الشتاء دافئ هناك ..


*منذر ابو حلتم

( ثقافات )

ثَمِل بشعورك بالملل، تسير في الشارع المزدحم ووجهك تضيئه مصابيح السيارات المنطلقة بين لحظة وأخرى. وهذا الجو الشتائي الكئيب يجبرك على السير بمحاذاة الأبواب الزجاجية المقفلة. وجوه كثيرة تمر قربك. يخيل إليك أنها حزينة.
الليلة ستنتهي. نعم، لا يمكن أن يطول الأمر اكثر من ذلك .!
تمر سيارة مسرعة. ينطلق رذاذ الوحل والشتائم. تضع يديك في جيبي سترتك الجلدية وتمضي.
***
– أنا لا أحب الشتاء. لكني أحب المطر! كانت تقول لك.
يفاجئك المقهى عند المنعطف. تشعر برغبة كبيرة في شرب شيء دافئ. أي شيء. يغريك منظر الدفء الماثل في الداخل. تجلس على طاولة فارغة. كانت لا تفرط في الشرب.
– إذا شربتُ كثيراً فإنني سأبكي. لا أحب أن تراني باكية أبداً! المدفأة الحجرية القديمة كانت تصدر صوتاً خافتاً. تقترب منك، وفي عينيها بحر أزرق دافئ.
– أنا لا أحب الشتاء! عندما كنت تقول لها إن الشتاء في بلادها دافئ رغم الثلوج، كانت تحتدُّ وتقول:
– الشتاء هو الشتاء في أي مكان!
تلتفت حولك، يفاجئك الضجيج اللزج. تنظر في الساعة. إنها العاشرة. صوت أغنية صاخبة لم تفهم منها شيئاً ينطلق من مذياع هرم.
تجيل عينيك في المكان. عيون ناعسة، عيون عابسة، ضاحكة، نائمة… أوراق اللعب تصفع الطاولات بعنف. آه… إنه الحصار يا صديقتي.‍ تأتيك القهوة.
كانت تحدثك بحماس. وعندما كنتَ تضحك وتقول لها إنها تشبه طفلة فلسطينية صغيرة استشهدت قبل سنوات في المخيم، كانت تبتسم وتقول :
– هل حقاً ستذكرني في روايتك الجديدة؟
تشعل سيجارة وتنظر إلى سقف المقهى. دخان لزج يتجمع في الزوايا . تنادي الجرسون وتطلب فنجان قهوة آخر. تقول لك:
– أنت مفرط في شرب القهوة. ثم تتابع بعد أن تصمت قليلاً:
– لا أدري لماذا تذكِّرني ببوشكين. أنت مجنون مثله على أي حال‍!
تبتسم وأنت تتذكر لَكْنَتَها الأجنبية وهي تلفظ اسمك. كنتما تتعمدان ألا تذكرا موضوع السفر.
– ماذا ستكتب عني؟ ثم أنت شاعر ولست روائياً. حتماً ستكون رواية مجنونة مثلك!
تمسح عينيها وتقول:
– يبدو أني شربت كثيراً. ستبعث الرواية لي. أليس كذلك؟ تشرب الكأس ببطء ثم تتابع فجأة بصوت متهدج:
– ستغيب طويلاً؟ لم تكن لديك القدرة على الحديث.
– ألا يمكن تأجيل السفر؟ أعني…
تبتسم بأسى وتقول لها:
– سأكتب لك كثيراً. ثم… من يدري؟ فقد أتمكن من المجيء بعد فترة.
تقترب منك. تطوقها بذراعيك. وصوت المطر يتساقط على النافذة.
أضواء الشارع تقتحم المقهى بين لحظة وأخرى، والشارع يقفر شيئاً فشيئاً. إنه قاع المدينة، يا صديقتي، حيث يعيش القديسون والقتلة، الشعراء الجائعون!
– سأنهي الرواية هذه الليلة. تقول وتنظر إلى الشارع وهو يغرق بماء المطر.
– هل تسمع لتشايكوفسكي؟ فكرة جيدة أليس كذلك؟
***
كانت مستلقية على الأريكة، تطوق صدرها بذراعيها وتنظر إلى سقف الغرفة، فتبدو رموشها طويلة. المدفأة الحجرية القديمة تصدر صوتها الدافئ.
– أتدري؟ لقد بدأت أحب الشتاء. هل ستكتب هذا في الرواية؟
تقول لها بأنها ستكون محور الرواية كلها. تقول لك بصوت مرتعش:
– ألا يمكن أن تسير الأمور في اتجاه آخر؟
تشعل سيجارة وتقول لها بأن العودة الآن هي الخيار الوحيد. تتجمع أمواج زرقاء في الغرفة الدافئة. تشايكوفسكي يحلق كنورس مهاجر. تنهار فجأة، تغطي وجهك بيديك.
– متى سيتغير هذا العالم الأحمق؟!
– أتبكي؟ ألم أقل لك إنك مجنون؟ كانت تبكي هي الأخرى.
***
تخرج من المقهى، فتلفح وجهك ريح منتصف الليل. تضع يديك في جيبي سترتك الجلدية.
عندما تدخل إلى غرفتك الصغيرة.‍ يزداد شعورك بالحصار!
تلقي نظرة على أكوام الكتب المبعثرة. على الكراسي المقلوبة. والملابس الملقاة أرضاً. تجلس على طرف السرير العاري وتشعل سيجارة. لقد أخذوا أوراق الرواية! تنظر إلى الأشرطة المبعثرة على الأرض. تشايكوفسكي ملقى بالقرب من رجل الطاولة!
باب الغرفة يفتح بعنف. عدة أشخاص يقتحمون الغرفة وينتشرون فيها شاهرين أسلحتهم كجنود في ساحة المعركة. تنظر إليهم. تبتسم بأسى. آه… يا صديقتي. لقد اكتملت الرواية الآن. لكني لن أتمكن من إرسالها إليك هناك، حيث الشتاء الدافئ…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *