للبيت بالتعليق على الخبر، بعد أن تعرَّف إلى «أمل» مرشدتي في هذا المكان ذي الخصوصية، والذي يصعب على غير أهله التجوُّل فيه بحرّيّة، أكَّد الحاج سعيد البقّال أن الشرطة لم تصل بعد إلى أسباب الانتحار، لذلك تركت مسرح الجريمة كما هو. كان يدلي بتصريحاته في ثقة كمصدر مسؤول، عادّاً نفسه حارساً على الغرفة، يمنع الأطفال والشباب من العبث بالمكان، سألته عن المنتحر، فقال إنه كان «صاحب مزاج» لم يكن يعبأ بذوي الذقون الذين يأتون من أماكن قريبة، ويدعون الشباب إلى الصلاة، ولم يكن يشارك الحشّاشين والسكارى في جلساتهم، ثم انحنى قليلاً في اتجاه أمل، وقال: «أعوذ بالله، باين كان عليه.. اللهمّ احفظنا».. ضربت أمل صدرها بكفّها، وقالت: «هو ده صبري ابن عمّ إبراهيم بتاع الداخلية!».
لم يستطع أحد معرفة مهنة الأب، وربما إبراهيم نفسه لا يعرف مهنته، لكنهم أكَّدوا أنه يعمل في وزارة الداخلية! ورغم خوف «أمل» إلا أنني أصررت على أن نصعد إلى بيت «إبراهيم» في حارة موازية، سارت معي وهي تحاول إثنائي عن قراري، ونقلت لي ما حكته لها والدتها عن جلسات الزار التي أُعِدَّت للمنتحر، وكانت «سابع حارة» تسمع صوت الجنّي وهو يصرخ، وكيف أن والده قد زوَّجَه من «عيشه» «عشان ربّنا يهديه ويزيح عنه» كما أوصاه الشيخ، وبالفعل هدأ الولد وأنجب من عيشه أربعة أبناء قبل أن يرجع إلى سيرته الأولى.. أسألها: وما هي سيرته الأولى؟ فلا أجد إجابة سوى حكي الرواية من جديد بطريقة أخرى حتى وصلنا إلى بيت والد المنتحر.
البيوت في المكان متشابهة: الطلاء متشقِّق من الخارج، الطوب الأحمر يظهر على سطحه الخارجي، وسلالمه الحجرية مكشوفة على السماء في الغالب، لأن بناءها لم يكتمل رغم أنها أبنية قديمة، أصعد بلا تردُّد خلف أمل حتى نصل إلى الدور الثاني حيث تقطن عائلة إبراهيم في غرفة واحدة تكاد تكون خالية من أي أثاث سوى سرير خشبي كبير مواجه للباب، يجلس إبراهيم على السرير وهو ينفث سيجارته مرتدياً جلباباً أبيض متَّسخاً، ويجلس بجواره شاب آخر وحولهم بعض الأطفال، وعلى الأرض تتراصّ نسوة يرتدين السواد وأطفال يلعبون ويصرخون.. مشهد يناسب رسومات غرفة صبري تماماً. كانت «أمل» مفتاح الأبواب المغلقة، سارعت بتعريفي لإبراهيم الذي صرخ في وجهي لاعناً الصحافة التي لا تخشى الله، «ابني كان عايش أحسن عيشهَ، جبتلّوا أوضه لوحده هو ومراته وولاده الأربعة، وعمره ما يموت وهو غاضب ربّنا، هُمّه العيال الحشاشين أكيد قتلوه، أيوه، أنا قلت لهشام باشا يشوف حكاية الصحافة دي إيه، ومش هسيب حق ابني». 
لم أسأل من هو «هشام باشا» لأن مَن يتحدّث هو «إبراهيم بتاع الداخلية».
الثورة التي انتابته وهو يحكي عن ابنه «المرفّه» الذي يعيش في غرفة خاصة لم تصبني بالدهشة، فهذه الغرفة يعيش فيها عشرة أخوة كان من بينهم، يوماً، صبري ذاته! حاولت التهدئة من ثورته معلنة أن وجودي في المكان بغرض الكشف عن الحقيقة، فكانت ثورته تزداد، وكذلك حركة جسده المضطربة، كأنه على وشك الهجوم عليَّ بدلاً من كل من كتب عن حادثة ابنه!
نزلنا مرّة أخرى إلى موقع الحادث حيث حكى شاب متطوِّع من شباب الحيّ: «كان واد خرع لا مؤاخذه، وبيتقمص من أقل حاجه، ويعيَّط زي النسوان، أبوه وأخوه همه للي كانوا بيحموه، من غيرهم كان زمانه اتقطع ولا مؤاخذه، بس طيِّب قوي وغلبان، على طول كده في ملكوت تاني، بس والله كان حبيبي». 
حكايات شباب الحيّ الذين عاصروا طفولته أشارت إلى أنه يبلغ عشرين عاماً، ويعمل نَقّاشاً في العزبة نفسها، اختار له والده أن يعلِّمه هذه المهنة منذ صغره وأتقنها حتى ذاع صيته في الأحياء المجاورة، كان صبري في طفولته يسافر إلى قرية أمّه المتوفّاة لزيارة أخواله، ثم يعود إلى حارته وعمله وحياته وهو غير راضٍ عن أي شيء، لا يختلط بالناس ولا يفعل شيئاً سوى الرسم على الحيطان، حتى أن والده زوَّجَه وهو لم يبلغ سبعة عشر عاماً «عشان ينشف ويبقى راجل» كما عَقَّبَ إبراهيم نفسه.
هل حدّثتك من قبل- يا عيشه- عما حدث معي قبل زواجي، وقبل عملك في خدمة البيوت لإهمال إبراهيم في الإنفاق عليك وعلى أولادك؟ كنت أحلم- يا عيشه- بحياة أخرى، مثل صبري تماماً، منذ تخرَّجت في الجامعة ورغبتي في الاستقلال عن الأسرة ملحّة، رغم أن أسرتي مكوَّنة من ثلاثة أبناء وأمّي وأبي فقط. كانت لديّ رغبة في الحياة بمكان يخصّني وحدي تحكمه قوانيني، ولا يتحكَّم فيه أحد غيري، أمارس فوضويتي أو نظامي الذي لا يعجب أحداً، وأعرف ما أريده لحياتي دون ضغوط وحسابات لأحد غيري، وكان التحقيق الذي أجريته عن قضية صبري سبباً أساسيّاً في تركي المنزل رغماً عن أسرتي، والإقامة لفترة مع صديقة قبل أن أتعرَّف على باسم ونتزوَّج، كان قريباً من أفكاري، لكن كلّاً منا تغيَّر بعد الزواج، نجحنا في تكوين أسرة لكن لم يكن أحد منا، حين يخلو إلى نفسه، سعيداً! كنا نريد الطيران أبعد من حدود أيّة غرفة، فوجدنا أنفسنا معلَّقين بأنشوطة غرفة صبري يا عيشه، لم يكن أحد منا سعيداً بصحبة الآخر طوال الوقت، ولم يكن أحد منا سعيداً بمفرده، ولم يكن من الممكن أن أتقبَّل كون هذه هي الحياة ببساطة! الفكرة، مجرَّدة في حَدّ ذاتها، تبدو قاتلة لي يا عيشه، لكنها واقعاً لا بُدَّ من معايشته، هل تفهمينني؟! 
وكيف تفهمينني وأنت لم تفهمي صبري! 
حين تعرّفت إليك لأوَّل مرّة، كنت جدارية حيّة تفترش الفراغ! فتاة سمراء نحيلة تتَّشح بالسواد، جالسة القرفصاء، مستندةً إلى الجدار، جسدها يلتصق بالأرض لكن رقبتها النحيله تلتوي في اتجاه السماء، شاخصة إلى نقطة بعيدة بعينين واسعتين وأهداب ناعسة، نظرتِ إليَّ بدهشة من لم يعتد على الغرباء، فبادرت أمل في تقديمك إليّ:
– عيشه، مرات المرحوم صبري.
استمرّت «عيشه» في الحكي لأكثر من ساعة في ذلك اليوم، اشترك الجميع في وضع لمسات على بورتريه صبري، الأب والبقّال والجيران، حتى أفكاري وتساؤلاتي المحيَّرة شاركت في إعداد التحقيق، إلا أن وجه عيشه الذي أطلَّ من رسومات جدران بيت صبري كان الأكثر إلهاماً. انتحر صبري في أثناء نوم عيشه وأبنائه الصغار الأربعة في الغرفة نفسها، عيشه آخر من رأى صبري.. كانت فتاة صغيرة مرتدية السواد تجلس في وضع القرفصاء، يجلس على الأرض بجوارها ثلاثة أطفال صغار في أعمار متقاربة، وينام على صدرها طفل وليد، تشبه رسومات حجرة صبري الفحمية. لكن عينيها ذابلتان وخاليتان من الكحل القاتم الذي يحدِّد العينين في اللوحة.. تقول عنه: «كان طيب قوي معايا.. عمره ما زعَّلني، وكان على طول يرسمني، بس مكنش بيتكلّم معايا، كنت بحبّ رسوماته قوي والله، بس كانت بتخوّفني بالليل، وأمّي قالت لي إنها بتجيب النكد، والنكد جه واللهِ.. بقى يقعد بالأسابيع يا أبله لا شغله ولا مشغله، لحدّ ما الأسطوات زهقوا منه، وهو الصنايعي إيه غير سمعه! والعيال مش هتاكل طوب يعني يا أبله، ولا التصاوير بتاعته هتعيّش جتّه، أمّي قالت نعملّه زار من هنا، بس، راح هو مصرّخ ومكسر الدنيا، مَسْكِتش غير لمّا أبوه رنّوا علقة، وحلف عليه يدّي التصاوير دي كلها وش بويه، ويطرد الشياطين للي جبهم لحدّ عنده..».
وجه عيشه وجلستها وضمّتها لابنها الرضيع، كل التفاصيل رسمها صبري بمهارة على جدران الغرفة بين رسومات جداريّته الرائعة.. تلك الصورة التي لم تُمحَ من الذاكرة.
تغيّرت ملامح وجه عيشه كثيراً، تناثرت الغضون حول عينيها، وباتت أكبر سنّاً من عمرها الحقيقي، كانت مجرّد طفلة، فعجّلت خدمة البيوت من مرور سنوات فوق سنوات عمرها لتترك آثارها على بشرتها، وتلك الآلام التي لا تعرف مصدرها تنهكها أكثر، أعددت لها الشاي والفطور وجلست لإقناعها بالتوقُّف عن الخدمة فقالت: ضهرك المكسور مش حمل شغل البيت يا أبلهَ.
لم تكن عيشه لتستغني عن الخدمة في البيوت، فلو لم أتوقَّف أنا عن منحها المال فسيتوقَّف غيري.
هل تعرفين يا عيشه أني كنت على وشك عقد أنشوطة مثل أنشوطة صبري أمس؟ كنت أرغب في الانفراد بنفسي، ولكن زوجي -كعادته- يرغب في ونستي، يحاصرني مثل أمّي. هل تعرفين أنني ما زلت أرغب في غرفة تخصّني وحدي، وأخشى من مصير صبري، ماذا حدث ليلة انتحاره يا عيشه؟!
تجلس عيشه جلسة القرفصاء المعتادة وهي تحمل كوبها الزجاجي بين راحتيها، وتلوي عنقها في اتجاهي كأنه خيرزان، وتقول: جوزك مات يا أبله، وأنتي وحيدة، حتى أنا في المستشفى بين الحيا والموت، بس هو العقل الباطل يا أبلهَ، هو العقل الباطل.
تخرِّف عيشه مثل عادتها منذ باغتها الألم، تنسى فتتهرَّب من الأسئلة بصبّ الغضب على رأسي، كأنها ليست السبب في موت صبري، وكأنني لا أحتمل الوحدة التي كنت أبحث عنها؟! لن تتذكّر عيشه أني سألتها السؤال نفسه في التحقيق، وأن إجابتها كانت إدانة للجميع. 
– حصل أيه ليلة انتحاره يا عيشه؟
– الشياطين للي بتتنطّط في عقله هُمّه للي موَّتوه يا أبلهَ!
كان والده قد حكم عليه بمحو جداريته من الوجود، وكان عليه التنفيذ صباح اليوم التالي، قضى الليل كلّه يكمل جداريته، يرسم ما تبقّى من أماكن ويلوّن أو يظلِّل ما يريده، وبعد أن انتهى تماماً من وضع لمساته، أنهى حياته قبل أن يضطرّ إلى محو رسوماته، قتل نفسه قبل أن يقتلوه!
وقُيِّدت جريمة القتل في ملفّات الشرطة بوصفها انتحاراً.
لم يُنشَر موضوعي بالطبع، بل نُشِر موضوع آخر بمانشيت عريض:
لغز انتحار نقّاش بيت المرج «المسكون». 
غرف بيتي لا تشبه غرفة صبري يا عيشه، لكن الأحبال تتشابه، والعقل «الباطل» يتشابه كذلك، وأنت رحلت دون وداع، وهكذا فعل زوجك، وزوجي، أيضاً، لم يعد حتى الآن، ولم يتبقّ لي سوى أنشوطة صبري المدلّاة من السقف.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *