*جهاد الرنتيسي
( ثقافات )
حارسات الذاكرة الفلسطينية
بعد عقدين من جمع وتحليل الاغاني الشعبية ، في فلسطين التاريخية ، تنتهي الباحثة نائلة لبس، إلى ان علاقة الفلسطيني بتراثه الغنائي ، أشبه بـ ” كرة دم ثالثة ، تضاف إلى كريات دمه ، البيضاء والحمراء ” لتكشف عن شكل مختلف من العلاقة ، بين الاداء الفلكلوري واصحابه ، يتجاوز توظيفات عابرة ، كادت ان تودي به ، إلى منزلقات الاستخدام الظرفي .
في كتبها الثلاثة ، التي تتناول اغاني الفلسطينيات القديمة ، ومحاضراتها في التجمعات الفلسطينية ، يعود الفلكلور الغنائي ، إلى مكوناته الاولى ، علاقته بالبيئة التي ظهر فيها ، والظروف التي ادت إلى ظهوره ، ومدى تعبير تحولاته ، عن العلاقات الانسانية ، في المجتمع الفلسطيني .
تشير لبس خلال حديث ، عن بداية قصتها مع الفلكلور الغنائي ، إلى وقع السحر في اغاني النساء ، خلال الاعراس ، مما دفع معلمة الموسيقى ، المهتمة بتراث سيد درويش ، والغناء الشعبي ، للنزول إلى القرى ، القريبة من مدينة الناصرة ، مع تلميذاتها ، لجمع ما يستطعن من اغنيات ، وخلال عملية الجمع ، تكون لديها انطباع ، بان هذه الاغنيات ، تقدم صورة واضحة المعالم ، للمجتمع الفلسطيني .
كان في مكونات الصورة ، التي تم جمعها ، ما يكفي لاثارة رغبة التوسع ، في اكمالها ، واعادة تعميمها ، وتوظيف دلالاتها ، لضخ دماء جديدة ، في عروق الهوية الجمعية .
فقد كانت هذه المكونات ، قادرة على التجدد ، في اطار خطوطها العريضة ، تستطيع استيعاب التطور الزمني ، وانعكاساته على العلاقات الانسانية ، عصية على الغياب ، وان تآكلت بعض اطرافها ، مع بقاء التراث الشفاهي ، خارج دائرة التدوين ، في معظم الاحيان .
ولانها كانت مسكونة ، بمعرفة سبب الاغنيات ، والهدف منها ، اختارت الباحثة “المنهج الوظيفي” الذي وجدته مناسبا ، لتصورات بحثها في اغاني الفلسطينيات ، حيث تشير في احاديثها ، إلى ان الاجابة على اسئلة من نوع ” لماذا نغني ، لمن نغني ، في اي ظرف ” تعطي للاغنية قيمتها ، وسبب دوامها واستمرارها .
يتردد في بعض ابحاث لبس ان الدافع وراء الفلكلور ، وشقه الغنائي بشكل خاص ، ما يؤديه في الاساس ، من وظائف حسية ، ووجدانية ، واجتماعية ، للفئة المتعاملة معه ، وبالتالي ” وظيفة ” الفلكلور اهم ما يشد الباحث ، للبحث فيه .
لقي الكتاب الاول ، حول اغاني الخطبة والزواج ، قبولا واسعا بين نخب الفلسطينيين وعامتهم ، في المناطق المحتلة عام 1948 ، واعتبره البعض ، من متابعي الحركة الثقافية والفنية هناك ، الاول من نوعه ، وتعامل معه اكاديميون ، في شمال فلسطين وجنوبها ، فيما بعد ، باعتباره مرجعا للبحث .
في شروحاته لطريقة الاداء في الاعراس ، يشير الكتاب إلى نوعين من الاغاني ، يسمى الاول ” مردودة ” والثاني ” مهاهاة ” ينقسم اداءهما إلى طريقتين مختلفتين تماما ، ولكل طريقة من هاتين الطريقتين ، وظيفتها ، واهدافها .
تتكون ” المردودة ” من شعر شعبي سهل الكلمات والوزن ، ولحن بسيط سلس ، يتغير بتغير المنطقة ، التي يتم الغناء فيها ، واطلق على هذا النوع من الاغاني اسم المردودة ، نظرا لترديد اللحن ، في كل الاغنية مهما طالت .
و ” المهاهاة ” اغنية فردية ، تغنيها امراة واحدة ، وهي عبارة عن بيتين من الشعر العامي ، في اربعة شطور ، تحمل فكرة محددة ، تكون في العادة غنية بالبلاغة ، تنتهي اواخرها بقافية واحدة ، او يشترك كل شطرين متقابلين في نفس القافية ، وفي بعض الاحيان ، يكون للشطر الاول والاخير ذات القافية .
كما يلتقط الكتاب ، من اغاني ” التراويد ” الخاصة بوداع العرائس ، والتي تؤديها امراة منفردة ، وتتوزع بين الحزن ، والفرح ، والحنين ، حساسية خاصة لدى النساء .
ويصف الغناء الفلكلوري ، بكل اقسامه ، وانواعه ، وغاياته ، بانه اسلس جزء من اجزاء الفلكلور ، الذي يظهر المأثورات الروحية ، لاي شعب ، مشيرا إلى خاصية ” اشتراك اللحن مع اللحن في تكوينه ” مما يسهل تداول هذا الجانب الهام ، من المأثورات ، بين الافراد .
يقسم وظائف الاغاني النسائية ، بين اجتماعية ، ونفسية ، ونفعية ، وعقائدية ، فيما يعيد مفردات هذا النوع من الغناء ، إلى عدد من العناصر ، بينها الممارسات الاجتماعية ، والعادات والتقاليد ، وادوات منزلية ، وحربية ، وزينة ، واماكن سكن ، وشعائر دينية .
اغاني الامومة والطفولة ، جانب اخر ، قد يكون منسيا ، من الفلكلور الفلسطيني ، سلطت نائلة لبس الضوء عليه ، في كتابها الثاني ” يا ستي ويا ستي ” لتقترب دائرة البحث ، في وظائف الغناء النسائي ، من الاكتمال .
لم تخف الباحثة ، خلال جمعها هذا النوع من الغناء ، وتحليله ، نظرتها النقدية ، حيث تلمس دورا للمرأة الأم ، في ادامة المفاهيم الذكورية ، و اعادة انتاج دورتها ، من خلال ما يتم تلقينه للاطفال .
تصف لبس المرأة بانها الوتر ، الواصل بين ضلع وقاعدة مثلث الغناء للطفل ، فهي التي تتولى حراسة العادات والتقاليد ، والاشراف على تمريرها ، للاجيال المقبلة ، بذكورها واناثها ، بعدما اعتنقت تلك الافكار ، من خلال التربية والوراثة ، واصبحت اكثر تشددا وتزمتا ودقة ، في تطبيقها ، لا سيما وانها ستحاسب ، من قبل الرجل ، في حال اخفاقها .
حسب رؤيتها ، اغاني الاطفال في الفلكور ، افراز لمناخ من الامثال الشعبية ، والممارسات ، والمعتقدات ، الا انها في المقابل ، تعتقد بامكانية التصرف بالفلكلور ، بالشكل الذي يتيح تقديم اغاني الاطفال ، بناء على الفكرة واللحن ، الموجودين في الاغاني التراثية ، مع الاخذ بعين الاعتبار ، معطيات المجتمع الحديث ، وتأثر الاطفال به.
واثر استعراضها للامثال الشعبية ، ذات العلاقة بالاطفال وتنشئتهم ، تتناول بالتحليل ، اغاني ولادة الذكور ، حمام الاطفال ، هدهدتهم في المهد ، وخطوات مشيهم الاولى .
في كتابها ” اغانينا النصراوية ” الذي يبحث في الاغاني ، التي اعتاد اهالي الناصرة ، على ترديدها في افراحهم ، تلتقط الباحثة لبس عنصرا مهما ، وهو علاقة الاغاني الفلكلورية الفلسطينية ، بالاغاني التي تتردد ، في المحيط الجغرافي ، للشمال الفلسطيني ، او ما تسميه ” بر الشام ” الذي يخضع لعوامل مناخية واحدة .
تصف تلك المنطقة ، التي تحضر مدنها ” الشام ” و” حلب ” و ” بيروت ” ايقونات جمال ، في قاموس العشق الفلسطيني ، بانها وحدة فلكلورية واحدة ، وتشير إلى ان الطبيعة ، بتضاريسها ومناخها ، حاضنة الفلكور ، والكلمة ، واللحن .
ترى ان لانتقال الاغنية ، من منطقة إلى اخرى ، ضمن الوطن الواحد ، او الوحدة الفلكلورية الواحدة ـ كما هو حال بلاد الشام ـ مساهمة في ابداع نصوص اضافية ، وبلورة افكار جديدة ، مما يدل على مرونة ، و قوة ، وسلامة بناء النص الاصلي ، كما ان في ذلك دلالات ، على مرونة الاغنية ، وقدرتها على تمثل تناقضات المجتمع ، وصراعاته .
تحرص لبس دوما ، على اقتناص فرصة ، ابداء الاسف لغياب التوثيق ، عن الموروث الغنائي الفلسطيني ، مما ادى إلى ضياع الكثير منه ، لكنها لا تحمل القدر الاكبر من مسؤولية الغياب ، لظروف الشتات والاحتلال ـ كما تجري العادة في مثل هذه الاحوال ـ بقدر ما تحمله لغياب الوعي ، بضرورة جمع الاغاني التراثية ، وحفظها من الضياع .
ويبدو غياب الوعي ، باهمية توثيق وجمع الموروثات الغنائية ، مركبا ، حين يتعلق الامر باغنيات المرأة ، حيث لفت نظر الباحثة ، الاكتفاء بالتلميح لاغنيات المراة ، في بعض اعمال الجمع والتوثيق ، بدلا من التعامل معها بجدية ، باعتبارها مكونا اساسيا ، من مكونات التراث الغنائي.
في سياق تدليلها ، على مقدار الخسارة ، الناجمة عن تجاهل عمليات جمع وتوثيق التراث الغنائي ، لاغنيات النساء ، تشير الباحثة نائلة لبس ، إلى اكتشاف اخر ، توصلت اليه في دراستها للاغنية النسائية الفلسطينية ، حيث تعبر خلال احاديثها ، عن اعتقادها ، بان ما غنته المرأة ، وحده الذي ينطبق عليه وصف الاغنية ، فقد غنى الرجال ، ما تصفه بـ ” نمط غناء ” لا تنطبق عليه مواصفات الاغاني .
تسلط مزيدا من الضوء ، على هذا الجانب ، لدى تفسيرها لوجود اغنيات للنساء ، واخرى للرجال ، حيث تشير لبس إلى سببين رئيسيين ، اولهما الفصل بين التجمعين الرجالي والنسائي ، في المناسبات العامة والخاصة ، وثانيهما اختلاف اهتمامات الرجل والمرأة ، ففي الوقت الذي تتركز الاهتمامات الرجالية ، على القضايا العامة ، تكاد اهتمامات النساء ، ان لا تتخطى عتبة البيت .
يغني الرجل ” انماط الغناء الواسعة ” مثل ” العتابا والميجنا ” وفي مثل هذه الاغاني ، ينتهي المعنى عن نهاية البيت من الاغنية ، دون رابط بين ما هو قبل وما هو بعد ، مما يحول دون تقديم اغنية متكاملة .
ويختلف الامر مع اغنيات المرأة ، التي تتكون من الكلمات وهي شعر شعبي منظوم ، واللحن الذي يتردد من اول الاغنية إلى اخرها مهما تعددت الابيات ، والايقاع الذي تتحدد سرعته تبعا للموضوع .
كما تتميز اغنية المرأة بـ ” الموتيف المتكرر ” فهي تبنى على موضوع واحد ، يجمع ابياتها ، مما يعني ان للاغنية النسائية في فلسطين ، بداية ونهاية ، الامر الذي لا يتوفر في انماط الغناء ، التي يؤديها الرجال .
لكن الامر لا يخلو ، من اغنيات نسائية ، يغيب عنها الايقاع ، مثل الاغنيات التي تؤديها المرأة ، خلال طقس تحضير الطعام ، حيث تكون الايدي مشغولة ، عن ضبط الايقاع بـ ” الطبلة ” او التصفيق .
لا تقتصر الفوارق ، في الاغنية الفلسطينية ، على جنس المغني ، فهناك اختلافات ، بين اغنيتي القرية والمدينة ، واخرى قائمة على الطبيعة المناطقية ، بين الشمال والجنوب الفلسطينيين .
تقول الباحثة لبس ، ان المواضيع التي تتناولها اغاني القرية ، تكون ذات طابع قروي ، يرتبط بالبيئة الزراعية ، والالحان لا تتعدى الاربع ” مازورات ” اي الجملة اللحنية القصيرة ، وعلى الاغلب لا توجد لازمة ، لتلك الاغاني ، وفي المقابل يتناسب موضوع اغنية المدينة ، مع انماط حياة ناسها ، والتفاصيل التي تشغلهم ، تطول الجملة اللحنية فيها ، وتتعدد المقامات الموسيقية ، ولازمة الاغنية موجودة دائما .
الاختلافات بين اغاني شمال فلسطين وجنوبها ، تخضع لعامل ” طبيعة ” المكان ، التي تؤثر في لحن الاغنية ولهجتها ” كلما اتجهنا شمالا تكون الالحان اكثر عذوبة ” تقول لبس ، وتعيد ذلك إلى الطبيعة الصحراوية في الجنوب الفلسطيني ، و لاختلاف اللهجة ، الذي يؤدي بدوره إلى اختلاف اداء الاغنية الواحدة ، بين الشمال والجنوب .
في كثير من الاحيان ، تحضر الطبيعة بنباتاتها ، في الاغنية النسائية الفلسطينية ، حيث سجلت الباحثة ، خلال عمليات الجمع والتوثيق ، التي قامت بها ، على مدى العشرين عاما الماضية ، اكثر من اربعين اسما ، لنباتات بريّه ، أو مزروعه ، أو أنواع من الأشجار المثمرة ، والحرجية ، وتتعدد اغراض وجود هذه الانواع من النباتات ، بين الوصف ، أو مكان تواجد الانسان ” تحتها او بجانبها ” تبعا لموضوع الأغنية ، وفي بعض الاحيان ، للدلالة على رائحة عطرية ما .
بموازاة ثبات مؤثرات الطبيعة ، بمناخاتها ونباتاتها ، والجغرافيا بتفاصيلها ، التي لا تعترف بالحدود ، تحضر تاثيرات التحولات السياسة ، في الاغنية النسائية الفلسطينية ، لتلقي ظلالا ثقيلة ، على مواضيع الاغنيات .
حظي ” السفربرلك ” خلال الحكم العثماني ، باهتمام الفلسطينيات في ذلك الزمن ، حيث روت الاغنيات قصصهن ، وهن يودعن رجالهن إلى حروب ، لا يعودون منها على الاغلب ، الا ان اغنيات ذلك الزمن ، باتت صدى لاغنيات وداع الفلسطينيات ، لرجالهن الذاهبين إلى السجون ، في مدد حكم طويلة ، قد يعودون منها ، او لا يعودون .
تظهر نائلة لبس اهتماما ، بايصال التراث للاطفال ، بشكل يتناسب مع ذهنياتهم ، والتحولات التي طرأت مع مرور الزمن ، بدافع تثبيت الهوية ، لدى الجيل الجديد من الفلسطينيين ، في الشمال الفلسطيني المستهدفة هويته .
استدعى ذلك منها ، القيام بتأليف اغنيات للاطفال ، تتحدث فيها عن بعض مكونات التراث ، كالامثال الشعبية ، والماكولات ، والادوات المنزلية ، والالعاب ، وسرد الحكايات الشعبية ، وتعليم بعض الاغاني الفلكلورية ، في رياض الاطفال ، والبساتين ، ولا تخفي الباحثة ، انبهارها بالاقبال و التجاوب الذي تجده لدى الاطفال ، خلال تعلمهم وادائهم للاغنيات ، الذي تصفه بانه فوق المتوقع .
توحي محاولات جمع وتوثيق هذا النوع من الغناء ، والاستجابة الواسعة التي تلقاها ، لدى الباحثين والاكاديميين في التجمعات الفلسطينية ، والاجيال الجديدة من الفلسطينيين ، بملمح جديد ، من ملامح العودة ، إلى اوليات الصراع ، من اجل البقاء ، والتمسك بالارض والهوية ، وتعيد إلى الاذهان ، تحويلهم الصبار ، في القرى التي هجر منها اصحابها ، إلى ايقونة ، تدل على اصحاب الارض الاصليين ، وتقاوم الطمس الممنهج للوعي بالمكان .