* خلود الفلاح
هالة كوثراني صحفية وروائية لبنانية، علاقتها بالأمكنة قديمة ومرتبطة بصرياً وعاطفياً بذاكرة كانت شاهدة على حرب تركت ندوباً واضحة لم يستطع الزمن أن يمحوها، في رواياتها تطرح أسئلة كثيرة على قارئ يجد متعة في اكتشاف خيوط اللعبة. تصفها الكتابة بقولها “هي محاولة للإمساك بمعنى الوجود الذي أقتنع به، محاولة لاستثمار الوقت الذي يمضي رغم كل شيء. إنني لم أبدأ بكتابة الشعر، كنت في سنّ صغيرة جداً أكتب قصصاً قصيرة ونصوصاً يغلب عليها طابع حزين، لا أدري لماذا، الحقيقة أنني أبصرت النور خلال أقبح أعوام الحرب الأهلية، ربّما هي السبب”.
الأمكنة تسكنني
تقول “خلال كتابة النص الذي أصبح لاحقا روايتي الأولى، اعتبرت نفسي أنني أحاول الكتابة، أجرّبها، أقوم بما يعطي لوجودي معنى، أو ما يمنحني مبررا ألهو به بدلا من مراقبة الوقت وهو يسيل… ومازلت أقاوم بكتابة إحساسي بالعجز أمام موقف ما، أو بشكل عام كإنسان وجد نفسه في هذه الأرض. الآن يؤلمني أنني ذهبت في اتجاه أبعدني عن كتابة الرواية، رغم أنه التمرين أو الفعل الذي يشبهني، ويعبّر عن ذاتي وأحبّ أن أقوم به. وخلال هذا الابتعاد أجدني أقوّم تجربتي بوضوح، وأدرك أنني في يوم من الأيام سأبدأ من جديد”.
ليس من واجب الروائي أن يتحول إلى مؤرخ أو ومحلل أو واعظ، فالرواية يجب أن تكون عملا أدبيا ممتعا وراقيا
وعن تجربة الروائيات العربيات اليوم؟ تقول هالة كوثراني: لا يمكنني أن أقيّم تجربة روائيات عربيات، لست في منزلة تسمح لي بالتقييم، لكنني أحترم إصرارهن على الكتابة. تأثرت بتجارب روائيات عربيات كثيرات من “بيروت 75” غادة السمّان، و”أنا أحيا” ليلى بعلبكي، إلى “حكاية زهرة” حنان الشيخ، و”أهل الهوى” هدى بركات، كما تجذبني روايات إيمان حميدان. وانطلاقا من تجربتي أعرف أن الإصرار على الكتابة الروائية في عالمنا العربي ليس أمرا سهلا، فكلّ الكاتبات من بنات جيلي يمارسن عملهن الخاص، ومعظمنا غير متفرّغات للكتابة، وكلّ منا تؤدي أدوارا مختلفة، خلال اليوم الواحد، متمسكة بدور الكاتبة وبرسم الشخصيات واللعب مع الكلمات.
لست مؤرخة
القارئ لروايات “استديو بيروت” و”الأسبوع الأخير” و”علي الأميركاني”، يكتشف أنها ثلاثية كتبت حول الانتماء إلى مدينة تشهد تحوّلات كثيرة. عن رؤيتها للمسألة تردّ هالة كوثراني: كنت مسكونة بالأمكنة، وبتأثيرها في تشكيل وعينا وهويتنا وعلاقاتنا. ذاكرتي مرتبطة بصريا وعاطفيا بأمكنة معيّنة، كنت خلال كتابتي لهذه الروايات أشدّ إيمانا بدور المكان في قصص حيواتنا.
القارئ لروايات “استديو بيروت” و”الأسبوع الأخير” و”علي الأميركاني” يكتشف أنها ثلاثية كتبت حول الانتماء إلى مدينة تشهد تحوّلات كثيرة
وبيروت التي ولدت ونشأت وكبرت فيها كانت لغزا فككته عبر الكتابة؛ كتبت عن “البيروتات”، عن الخيبات البيروتية، عن الحروب النائمة في انتظار اشتعالها، عن أبناء جيلي الذين اضطروا إلى مغادرة هذه المدينة لغياب فرص العيش الطموح وتنوّع الاختيارات. اضطرّ معظمهم للبحث عن بدايات جديدة في مدن أخرى. ربما أكون قد حمّلت المكان أوزار الإنسان الذي قضى ويقضي على تاريخ المكان ليصبح حاضره فيه غريبا وتائها. الأمكنة على كل حال مرايانا، تعكس أوضاعنا، معاناتنا، تهلهلنا، اغترابنا أو تطوّرنا وتحضّرنا.
في رواية “علي الأميركاني” منحت كوثراني القارئ متعة اكتشاف لعبة سير الشخصيات، تعلق الروائية: لغة رواية علي الأميركاني بسيطة، ويمكن لي أن أقول إنها سلسة. لقد قمت بتبسيط اللغة قصدا، وربّما ساهم ذلك في تقريبها من القارئ، وأرجو أن تكون قد “أمسكت به”. علي البطل يشبه كثيرين، يمكن أن يكون انعكاسا لأبناء أكثر من جيل، رغم أنه أربعيني هاجر إلى أميركا مع نهاية الحرب اللبنانية. لكنني التقيت بأكثر من شخص قال لي إنه علي، وإنه مثل علي، لا تحدده هوية واحدة، ولا يتبدل شعوره بأنه منفي رغم عودته إلى بلده، وإلى قريته؛ الأسلوب سهل والتقسيم الزمني لملم أحداث الرواية.
نساء رواية “كاريزما” من أزمنة مختلفة، تاج وعزة ورشا، عمّا إن كانت تمنح كتابة كل رواية جديدة الترحال في التاريخ والسياسة والفن، تجيب هالة كوثراني: في كاريزما استعنت بالكتابات التاريخية لأنني تأثرت بقصة الطاهرة قرة العين، وهي شاعرة إيرانية قتلت عام 1852، فقرأت معظم ما كتب عنها، واستعنت بكتب يمكن أن نصفها بالتاريخية لأفهم الإطار الزمني الذي شهد وجودها. أقرأ كتب التاريخ لأن الحاضر يقدّم قراءات متناقضة لأحداث نعيشها وأحداث عشناها، فألجأ إلى الكتب لأفهم ولأستقي منها أجوبتي التي ألملمها من هنا ومن هناك.
أما عن السياسة، فقد نشأت في بيت تغطي جدرانه الكتب السياسية وتعلو فيه النقاشات السياسية، ثم درست السياسة في الجامعة الأميركية ببيروت، حيث حصلت على شهادتي الأولى قبل أن أدرس الأدب العربي، وأعتبر أنني هربت من السياسة إلى الأدب. كتاباتي تتأثر بالواقع السياسي بطبيعة الحال، لكنني أسعى أيضا إلى أن أكون ملمّة بالتفاصيل السياسية التي تجب قراءتها بين السطور، والتي تؤثر في ما أكتبه. لديّ فضول سياسي، وهو ما قد يضطرّ كل فرد عربي إلى التمسّك به بسبب تأثير السياسات الداخلية والخارجية والعالمية في ما نعيشه، وفي ما نخطط له أو نعجز عن التخطيط له.
علي البطل يشبه كثيرين، يمكن أن يكون انعكاسا لأبناء أكثر من جيل، رغم أنه أربعيني هاجر إلى أميركا مع نهاية الحرب اللبنانية
وتضيف: لأنّ كتب التاريخ الموضوعية المكتوبة في عالمنا العربي قليلة أو ربما غائبة، ولأن ثمة تقصيرا واضحا وفادحا في تأريخ الماضي وتوثيق الحاضر، نجد أن بعض الروايات تنصف الحدث التاريخي، أو تحكيه كذلك وتشرحه ضمن أحداثها بأسلوب غير أكاديمي، أو ضمن ما حدث من خلال تأثيراته السياسية والاجتماعية والنفسية في أجيال مختلفة. فليس من واجب الروائي أن يتحوّل إلى مؤرّخ أو ومحلّل أو واعظ، وليس من واجبه رسم الأهداف الكبرى بل رسم خط سير الأحداث في الرواية التي يجب أن تكون عملا أدبيا ممتعا وراقيا”.
عن نساء رواياتها، ولم هن حزينات؟ وإن كانت قد تعاطفت مع إحداهن أثناء لحظة الكتابة وحاولت تغيير مصيرها؟ تردّ كوثراني “تجذبني الشخصيات الحزينة، هي أشدّ عمقا من تلك التي لا تشغلها أزمات عاتية. وشخصياتي ليست ضعيفة بسبب حزنها، بل هي على العكس، لكنها لا تتوقع الكثير من الواقع، ولا تؤمن بالحياة الوردية أو الملونة بألوان الطيف. ربّما هي نزعة فلسفية، أو موقف من الحياة”. وتختم “ربما هذا النفس الفلسفي لا يخدم العمل الروائي، بل يثقله ويتعب القرّاء أو بعضهم على الأقل. لكن في إطار هذا النفس تحديدا، تنطلق الرغبة في الكتابة من الرغبة في فهم أسباب وجودنا هنا، وفهم ما نفعله وما يحدّد مصائرنا”.
__________
العرب