الحب الضائع.. أكبر خساراتنا


*حنا عبود

قدم طه حسين في كتابه «الحب الضائع» نماذج لحب يضيع: أسباب كثيرة تجعل الحب يموت، أو لنقل إنه يفشل ولا يموت؛ حتى لا نزعج من يؤمنون بالحب، ويعتقدون أنه يحل جميع المشاكل من دون أي استثناء، فحتى أعدى الأعداء يلين ويتغيّر إذا عومل بالحب الصادق. ولا يكتفي طه حسين بعرض النماذج في الحياة الإنسانية على سطح الأرض، بل يتابع الحب في العالم الآخر، فحب تيتيوس، غازي فلسطين، لملكة الفلسطينيين بيرينيس، لم يفشل في الحياة هنا، بل فشل في الآخرة هناك. ويراعي طه حسين الآخرة الوثنية، ويقدمها حسب الصورة السائدة لدى الرومان أو اليونان.

حتى ملوك الجن- في كتاب الحب الضائع- لا يجدون مدخلاً إلى قلب بنت الملك الجميلة الفاتنة، وترفض زعيمهم الذي عاش آلاف السنين، فملّ الحياة مع البشر وقرّر أن يغادر الأرض إلى العالم الآخر.
وفي عرضه للعقبات التي تعترض الحب لا يجد القارئ عقبة تشبه الأخرى. ولكن يمكن للقارئ من مراقبته الحياة البشرية أن يكتشف أضعاف هذه العقبات المتنوعة المألوفة أحياناً والغريبة أحياناً أخرى.
يختلف «الحب الضائع» لطه حسين عن «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست، فـ طه حسين يغوص في أعماق النفس عن طريق العلاقة البشرية، وكيف أن العلاقات المشوّهة تفرض نفسها على أعظم «حب سعيد» فتدمره، بينما مارسيل بروست يرى أن النفس تحتفظ بالحقيقة في ذاتها لا تؤثر فيها العوامل الخارجية، وبذلك تعيش النفس حياتها الخاصة، ويمر الزمن يشوّه ما يشوّه ويدمر ما يدمر، ولكن النفس تحتفظ بمكوّناتها الخاصة.
كتاب بلا نهاية
في كتاب «أحلام شهرزاد» اكتفى طه حسين بتصوير تسلل الملل إلى شخصية شهريار، بعد أن فقد السرد المثير لشهرزاد تأثيره، ولذلك بدأ الكتاب من القصة التاسعة بعد الألف، مقتصراً على شخصية محورية هي شهريار. أما في «الحب الضائع» فجاء بنماذج عدة، من التاريخ القديم والحديث، وحوّل وبدّل وغيّر فيها بحيث جعلها مادة للتحليل الاجتماعي والنفسي، تاركاً للقارئ- كعادته- اختيار الدلالة لكل حدث.
لو أراد طه حسين أن يجعل «الحب الضائع» كتاباً مفتوح الخواتيم لما انتهى إلى خاتمة، ولظل يكتب نماذج من الحب الضائع إلى آخر حياته. ماذا لو أنه مثلاً عرض للحب الضائع في تجربة الشعراء العذريين، الذين كانوا من بواكير اهتمامه، فدرس بتوسع هذه الظاهرة العذرية بجهبذية الأساتذة وخيال الشعراء؟
ولو أنه انتقل في كتابه إلى العصر العباسي لقدم لنا الكثير من الأمثلة عن الحب الضائع. ولا نظن أن بقية العصور، من الجاهلية حتى اليوم، خالية من هذه الأمثال، هذه النماذج التي درسها طه حسين وغير طه حسين، ناهيك عن الأمثلة التي لا عد لها من الحب الضائع، الذي لم يهتم بها طه حسين ولا غيره.
ولو انتقل إلى الغرب واستعاض عن شهريار وشهرزاد أو عن تيتيوس وبيرينيس بأمثالهم لوجد الكثير. وفي كتاب «الحب والغرب» يطلعنا رايشنباخ على الحب النموذجي الضائع وهو حبّ تريستيان وإيزولد فأثبت أنه نموذج معمم في أدب الغرب، وأن كل حب ينتهي إلى الفشل، فكأن السعادة كامنة «في السعي» إلى الحب، وليس «في الحب» ذاته. وكما استعان المفكر العربي بملوك الجن، استعان المفكر الغربي بعصير الحب والسحر- ولا فرق- فوصل الاثنان إلى نتيجة واحدة وهي أن الحب عمل يشبه بقية أعمال الإنسان الأخرى، كبناء منزل لوفير الاستقرار والهدوء والراحة فإذا هو واجد فيه الشقاء والقلق، أو كجمع المال على اعتقاد أنه يجلب السعادة، فإذا هو يجلب له الشقاء، وبدلاً من أن يمضي بقية العمر في رعاية نفسه، نراه يمضي العمر في رعاية ماله على حدّ قول المتنبي في قصيدته «أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر»:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
أو مثل الأب الذي ينفق شبابه ويهدر أيامه في سبيل «بناء» ابن له يركن إليه في أواخر عمره، فيعيله أو يساعده أو يخفف عنه بعض ما يعاني، فإذا الولد جافي الطبع حجري القلب، يزيد أعباء شيخوخة أبيه أضعاف ما كانت الأعباء قبل هذه الشيخوخة، على حدّ تعبير أمية بن أبي الصلت:
فَلَمّا بَلَغَت السِّنَ وَالغايَةَ الَّتي
إِليها مَدى ما كُنتُ فيكَ أُؤَمِلُ
جَعَلتَ جَزائي غِلظَةً وَفَظاظَةً
كَأَنَكَ أَنتَ المُنعِمُ المُتَفَضِلُ
أو مثل ذاك القائد الذي برّر هزيمته بالقول إنه كان يظن العدوّ قادماً من الغرب، فإذا هو يهاجم من البحر…
وهذا ما أوضحه طه حسين، بصورة خاصة، في كتابه «الحب الضائع» فدائماً تكون التقديرات شيئاً وتأتي النتائج بشيء آخر، أو بأشياء أخرى. وفي أكثر الأحيان يعالج الإنسان مشكلة من المشاكل، فإذا فراخ هذه المشكلة تزعجه أكثر من المشكلة نفسها.
الحب والحرب
لم يعرف العالم جمعيات للدفاع عن حقوق الإنسان كما عرف في هذه الأيام. بل ظهرت إلى جانبها جمعيات للدفاع عن حقوق المرأة، والرأفة بالحيوان… في القديم كانت الأديان تتولى هذه المسئولية، وتقاس مواطنية المرء بمدى التزامه بهذه الوصايا أو التعليمات، من أمثال أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا لمن أساء إليكم… ولم تجد هذه الوصايا طريقاً للتنفيذ. وليس غريباً أن نجد الجواب في الميثولوجيا، فإله الحب كيوبيد هو ابن إله الحرب مارس، ودائماً كان الغلبة لمارس، بل إن للحب رباً واحداً عند الإغريق، بينما للحرب رب وربة وهما: مارس وشقيقته بيلونا، التي كانت تدخل بين المتحاربين صباحاً تحرض الطرفين بالمناديل البيض، وتعود مساء وقد صارت حمراء اللون. كانت تقود العربة لمارس وفي يدها مشعل تكشف به مخابئ الطرفين المتحاربين، بينما جعلوا شخصية كيوبيد طفلاً غراً، أمام شخصية مارس التي تمثل القوة الغاشمة، بما فيها من اندفاع وحماقة وجهالة وتقلب مزاج، وجعلوا شخصية بيلونا امرأة مخبولة أو مجنونة، تعشق هذه اللعبة الدامية وتتمتع بمشاهدة الساحات تمتلئ بالقتلى.
يبدو أن القدامى كانوا أخبر بالطبيعة البشرية من علماء النفس في هذه الأيام. ويشاركهم ذلك العلامة أحمد أمين الذي يرى أن الحجة الدينية الدامغة تؤيد ضياع الحب بحكم الوراثة، لا بحكم الظروف؛ فالبشرية ليست من نسل ممثل السماحة والحب هابيل، المخلوق المسكين الهادئ الورع النبيل، بل من نسل قابيل القاتل المحارب الفاسد الشرير، والباحث عن فرائس بشرية. فلا حب ولا سلم ولا براءة في نسل قابيل «الحيوان المحارب» كما يقول أحمد أمين.
الأدب والعلاقة الاجتماعية
نلاحظ أن شعر الحب تضاءل حتى كاد يختفي قبل الحرب العالمية الثانية، واختفى بعدها بحيث لا تقع العين على قصيدة شعر فيها نفحة حب، ولو كان حباً معبراً عن غرارة الصبا وطيش الشباب، عدا بعض الشعراء كنزار وإيلوار أراغون ونيرودا… وشعر الحب أول نشاط أدبي في الإنسان، حيث يظهر بين الثانية عشرة والخامسة عشرة. وهو في هذه المرحلة يحمل شخصية كيوبيد الطفولية تماماً، بل يبقى محافظاً على هذه الشخصية مهما تقدم في السن. فما الذي جعل الحب أول شهيد في العصور الحديثة التي كثرت فيها لجان الدفاع عن حقوق الإنسان؟ ولماذا لا تحظى المرأة اليوم بالاحترام الذي كانت تحظى به في عصر الفروسية: عصر عنترة والملك أرثر والسير لانسلوت؟
المشكلة الأساسية في الحياة البشرية، منذ قديم الزمن، هي مشكلة الجوار. فالأديان المشهورة توصي كثيراً بالجار: لا تشته امرأة جارك ولا ثوره ولا أرضه… وفي الأمثال العامة «إكرام الجار لأربعين دارْ» و»الجار قبل الدار»… ولكن ظهور الدولة جعل لها كياناً خاصاً متسلطاً يفسد كل علاقة. ولهذا ربط ماكس فيبر كل المشاكل المثيرة للنزاع والصراع والحرب بالدولة، على غرار ما فعل الفوضويون. وكل نمط من أنماط الجماعة له «روح» تفرض نفسها على الجميع- كما يرى غوستاف لوبون- فإن كانت علاقة إيجابية مال المجتمع إلى الاستقرار، وإلا فالصراع بين جماعات الأمة، والحرب بين الأمم… 800 عام والدولة الرومانية تخوض الحروب، ومعبد جانوس لم يغلق أبوابه سوى أيام قليلة. ومنذ ذلك التاريخ والحروب لم تنقطع. و»قوائم الحرب» في هذه الأيام فيها من أسماء الوقائع ما يعادل عشرات أضعاف الأسماء في «قوائم الحرب» القديمة؛ بسبب الأسلحة النارية، أو بالأحرى بسبب النفوس «النارية».
أدى هذا إلى تراجع نوعين من الشعر: الحربي والغزلي. فاليوم لا يتغنى أحد بالحرب في أدبه، ولكنه أيضاً لا يتغنى بمعشوقته، أو «الحبيب المجهول» أو «الحبيب المتماهي» حسب تعبير الصوفيين. ومنذ زمن بعبد أشار والتر سكوت إلى ذلك:
إن من كان يصنع المسرة والمتعة
كلما شدّ وتر القيثارة
صار محتقرا مرذولا،
ومن كانت تصغي إليه الملوك
لم يعد أحد يصغي إليه في هذه الأيام.
الصخب الناجم من الصراعات بمختلف أنواعها: من دينية وعرقية وقبلية وأسروية… والحروب المحلية والعالمية، وانفجار القنبلة السكانية التي غيّرت كثيراً من «العلاقة» بين الناس جعل الشعر الحربي والغزلي ينسحب من الميدان، بل إن الشعر بعامته طفق ينسحب من الحياة الأدبية. وفي كل وسائل الإعلام الفضائية والأرضية، المسموعة والمكتوبة، يتراجع الشعر، ليس الحربي والغزلي وحده بل الشعر بعامته إلا المعبر عن الضجر والقلق والذات المتأففة من كل شيء تقريباً.
إن عصر النثر الذي حدثنا عنه هيغل إنما صنعته القنبلة السكانية والصراعات الداخلية والحروب المحلية والمنطقية. ولكن هذا العصر ليس عصر «كل ما هو عقلي واقعي، وكل ما هو واقعي عقلي» كما صوّره هيغل، بل عصر العولمة الذي تصنّعه القوى العالمية تصنيعاً، حتى إنك تجد مفارقة كبرى بين العقلي والواقعي.
وانسحاب الشعر في الأقطار الشرقية من النشاط الأدبي استحضر الدائرة الشيطانية، فالأدب يدخِل اللطف في العلاقة الاجتماعية، وفقدانه يجلب التوتر، فتنمو طحالب الطائفية والعرقية، فمن دون حب الفن والأدب، من دون عشق الحق والخير والجمال، لا يمكن التغلب على العلاقة الشائهة المشوّهة.
الحب الضائع الذي حدثنا عنه طه حسين، بثقافته الواسعة ورهافة إحساسه، لا يمكن العثور عليه، أو لا يمكن استرجاعه إلا بطريقة واحدة، وهي الخضوع لسلطة الفن، التي قال عنها طه حسين نفسه إنها أعظم سلطة في العالم. فهي سلطة قوية جداً، ومفعولها في «العلاقة» أقوى من المؤثرات الأخرى، مهما كانت فعّالة. ولا يكون هذا إلا بالممارسة. وهل هناك ممارسة للحب أكثر من إنتاج الفرح للناس، كل الناس؟
هكذا نصنع الحب
إن الوصايا بالجار والعلاقة والتضحية والتسامي تظل حبراً على ورق، أو تظل أصواتاً من فضائياتنا لا تأثير لها. التأثير الفعال الحقيقي لا يكون بالوصايا بل بالممارسة، ولا تتحقق الممارسة إلا بالمزيد من الإنتاج الأدبي والفني الذي يقدم الثالوث المشهور: الحق والخير والجمال؛ وبذلك يصنع الفرح، والفرح يصنع المعجزات؛ وبذلك يرتفع المرء فوق النزعات الممزقة من طائفية وعنصرية وقومية. وقتها يمكن الحديث عن الحب.
________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *