حُـــــمّــى الـــحـرف..


*نجــاة إدْهَـــان
( ثقافات )
تستفيق على عجل. تنزع عنها الغطاء، تتعثّر فتسقط ويرتطم رأسها بطرف السّرير لكنّها لا تستسلم، لا تعتني بالوجع. تتعجّل الوقوف وتمضي قبل أن تهجرها الحروف. كم تخاف أن تتناثر الكلمات مع الخطى! تعرف جيّدا تفاصيل هذا الوجع، حين تحتلّها الكلمات وتدعوها إلى جنّة الورق لكنّها تعلن العصيان مرغمة فلا تستجيب. تهجرها أيّاما حتى تكاد تستجديها، تهيّئ لها مملكة من الزّجاج وتكشف عن ساقيها وتنثر حولها غمامة بخور وتتنفّس عميقا ملء شوقها إلى ولادة بزبد البحر وصدفه اللآلئ.. لكنّها تتمرّد فلا تستجيب. ما أوجع انتظار ولادة لا تأتي!
تبدأ رحلتها.. يكفيها أن تكتب الكلمة الأولى، هي بسملتها، لتعلن ثورة التراتيل. تتناسل الكلمات وتتنفّس هي ملء جنونها. تنسى كلّ العالم حولها بقوانينه وأحكام ليله ونهاره وتتعلّق روحها بسماء لا تُظلِم. نشوة غريبة تسكنها كلّما تسابقت الكلمات. يميد كلّ جسدها، تهزّه هذه الولادة من القلب. تتمنّى لو يمكنها الصّراخ بأعلى صوتها ككلّ الأمّهات تعلن وجعها واحتفاءها بهذا القادم الذي تنحته من تفاصيل ملامحها ونبض أناملها وروحها المعلّقة أبدا بين السّماء والأرض..
تغمض عينيها وتواصل أصابعها النّقر على الحروف. كم تعشق لحن الكلمات! بديع أن تدرك مرتبة الخلق بكلّ ما فيها من رغبة في الفناء في الحرف. تأخذها نشوتها بعيدا فتضرب على المكتب بيدها وتصرخ: “وإنّي أعشقني حدّ الثّورة عليّ، حدّ عجن روحي حرفا لا تعرفه اللّغة..”
يقف قبالتها. ينعم النّظر إليها متعجّبا. تبتسم لسطورها تتتالى تسابق جنونها. ما أسعدها وأناملها تمطر حروفا فيزهر الورق. لا يفهم ما تعيشه كلّما سكنها جنونها، لا يجد له مبرّرا.. عليها أن تعود إلى رشدها. ماذا لو أفاق الجيران على صوتها متى صرخت مرّة أخرى؟ ماذا تراه يقول: “أعتذر، زوجتي تكتب نصّا جديدا! زوجتي في حالة إلهام!”؟ سيسخرون منه وسيثرثرون عنهما كثيرا. لا حاجة إلى كلّ هذا. الأمر يسير، عليها أن تتعقّل وتتحكّم في لحظات جنونـها. مازال يذكر حين اجتاحها جنونها مرّة وهُـما في الشّارع: ضحكت عاليا، وقفت أمامه، طلبت أن يغمض عينيه، وضعت يدها على جبينه. قالت: “أحبّك، تسكنني رغبة في أن تحضنني حتّى ينشقّ قفصك الصدريّ فيبتلعني ثمّ أصرخ من بين ضلوعك أنّي أعشقك وأنّ الأرض لن تلعنني لأنّني لن أطأها وحدي يوما..”
تسمّر الزّمن. ودّ أن يبتلعها فعلا وإن شقّ جسده فقط ليتحاشى نظرات المارّين وضحكاتهم المكتومة. هو لا يعلم أنّ بعضهم يغبطه فمجنونته تمنحه ما لا يجرؤ عليه العقلاء.
دقّ على الباب دقّا خفيفا. أحيانا يشفق عليها من هذا الطوفان الذي يجتاحها. لكنّها لم تسمع. مازالت عيناها مغمضتين ومازال جسدها يرقص على لحن تراتيل لا يسمعها غيرها. رفعت يدها في الهواء. حرّكت أصابعها كأنّها تعزف لحنا معلّقا.
ـ وإنّي أراك قادما من اللاّشيء، كالأنبياء، كالأطفال، كالشعراء وأولياء الله الصّالحين..
هزّه ما سمع. دقّ الباب بعنف أكبر لكنّها لا تستجيب، مازالت معلّقة بهذا القادم. اقترب من مكتبها. ضرب بقوّة فاهتزّت بكلّ ما فيها من حروف ومعنى وتبعثر كلّ شيء. فتحت عينيها. نظرت إليه. لم يجرؤ على النظر في عينيها. كانتا تنتفضان وجعا، تسكنهما ولادة مؤجّلة قد لا تكتمل.. أغمضت عينيها ثانية. قتلتها ظلمة المكان. تلاشت مملكتها ولم يعد يجدي نفعا أن تكشف عن ساقيها وقلبِها وكلِّ الموج فيها. سُرقت حروفها فجأة. اغتالها بكلّ برود. عصف بكلّ ما رتّلت فصفّرت الرّيح السّموم واندكّ كلّ شيء على روحها المتعبة. حاولت جاهدة أن تدعو حروفها. توسّلت لها لكنّها لم تأت.. كانت على حافّة الخلق، كانت خطاها ثابتة سويّة على قطراتِ معنى لا يشبه غيره. كانت على وشك أن تطال القمر من وراء السّقف ولكنّه جاء.. الآن تمقت أنّه جاء. الآن تراه شيطانا يسرق رغبتها في بلوغ المطلق فيقطع عليها الطّريق بكلّ ما في الشّياطين من جبن وسواد.
شعرت أنّها تحتاج إلى جهد الأنبياء لتستعيد ما تطاير حولها، لترمّم هذا الصّدع الذي انفجر في وجهها فجأة. لو كانت شيطانا لرمته من النّافذة بعيدا. بسرعة أغمضت عينيها مرّة أخرى. لا تحبّ أن تكون شيطانا فتسرق الخلق فيها. هربت إلى الحروف تنضّدها هكذا. تستجديها علّها تأتي فترقص على حافّة الخيبة معها. لا أحد يدرك حجم الوجع حين تتلاشى الحروف وتعلن العصيانَ تواطؤا مع جنونٍ لا يرتضي شريكا.
قتلتها خيانة الحرف والصّوت وإيقاع أصابعها فلملمت بقاياها وهربت إلى فراشها علّها تستعيد الكلمات في الحلم. ستخون الورقة في الحلم وستوزّع روحها بين نظمها وحفظها. في الحلم لا يتسلّل إليها. في الحلم لا أحد يطال وجوه الخلق فيها فيدقّ على بابها كالشّياطين. في الحلم لا استفاقة خارج ضوء القمر. لـملمت بقاياها وتلحّفت انتظار الكلمة الأولى، بسملة التراتيل.. لا شيء يأتي، لا شيء.. هو الخواء بعد امتلاء الرّوح، هي قهقهة الشّياطين ووعد بانتقام مجنون حين سيجتاحها طوفان الخلق مرّة أخرى. كان فراشها باردا. ودّت أن تهرب إليه فتحتال على خيبتها به وتقتل وجه الغباء فيه. لكنّها لا تفعل. شيء ما فيها ينفر منه فتغمض عينيها وتستسلم لفراغ تـمقته..
لا شيء يأتي مصادفة. لا شيء يخلق المعنى فيها فتعيد تشكيل الحياة وتعلن ثورة لا تنتهي. ستنتظر هذا القادم.. تلملم أوراقها صباحا وتكتم دمعة يتيمة. موجع هذا الموت الذي يأتي فجأة فيظلم الكون وتفنى الرّوح لأنّ أبواب السّماء مغلقة. وتساءلت كيف تخونها الشّمس فتطلع مبكّرة. كان لها أن تؤجّل طلوعها فيمتدّ الحلم وتشفق عليها الحروف..
تهرب إلى فنجان قهوتها. تمتدّ أصابعها إليه تتحسّس حرارة الحياة فيه، علّ الحروف تتناثر حولها ثانية. لا تنصت إلى شيء حولها فكلّ ما حولها قارع طبول يزفّها إلى سارق جنونها وقاتل نصّها. تحتاج إلى حرف يزفّها والزّمان والمكان إلى طوفان آخر وينثر حولها الورود وحبّات الأرز ويتوّجها بإكليل غار لا يشيخ ولا يهرم ولا يُغتال فجأة على أيدي سرّاق الجنون وقطّاع طرق الخلق. تمرّر إصبعها على الفنجان. ترسم دوائر تذكّرها بالموت فتسأل نفسها: “متى تخلد الأشياء؟ متى يُحفر الحرف فلا يُمحى ومتى يتسمّر جنوني فلا يطؤه الزّمن ولا يبتلعه تعقّل الآخرين الكاذب؟” ظلّت الدّوائر ترسم وظلّت حرارة الفنجان تزداد. ارتعد كلّ جسدها فأغمضت عينيها وصرخت بأعلى صوتها تعلن ولادة لن يقتلها الظّلام ولا اعتراض الجيران ولا واجبات الزّوجات والأمّهات حين ترى حروفها تجري مع الماء نحو اللاّشيء، نحو العدم فتكتفي بأن تلعن كلّ شيء حولها.. صرخت فاهتزّ كلّ ما فيها وعلا طوفانها. أسرعت تلاحق مدّه، تعثّرت. كادت تسقط.. هذه المرّة، لن تهرب حروفها حتّى وإن دقّ كلّ من حولها أبواب الأرض والسّماء..
______

*كاتبة تونسيّة

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *