بعدما زال الرحيق



*بسمة النسور

مؤسف ومثير للخيبة وانعدام اليقين ذلك المصير الحتمي المتربص، عديم الرحمة والموحش الذي تؤول إليه علاقة الحب في نهاية المطاف، مهما بدت متينة عفية عصية على الاقتحام، ومهما أبدى أطرافها في مرحلة الوصل من تماسك وعشق وهيام وتعلق واكتراث وحميمة وألفة ومقاومة لتقلبات الزمن، غير أنه، في نهاية الأمر، وعلى الرغم من كل ذلك البهاء والتوهج الذي تختبره أرواح العشاق، امتيازاً إنسانياً ثميناً، يأتي وقت يتبدد فيه الوهم الجميل، وينفرط العقد فيخبو فتيل الحب الذي يبدأ متقدا حاراً، كفيلاً بإنارة الروح، فتنطفئ الأشواق كلها في لحظة قدرية حزينة غامضة غير مفهومة، هي بمثابة بروفة وتدريب عملي على فكرة الموت، كونه أكبر الخسارات قاطبة، حين يفترق الأحبة من دون أي مشيئة تذكر، بعد مواجهة لحظة الانتباه والإفاقة إلى (زوال الرحيق)، حينها يحل الفقد، كما الموت، باهظا ثقيلاً ناجزاً غير موارب، ويمر العشاق الملتاعون في كل مراحل الصدمة من إنكار ورفض وغضب وحزن، وصولاً إلى التسليم بواقع الحال.

وليت الأمر يجري ببساطة وأناقة، على غرار حفلات فيروز التي تختتمها بأغنية (أنا صار لازم ودعكن… دايماً في الآخر في آخر في وقت فراق)، فيضج جمهورها المهتاج الرافض رنة الحزن في الصوت العتيق، حين تلوح لهم بكبرياء مودعة، ويلحون عليها الرجوع، فتراضيهم، ولعلها ترشيهم بكلمات (زوروني كل سنة مرة)، الأغنية التي تشي باحتمالية الاستمرار، وبجدوى الرجاء، والأمل بتجدد الأشياء، غير أن الوداع، في الواقع، غالباً ما يكون قبيحاً، ولا يجري على هذا النحو، الفيروزي الشاعري الرشيق، وغالبا ما يجد العاشق المخذول نفسه، في مواجهة شائكة مفزعة، مع الفراغ والصمت والوحشة، وحيدا أعزل سوى من حفنة ذكرياتٍ، لا تسد رمق الروح اليتيمة منزوعة الفرح المصابة في مقتل، ليدرك فداحة خسارته، بعد كل ذلك الألق والبهجة والترقب واللهفة والاشتياق واللوعة والغيرة والتوق والهواجس والفرح الخالص الذي يعتري الروح ويمدها بطاقة سحرية عجيبة على الحياة، بمجرد لقاء الحبيب، أو سماع صوته، باعتباره السبب والمبرر الحصري للحياة. عندها، سوف يتيقن أن ليس لديه أي خيار سوى لململة ذاته الجريحة، سائراً على خطى المتنبي، حين قال ذات عشق: 
حببتك قلبي قبل حبك من نأى/ وقد كان غداراً فكن لي أنت وافيا
متذكراً أن الأحزان، شأن كل المشاعر، متغيرة قابلة للتبدل والتحول، وهي في العادة تبدأ كبيرة إلى درجة مخيفة، فتهجم بشراسة على النفس، وتستوطن القلب وتشل القدرات وتعطلها، ولكن إلى حين، غير أنها، وبمرو الوقت، سرعان ما تصغر وتضمر وتنكمش، وتذوي إلى أن تغدو نسياً منسيا، مجرد ندوب عتيقة، ليس لها سوى تأثيرات إيجابية، تمدنا بصلابة أكبر لمواجهة خيبات الزمن على كثرتها، وتلقننا دروساً عملية في مهارات التسامح، والمضي متخففين متحررين من أحاسيس الضغينة والجفاء والحقد.
ليست مهمة، بطبيعة الحال، تفاصيل سيناريو الخاتمة لقصة حب متقد، طالت سنين. المتفق عليه أنها إلى زوال. تلك هي طبيعة الأمور، سواء أسدلت الستارة بفعل الإفراط باعتياد الأشياء وفقدان القدرة على الدهشة، أو بسبب مباشر من شدة حجاب القرب، حسب النفري، حتى لو افترضنا أن النهاية الكارثية وقعت بسبب خيانة أحد الأطراف، يظل الأكثر إلحاحاً هنا هو كيفية إدارة تفاصيل الحياة منفردين، بعد ذلك الخراب الذي أحاق ببنيانها غير المرصوص. هل نجتاز درب الآلام الانفصال هذا بصبر ونبل ورفعة الأنبياء، أم نقع غير مأسوف علينا في مطب البكائيات ورثاء الذات، ما يؤدي حتماً إلى إطالة أمد الشقاء.
______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *