*خيري منصور
حين استبدلت الألفية بالشعرية، قدر تعلق هذا التناقض بابن مالك، كان ذلك على سبيل العثور على مدخل مناسب لإعادة فك الاشتباك المزمن بين النظم والشعر، وبين إعادة الإنتاج المَقول والقول البكر، رغم أن البكارة في الإبداع شجن قديم للشعراء منذ عنترة الذي قال هل غادر الشعراء من متردم، إلى عبد الصبور الذي وعد من يعطيه يوما واحدا من البكارة كل ما أعطته الدنيا من التجريب والمهارة.
هذا الهاجس الذي اقترن تاريخيا بمقولة دانتوس حين قال، سحقا لمن سبقوني فقد قالوا أقوالي كلها، هو اعتراف من الأجيال كلها بأنها ليس آدم الخليقة وأول السطر في سفرها وملحمتها، ونحن نعرف أن ألفية ابن مالك هي في النهاية درس في فقه اللغة وعلم النحو، هدفها تسهيل فهم القواعد بأسلوب غنائي مموسق، لكنها نموذج للنظم، وما تلاها من ألفيات أو مئويات كان يحذو حذوها ويقتفيها، لكن في شعاب أخرى غير شعاب النحو وفقه اللغة، فقد تكون قصيدة طويلة عن مناسبة من سلالة هذا النظم لكنها تفتقر إلى صدقيته، لأن صاحبها يزعم بأن ما يقوله شعرا، وما كتب في النقد الكلاسيكي عن أغراض الشعر كان مقدمات لتقطيع أوصاله، أو بمعنى آخر كان محاولات لسكب ماء البحر كله في جرار، فالشعر إما أن يكون شعرا بمعزل عن التعريفات التي حصرته في الموزون المقفى، وأضافت أحيانا ما يسمى نيّة النظم، أو لا يكون، لكن وفرة النماذج المنظومة التي يشح فيها ماء الشعر أتاح وفرة موازية لتأويلات نقدية بلغت حد التقويل القسري لنصوص ليس لديها في باطنها ما يتيح مثل هذا التقويل، إلا إذا كان ذلك على الطريقة البروكوستية التي تعذّب فيها النصوص كي تعترف بما لم تقترف، بروكوست كان يعذب ضحاياه كي تناسب قاماتهم طول سريره، فيبتر سيقانا ويمط أخرى، والنقد الذي يزج النظم في مدار الشعر يفعل ذلك أيضا لكن بمقاربات مختلفة، تضاعف المجازات والمترادفات من أساليب التحايل في تقديمها، وقد يكون أهم تعريف للشعر هو أنه غير قابل للتعريف، لأنه يحزر تماما كما يحزر القط الفأر عندما يراه، لكنه لا يستطيع تعريفه في غيابه، وهذا بالضبط ما قاله هاوسمان وهو يتصدى لتعريفات الشعر المدرسية بأطروحة مضادة، وانتهى إلى القول إن الشعر يصيبنا بالقشعريرة ولا ندري لماذا؟
ولو قام ناقد عربي حصيف بما قام به قدامة بن جعفر وهو فحص زنابيل ملأى بالورق، لاستبعد أطنانا من الورق لأنها ليست من الشعر في شيء، لكن هذه الحصافة تتطلب شجاعة ووعيا ورهانا خاسرا بكل المقاييس باستثناء رهان الإبداع.
لقد أعادت الحداثة المستعارة إنتاج أغراض الشعر القديم، لكن تحت اسماء أخرى، فالثورة قد تكون البديل المعاصر للممدوح، سواء كان خليفة أو ذا سلطان، والرثاء حتى لو كان لشهيد يغرف مفرداته من رثاء داجن في قصائد كتبت في مديح الموتى، وليس في تأمل الموت. أما المعيار الجديد الذي أعاد انتاج سوق عكاظ، الذي شهد هجاء قبيلة بني عبد المدان في الصباح ثم مديحهم في الظهيرة مقابل أجر، والذي زوّج فيه الرجل بناته السبع العوانس بفضل قصيدة صورته سيد الكرم والإقدام، فهي النزاعات السياسية وما يشحنها من نسب طائفي أو شهوة طبقية للتسلل من الأسفل إلى الأعلى.
والمقياس الآخر لتفوق هذه النظم هو بافلوفي بامتياز، فالاقتران الشرطي هنا ليس طعاما وجرسا ولعابا.. بل هو استخدام عبارات أو مفردات أو اسماء أشخاص وأمكنة تستدعي التصفيق على الفور، فالمستمع للشعر في أغلب أماسيه يصفق لما يتذكر ويعرف، وليس لما يدهشه ويكسر المتواليات الرتيبة لأفكاره، بينما الشعر الذي حاول هاوسمان الاقتراب من فهم له يتجاوز التعريف فهو يستدعي الصّمت والتأمل، حيث لا فرصة للتصفيق أو هز الرأس طربا.
وأذكر أنني سمعت في بعض أماسي الشعر الحضور وهم يستبقون الشاعر في ذكر القوافي، سواء كانت كما كتبها أو كما يتوقعونها، لهذا فألفيات ابناء مالك وأحفاده قد تؤدي دورا تربويا أو تسهل، من خلال الموسيقى وتناغم الإيقاعات، وحفظ القواعد أو المقولات، لكنها تبقى في الضواحي النائية التي لا تصلها كهرباء الشعر، وهنا مصدر الالتباس بين الشعر وما يتصور البعض منا أنه الشعر، فالنثر ليس نقيض الشعر، بل نقيضه هو النظم أو ما يكتب تحت اسمه ومظلته
* * *
ما من عصر كعصرنا ازدهرت فيه الأشباه والنسخ الكربونية، سواء عن سلع أو أفكار أو أقوال، بحيث أوشكت بعض المصانع التي تنتج سلعها من مواد أصيلة على الإغلاق والإفلاس، فالعملة الرديئة في زمننا بعكس كل الأزمنة طردت العملة الجيدة، وتحول الاستثناء إلى قاعدة، والانحراف إلى طبيعة ثانية مضادة لكنها بديلة، وحين ينافس عدد قراء الشعر عدد الشعراء أنفسهم فإن الأمر جلل، حيث أصبح من لا يورط نفسه في هذه الصفة متفضلا وعفيفا ومحترما لذاته وقدرها، فالنشر الآن سوق تتلخص معادلته في عقد بين شاعر يدفع وناشر يربح، حتى لو أتلف النسخ التي يطبعها أو حولها كما فعل بعض الناشرين العرب إلى أطباق من الكرتون لبيض الدجاج. فما من دور نشر، باستثناءات تكرس القاعدة، لديها قراء ومستشارون من طراز دور النشر ذات التقاليد العريقة في هذا المجال ومنها للمثال فقط دار غاليمار، التي كان أبرز مثقفي فرنسا من مستشاريها، ومنهم البير كامو، أو دار فايبر آند فايبر التي كان قارئها الأول ت. س. اليوت أو دار نشر بنجوين وغيرها.
إن فوضى النشر وفائض المطبوعات وغياب تقاليد النشر وضوابطه ضاعفت من الالتباس بين الألفيات المنظومة، والشعر الذي يثير القشعريرة كما قال هاوسمان. لهذا علينا أن لا نستغرب إذا تفوق عدد الشعراء على عدد القراء، وانصرف النقاد عن مهنتهم إلى تسويق السلع المقلدة التي يتخصص شرق آسيا في إغراق الأسواق بها.
أما إذا كانت البافلوفية والاقتران الشرطي بين الكلام المستعمل والتصفيق هي المعيار، فذلك شجن آخر له مقتربات سايكولوجية وربما إنثروبولوجية لأنه إفراز بدائي لكن ضحاياه يتوهمون بأنهم اول من غنى أو أول من كتب ولا يدركون مغزى ما قاله دانتوس أو عبد الصبور أو حتى عنترة عمن قالوا أقوالهم وغادروا متردم الكلام قبل قرون.
_____
*القدس العربي