* سامر محمد اسماعيل
تحولات درامية طالت المكتبات في سوريا في ظل حرب دخلت عامها الخامس بعيون شيطان الخراب الدموي؛ وجسدٍ وطني ما زال ينتفض على خريطة الاقتتال. المأساة تركت ندوبها واضحة على جميع مرافق الحياة العامة للمدن السورية الكبرى، والتي لطالما اشتهرت بمكتباتها الضخمة؛ وحضورها في المشهد الاجتماعي للبلاد.
اختفاء أهم المكتبات في كل من دمشق وحلب واللاذقية وسواها من المدن لم يكن رهناً باندلاع الكارثة، بل العديد منها اختفى حتى قبل وقوع الحرب بسنوات. «قصة موت معلن» لم يكتبها ماركيز هذه المرة؛ بل يروي عنها سعيد البرغوثي مدير وصاحب (دار كنعان للنشر والتوزيع) فيقول مستذكراً مكتبات العاصمة: «ترحل بي الذاكرة إلى مطلع الخمسينيات من القرن الفائت؛ حيث كانت مدرستي قريبة من سوق (المسكية)، المكان الوحيد وقتذاك في دمشق الذي كان مخصصا لبيع القرطاسية وبعض الكتب المدرسية والمستعملة».
في تلك الأيام لم يكن في دمشق مكتباتٍ متخصصة لبيع الكتب – يتابع البرغوثي ويضيف: «يومها لم يكن تعداد سكان المدينة يزيد عن ثلاثمئة ألف نسمة، كانت المكتبة حينها عبارة عن دكان مكتوب على واجهته: (صحف – مجلات – كتب – أجبان – سندويش). فلم تكن المكتبات بمعناها الحالي متخصصة ببيع الكتب.
في الستينيات والسبعينيات، أي في زمن الأحلام الكبرى، كما يصفها الناشر البرغوثي – كان مرتادو المكتبات يتلاصقون أحياناً، كتفاً بكتف، لاختيار ما يرغبون من الكتب، فتعددت المكتبات وازدهرت، وتمددت في شوارع دمشق. فالفلسطيني سمعان حداد أنشأ مكتبة (أطلس) في شارع الصالحية، ومحمد حسين النوري أنشأ (مكتبة النوري) في ساحة الحجاز، ومحمد زياد تنبكجي أنشأ (مكتبة دمشق)، ولكن أقدمها كانت (دار ومكتبة اليقظة)»..
مع تعاظم عدد القراء في الستينيات والسبعينيات ازدهرت المكتبات الشامية، لكنها أخذت بالتقلص بفعل الهزائم والإحباطات، وأخذت المكتبات بالتراجع – يعلق الناشر الفلسطيني – السوري ويضيف: «مكتبة ميسلون تحولت إلى مقهى منهيةً أربع عقود من زمن رواج الكتاب التنويري، ومكتبة اليقظة في شارع المتنبي تحولت لمحل لبيع الأدوات الكهربائية، فيما أصبحت مكتبة أطلس متجراً للملابس؛ وهكذا، فالتراجيديا، لم تتناول فقط البشر في حياتهم، بل المكتبات أيضاً».
تراجع حضور المكتبات ذات الطابع العلماني من جهة العناوين التي تبيعها، كان على حساب طغيان مكتبات ذات طابع إسلامي في قلب العاصمة، إذ يمكن للزائر اليوم أن ينتبه لحضور كثيف لهذا النوع من المكتبات في حي الحلبوني الدمشقي؛ وبواجهات فخمة تبث على مدار الساعة تسجيلات منشديها عن يوم الحساب وعذاب القبور فيما ما زالت مكتبتي « الشام» و «ونوبل» المكتبتان الوحيدتان في قلب العاصمة تقاومان هذا الانقراض.
مفارقة يمكن ملاحظتها عند قراءة عناوين الكتب المباعة حتى لدى المكتبات التي تتصف « باعتدالها» حيث أخفت هذه المكتبات طبعات نادرة من «الكاماسوترا، ألف ليلة وليلة – غير مهذبة -، الروض العاطر وسواها» في سقيفة مستودعاتها؛ تاركةً المجال لطبعات شبه مجانية من كتب الهداية إلى الطريق القويم!
كان يمكن التنبؤ بالكابوس الذي نعيشه اليوم – يقول الصحفي أحمد الحسن ويتابع: «منذ أكثر من عشر سنوات، عندما بدأت وسط دمشق بالإغلاق، مقابل استفحال أشرطة كاسيت كان يفوح فحيحها في وسائط النقل العامة لمن يسمون دعاة.. عدا عن انتشار الكتب ذات الطابع المتأسلّم الرخيص.. تلك السنوات كانت (داعش) تنمو بيننا وبشكل متسارع عاكسةً هزيمتنا كشعب متحضر، ولم يكن بمقدورنا فعل شيء سوى انتظار الانفجار»..
اليوم تحوّلت «مكتبة العائلة» في ساحة النجمة إلى صيدلية. أما شارع البريد المعروف بمكتباته العريقة تحوّل معظمها إلى محالّ للوجبات الجاهزة؛ في حين أقفلت مكتبة «إينتانا» في حي الشعلان بعد سفر صاحبها معن عبد السلام إلى خارج البلاد.
حلب أيضاً شيعت مكتباتها
ليس لكَ أن تذكر الكتب والمكتبات؛ إلا وتحضر حلب رحماً لطباعتها واحتضانها وفضاءً ثقافياً لانتشارها وتداولها وتسويقها؛ فمنذ ولادة أول رواية عربية فيها «غابة الحق» لفرنسيس المراش في العام 1865م وحتى مطلع الألفية الثالثة؛ بدأت (الشهباء) تشهد انحساراً تدريجياً في عدد تلك المكتبات وتراجع سوق الكتاب وتداوله إلى حدّ الموات في أيام الحرب.
ربما كانت السبعينيات والثمانينيات الربيع الحقيقي لازدهار المكتبات في حلب – يعلق الروائي والناقد نذير جعفر ويضيف: «كنت لا أمر بشارع إلا وأحظى بمكتبة تزخر بآخر ما طبع في بيروت أو القاهرة أو دمشق؛ بل إن بعض أصحاب تلك المكتبات كانوا يطلبون للقارئ أي كتاب يريده من دور النشر ليصلك خلال ثلاثة أيام. أما بالنسبة إلى الكتب القديمة أو المفقودة من المكتبات الحديثة لنفاد طبعاتها؛ فكان لها مكتبات عدة متخصصة فيها في شارع القوتلي، لتتحول كلها الآن إلى محلات لبيع «الموبايلات» وإكسسواراتها»!
لا يمكن لمثقف من حلب أو زائر لها آنذاك؛ إلا ويتردد على مكتبة «الفجر» التي تخصصت بالكتب الروسية المترجمة إلى العربية؛ وبالفكر الماركسي على نحو خاص؛ إذ كانت معارضها السنوية تشهد زحاماً كبيراً؛ وهذا ما كان يستغله هواة سرقة الكتب في الحصول على مبتغاهم بلا ثمن! يتابع نذير جعفر ويضيف: أذكر أنني انتظرتُ ساعة على الرصيف لأتمكن من الدخول إليها خلال معرضها السنوي؛ بعد أن غصّت « الفجر» بالزوار والهواة من كل الأعمار شباناً وشابات! وكم كانت خيبتي شاسعة عندما مررتُ بها قبل سنوات لأراها محلاً لبيع الكنافة النابلسية!»
المكتبات في حلب كان لها دور رئيسي في بيع وترويج إصدارات دور النشر المصرية واللبنانية؛ وتشكيل ما يشبه صلة وصل بين الشرق والغرب، فمكتبة (استانبولي) كما يتذكرها الروائي نذير جعفر: «كانت تزين واجهتها بآخر الإصدارات في العواصم العربية التي لم يمض على صدورها سوى بضعة أيام! وكان صاحبها مستعداً لإحضار أي كتاب عربي أو أجنبي تطلبه من أي عاصمة أو دار نشر، وكم أحزنني أيضا تحولها إلى محل لبيع الحقائب الجلدية»!
وفي زاوية تقاطع شارع بارون الحلبي مع شارع القوتلي كانت تنهض دار نشر ومكتبة «عفش» المتخصصة بكتب التراث وقصص الأطفال، لكنها توقفت أيضاً عن نشاطها و اكتفت بفتح أبوابها أحياناً بغرض التصفية، ومثلها مكتبة (الأصمعي) العريقة في حي «الجميلية» التي أصبحت جاهزة للبيع بعد تصفية معظم محتوياتها! وليست حال مكتبة «عجان الحديد» الشهيرة بكتب التراث أفضل حالاً فقد انتقلت إلى حي بعيد ويكاد لا يهتدي من يقصدها إلا بشق النفس! وتحول مركزها القديم المعروف إلى محل تجاري!
حتى مكتبات الأرصفة المزدهرة انعدمت تماما بعد الحرب التي طال المدينة منذ ثلاث سنوات ولم تسلم منه؛ فأصبحت نادرة وتقتصر على الكتب التجارية والمسروقات، يقول جعفر ويضيف: ربما لم يبق الآن في حلب سوى «مكتبة الزهراء» التي تقاوم ببسالة إغراءات التحول إلى محل تجاري لبيع الأحذية أو الألبسة؛ متكئة على ماضٍ جميل تأبى أن تفرّط به».
هل تصدق نبوءة إمبرتو إيكو وتتحول المكتبات الخاصة والعامة؛ إلى مجرد متاحف للكتب تثير الغرابة لدى الأجيال المقبلة التي سرقتها ثورة التواصل الإلكتروني؛ ولم يعد لها أي صلة بالكتاب الورقي الحميم؟
أسماك وكتب اللاذقية
من أربع عشرة مكتبة كان حضورها لافتاً في مدينة اللاذقية إلى ثلاث منها ما زالت تقاوم انقراضها من الحياة العامة للمدينة. إحدى تلك المكتبات كانت قريبة من بيتنا في»ساحة حلّوم» و كان اسمها «مكتبة الخيّام»، يعقب فنان الكاريكاتور عصام حسن الذي نهض مع بعض الناشطين بمشروع لافت هو مكتبة ونادي الرسم المجاني لأطفال اللاذقية ويضيف: «أذكر أنني كنتُ في عمر اليفاعة أذهب إلى المكتبة لأشتري «مجلّة أسامة» أو «المزمار» أو «تان تان» أو حتى القصص السوفياتية المصوّرة الصادرة عن دار «التقدم في موسكو» أو دار الحقيقة «البرافدا» وغيرها من المجلّات أو قصص الأطفال الأخرى التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة أيام كانت الوزارة تهتم بثقافة الطفل بشكل لا بأس به على نقيض هذه الأيام».
يذكر أهل اللاذقية بحنين مكتبة «فكر وفن» في اللاذقية، التي حوّلها صاحبها الشاعر منذر مصري إلى دكان للأحذية؛ فعقود «الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، كانت الشيوعية في أفول، والثقافة والتعليم بوصفهما حبل خلاص فقراء السوريين على وشك أن يلفظا أنفاسهما، ليستتب الأمر في الألفية الثانية للتكنولوجيا وللثقافة التقنية، للإبهار البصري والعروض الليزرية.
كنا آخر جيل يعطي مواعيد غرامية في مكتبة الجامعة، يعقب الشاعر محمد دريوس ويضيف: كان الشاب منا يأتي للموعد حاملاً وردة مقطوفة من سور الجيران، آخر جيل انطبع في ذهنه سحر المظهر الكلاسيكي للمثقف، نظارات طبية، لحية غير مشذبة، الحقيبة الجلدية، الكتاب السميك تحت الإبط وبالطبع ذلك التوثب والجهوزية التامة للدخول».
طرطوس ومكتباتها
وهل ما زال النّاس يشترون الكتب؟ «تسأل الشاعرة علا حسامو» وتضيف: «أراقب وجه صاحب مكتبة (السّوريتي) بطرطوس الذي ظلّ يقاومُ حتّى حسم الأمر أخيراً وبدأ يستبدل الكتب بقرطاسيّة ودفاتر تلوين، وكتيبات واقرأ كفّك واعرف برجك». صاحب مكتبة «سوريتي» يقول: «لم تعد مكتبتي قادرةً على الصّمود، تحت ضغط الأسعار المرتفعة صار الكتاب رفاهية وأكثر، وحين يصير الكتابُ في كفة ورغيف الخبز في الأخرى..تكونُ الغلبةُ للخبز».
طرطوس مدينةٌ صغيرة عدد المكتباتِ فيها يتناسبُ إلى حدٍّ ما مع مساحتها وتوزعها الديموغرافي إذا ما آمنّا وانطلقنا من العلاقة العامة بين الناس والقراءة، تقول الشاعرة حسامو التي تدير اليوم مشروعها الرائد في مكتبة ومشغل ثقافي حمل اسم «صادنون» وعنه تقول: تبدو ( صادنون) متواضعة بعدد الكتب المتنوعة التخصص بين كتب الأطفال واليافعين والكبار. (صادنون) كان يقصدها بعض روّاد المشغل الثقافي؛ لكنها توقّفت مؤقّتاً مع إغلاق مبدأي؛ إلى حين الانتقال إلى مكان جديد يتّسع لمزيدٍ من الكتب والقرّاء».
_______________
السفير اللبنانية
مرتبط