*رشيد أركيلة
مع رواية “جلد الدب”، الصادرة حديثا عن “منشورات غاليمار”، تبدي الكاتبة الفرنسية جويْ صورمان من جديد بالغ الاهتمام بتلك العلاقة بين الإنسان والحيوان التي، وهي تفتح أبوابا عجائبية، تخول لها أن تتناول بطريقة خيالية قصة الإنسانية بل وحتى تحديد ماهية الكائن البشري. إنها تحاول مرة أخرى أن تغوص حتى في أعماق عوالم غريبة عنها وهي تستثمر كل العناصر الممكنة.
رواية “جلد الدب”، للكاتبة الفرنسية جوي صورمان، قصة تأخذ شكل أحجية تستكشف الحدود المقلقة بين البشرية وعالم الحيوان، وتدعونا إلى رحلة فريدة داخل جلد الدب. هي طريقة تجعل حواسنا تختل وتدعونا إلى إلقاء نظرة جديدة ومحيرة على عالم البشر.
لطالما وصف الإنسان بحيوان ناطق، كما قدمت نظرية تطور الأجناس، وإن أدحِضت شرعيا وأصبحت متجاوزة علميا، فرضية أصول مشتركة بين الإنسان والقرد على اعتبار أن جينا واحدا فقط من بين الستة والأربعين صبغيا هو الذي يشكل الفارق.
عن هذا النسق الأدبي الذي اختارت الكاتبة الاستمرار في سبر أغواره، أوردت جويْ صورمان في تقديم مؤلفها لدى وسائل الإعلام التي تُعنى بالثقافة والأدب، أنها بعد إصدارها لرواية “كحيوان” التي كانت قصة جزار أصبح مجنونا باللحوم وكان يقيم علاقات جد فريدة وجد شهوانية مع الأبقار، اكتشفت بالتالي أن الحيوان هو إحدى الشخصيات المثيرة للخيال بشكل عجيب وأنه غالبا لا يتمّ استثماره بالشكل المطلوب.
هكذا ارتأت أنه من المهم أن تضخ هذا الشريان الحيواني إلى أبعد مدى، فقررت أن يكون بطل روايتها المقبلة حيوانا وأنها ستجعله يتكلم بما أن “جلد الدب” هو مونولوج لدب يروي قصة حياته، وقد فكرت بإمعان في الحيوان الذي من شأنه أن يكون بطلها، فاختارت الدب لأنه في نفس الآن حيوان جد قريب من الإنسان، فهو يقف على قدمين، وهو عاشب لاحم، وقبل القرد كان من المفترض أن يكون السلالة الحيوانية الأقرب إلى البشر، خاصة أن هناك العديد من الأساطير التي تدور منذ العصر الوسيط حول الدب، وعلى الأخص تلك الفكرة التي مفادها أنه يجذب الفتيات الشابات وأنه مفترس رهيب جنسيا، بل وأن الفتيات هن أيضا ينجذبن نحوه بمجرد تواجدهن بحقله الاستشعاري.
وحش هجين
السارد وحش هجين، ولد من تزاوج امرأة مع دب، يحكي عن حياته الحزينة. بعدما تغيرت ملامحه بالتدريج لتغادر أي سمات بشرية وتأخذ شكل حيوان، سيباع لعارض للدببة ثم إلى منظم لمصارعات بين الحيوانات، ثم يقطع بعدها المحيط ليدخل عالم عروض السرك حيث سيلتقي بكائنات عجيبة أخرى، قبل أن تحدث له مصادفة حاسمة بمقبرة حديقة الحيوان.
تحتفظ ذاكرة الأدب العربي بأجمل وأروع المؤلفات التي وظفت الحيوانات بشكل ذكي ومهارة متناهية، وإن كان طابع الأحجية الخيالي الذي يسمها ليس إلا مرآة لواقع حاصل قرر الأديب الرائد ابن المقفع أن يعالجه باستعارة شخصيات حيوانية، للتحرر من أيّ نوع من الرقابة، فجعلته تلك المهارة يبدع رائعة “كليلة ودمنة” حيث مازالت ذاكرة طفولتنا تحتفظ بالعديد من عناوينها.
هي نفس فكرة التحرر التي راودت الكاتبة جويْ صورمان إلى حدّ ما، إذ تقول في معرض حديثها عن المؤلّف أنها أرادت أن تتسلى مع شخصية الدب لأن تواجد حيوان برواية ما، هو من دون شك ضمان للحرية المطلقة. بالنهاية، تقول المؤلفة “حين نتحرر من الواقعية، وحين نقرر أن نجعل حيوانا ينطق، حين نتحرر من كل القواعد، يمكننا أن نتسلى ونجري تجارب حول أنساق أدبية وابتكارات، قد تغدو مستحيلة مع كائن بشري”.
فكرة مجنونة
هكذا تسرد ذلك اللقاء العجيب بين امرأة ودب وما الذي سيحصل جرّاء هذا التزاوج المناقض للطبيعة وكيف أن شخصية الأحجية هذه التي ستنشأ من هذا الاختلاط الخارق لكل الأعراف، ستعيش حياة مليئة بسلسلة من المغامرات والتحولات المفاجئة. وإذن فالخيار العجائبي حاضر لتوّه ولو أنها أرادت رغم كل شيء، أن تحافظ، ليس على الواقعية، وإنما قدر المستطاع على الدقة والتطابق الوثائقي على غرار كل رواياتها، وإن كان ذلك لا يبدو جليا في هذه الرواية.
يتوجب بيع جلد الدب للقارئ، ومن هذا المنطلق يتوجب بالنهاية تفعيل المعاهدة المتفردة والخاصة معه في هذه الرواية، وهكذا فإن الكاتبة تقوم بدعوة القارئ إلى ولوج هذه القصة الخيالية وأن يؤمن معها بأن جلد الدب يمكن أن ينطوي على ضمير بشري، أن دبا يمكنه التكلم، وأن حيوانا من المحتمل أن تكون لديه نظرة على الإنسانية.
وهذا يفترض تعاقدا متينا مع القارئ، حيث تضيف المؤلفة “أعتقد أن تاريخ الأدب هو أيضا حكاية خيالية، هي قصة ذلك التحالف بين شخصية خيالية، وبين كاتب وقارئ”. بالعودة إلى الدب كشخصية بطل الرواية، تضيف الكاتبة جملة من المبررات التي تبرز أن الدب هو بالفعل أحد الأوجه الرمزية القوية للغاية، ربما بدرجة أقل في تاريخ الأدب، و لكن بدرجة أعلى في تاريخ الأساطير، غير أنها تقرّ بالأخير، أن الشيء الذي حفز بداخلها فعلا الرغبة في كتابة هذه الرواية هو قراءتها لمؤلّف لـ”ميشال باستورو” بعنوان “الدب” والذي يعرض كل التمثلات والأوجه التي تجسدها هذه الصورة الحيوانية.
بجريدة “ليكسبريس”، كتب الناقد فرانسوا بوسنال في تعليق له عن هذه الرواية: إنه كتاب جريء ومجنون. سيشبع فضول الذين يبحثون عن قصة متينة المبنى وكذلك الذين يبحثون عن معنى لما يحصل لنا. لن نعرف أبدا أين ومتى تدور أحداث هذه الحكاية الغريبة، وهذا من حسن الحظ. ها نحن محمولون في عالم حيث تُختطف الشابات العذارى من طرف دببة، وتُحتجز بأعماق الجبال النائية. وماذا تعتقدون أن يحصل حين تتحد الرغبة مع الدهر ضدّ هؤلاء المحتجزات البريئات؟
________
*العرب