لماذا فشل ‘فتاة المصنع’ في الوصول إلى تصفيات الأوسكار


*أمير العمري

منذ أن عرض فيلم “فتاة المصنع” والضجة حوله لم تتوقف، فقد قوبل الفيلم باهتمام صحفي ونقدي كبيرين، وكأنه عمل من أعمال السحر الخارق، وكأن مخرجه المخضرم محمد خان قد أتى بما عجز غيره من سائر “السحرة” في أرض السينما المصرية، عن الإتيان به.

حصل فيلم “فتاة المصنع” لمحمد خان على عدد كبير من الجوائز التي تمنح في المسابقات المحلية المصرية للأفلام المصرية، كما احتفي به في عدد من المهرجانات الدولية التي تقام في مصر، وعندما عرض في مهرجان دبي لم يتمكن من الحصول سوى على جائزة التمثيل لبطلته الممثلة الناشئة الوافدة حديثا إلى السينما، ياسمين رئيس، الأمر الذي من المؤكد أنه يثير إحباط الكثيرين من محبي المخرج محمد خان، خصوصا بعد أن رفض الفيلم في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية الكبرى في العالم.
هذا الإحباط بلغ ذروته عندما أجمعت المؤسسات السينمائية المصرية على ترشيح الفيلم لدخول منافسة الأوسكار ممثلا لمصر، لكن الفيلم كالعادة، فشل في دخول القائمة التمهيدية للأوسكار، ولا شك أن الأمر لا يعود إلى “مؤامرة” ما، بل لا بد أن تكون الأسباب كامنة في الفيلم نفسه: موضوعه وبناؤه وتوجهه الإنساني العام.
من المعروف أن الفيلم الذي يصل إلى الجمهور في العالم الخارجي يجب أن يتمتع بمستوى أبعد من مستواه الأولي (الواقعي)، أي بنوع من الشفافية في التناول تجعله يصل إلى الجمهور في العالم. وهذا هو ما يسمى بالبعد الكوني، بحيث يشعر به الياباني مثل البلجيكي مثل النيجيري مثل الأميركي.
وفي المقابل يبدو فيلم “فتاة المصنع” -للأسف- خاليا من هذا المستوى الأعمق الذي يجعل له أصداء لدى المشاهدين في العالم، ويبقى عملا تقليديا يعيد سرد حكاية قديمة سبق أن قدمتها السينما المصرية من قبل، ولكن هذه المرة في ديكورات الأحياء العشوائية والبيئة الهامشية التي نشأت في مصر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة.
“فتاة المصنع” فيلم مهم، أساسا، لأن مخرجه هو محمد خان، أحد أهم المخرجين في السينما المصرية. وهو المخرج الذي قدم الكثير من الأفلام التي تعتبر من كلاسيكيات السينما المصرية التي لا تنسى مثل “موعد على العشاء” و”طائر على الطريق” و”الحريف” و”أحلام هند وكاميليا” و”زوجة رجل مهم” و”كليفتي”.
ومع ذلك اتجه محمد خان خلال السنوات القليلة الأخيرة إلى الاعتماد على سيناريوهات تكتبها زوجته، كاتبة السيناريو الشابة وسام سليمان، وهي سيناريوهات قد تبدو من ناحية، متسقة مع فكر محمد خان السينمائي الذي يهتم كثيرا بالمرأة ومشاكل المرأة في مجتمع ذكوري بطريركي مثل المجتمع المصري والمجتمع العربي عموما.
وهي من ناحية أخرى، تبدو مناسبة أكثر لصنع تمثيليات التلفزيون الاجتماعية، أكثر منها سيناريوهات لأفلام سينمائية مركبة متعددة المستويات، فهي تميل إلى الحبكة التقليدية البسيطة التي كان خان قد تخلص منها تماما في فيلمه الطليعي “كليفتي” (2004).
وعلى العكس من بطلة فيلمه السابق “في شقة في مصر الجديدة” (2007) التي كانت تنتمي بشكل ما، إلى الطبقة المتوسطة، تنتمي بطلة “فتاة المصنع” -هيام- إلى الطبقة الأدنى، العاملة، وتقيم في أحد أحياء القاهرة العشوائية التي تتصف بالفقر والقذارة والتكدس السكاني، ويبدو أن كل آمال سكانها الحصول على الخبز والستر. وهيام تعمل في مصنع للنسيج، مع مجموعة من الفتيات يرتدين جميعا الحجاب المنتشر خصوصا في الأحياء الشعبية بين الفتيات.
هيام كما نراها في الفيلم فتاة تتطلع إلى الحب، تحلم بفارس الأحلام، مثل غيرها من الفتيات. وعندما يأتي شاب للعمل كرئيس للعاملات يطلقون عليه “الباش مهندس صلاح”، سرعان ما تتنافس الفتيات على لفت انتباهه، لكن هيام تقع في حبه، إلاّ أنه من طرف واحد، ومع ذلك، تفرض نفسها على أسرته وتدخل بيته لرعايته وهو مريض، وتلح إلحاحا من أجل الحصول على تعاطفه وعاطفته إلى أن تنال منه قبلة عابرة، تترتب عليها بعض المفارقات.
فهيام تتصور أن القبلة تعبير عن الحب، وعندما تسري إشاعة في المصنع أن هناك إحدى العاملات حامل، سرعان ما تلصق الفتيات التهمة بهيام التي لا تنكرها تماما، فهي تقول لأمها أن الدورة الشهرية منقطعة منذ شهرين.
هنا تنقلب الدنيا فوق رأسها، ويتعين عليها أن تدفع ثمن تلك الغلطة الشهيرة في السينما المصرية، أي فقدان بكارتها. ويكاد صلاح نفسه أن يدفع ثمن الكذبة التي يتضح أنها كانت مجرد محاولة للفت نظر صلاح الذي لا يبالي ويتنكر للقبلة العابرة، ويفلت من دفع الثمن.
النساء في الفيلم أقوى من الرجال، وهنّ اللاتي يعملن ويمسكن بزمام الأمور، بينما الرجال في معظمهم عاطلون، يجلسون في المقاهي، يثرثرون أو يشكون قلة الحيلة.
فيلم “فتاة المصنع” نموذج لولع خاص أصبح مستقرا، منذ فترة، لدى مخرجي السينما المصرية، بصنع أفلام عن طبقة المهمشين، يحاولون من خلالها رصد قيم مثل التساند الاجتماعي والمفاهيم القديمة عن الشرف، وشهامة أهل الحارة وغيرها من الأنماط المألوفة في السينما التقليدية.
وهو نموذج مثالي لسينما الميلودراما المصرية التقليدية، ولا ينقذه من المبالغات الميلودرامية المصطنعة إخراج محمد خان المتمكن، الذي يتمثل في براعته في التقطيع، والانتقال من مشهد إلى آخر ومن لقطة إلى أخرى، وفي رصد التفاصيل من خلال لقطات شديدة الذكاء، مع قدرته على التحكم في الإيقاع داخل كل مشهد على حدة وداخل الفيلم كله، وتحريكه المجاميع، واختياره الموفق لمواقع التصوير، واستخدامه زوايا التصوير من زوايا مرتفعة.
فالكاميرا تبدو وكأنها تراقب وترصد وتتلصص، كما تصور حالة الحياة الجافة المتعبة التي تعيشها فتيات المصنع، بين العمل على ماكينات الخياطة أو تناول الوجبات السريعة والثرثرة حول الرجال، أو انتظار الحصول على الخبز، ومحمد خان يعرف أيضا كيف يصور احتفالهم بالحياة، بالغناء والرقص والتطلع إلى الحب.
لا يتجرأ سيناريو وسام سليمان على أن يجعل هيام تواجه فكرة العذرية المفقودة بالصمود والدفاع عن حقها في الحب، بل يجعلها تنهزم وتتراجع لنكتشف في النهاية أنها لم تفقد شيئا، دون أن نفهم ما الذي جعلها توحي بعكس ذلك أو تسكت على ما تواجهه من اتهامات من قبل الجميع: الأهل والزميلات والصديقات بل وصلاح نفسه أيضا.
ويحتوي “فتاة المصنع” على كل ما يحيط بموضوع العذرية من تداعيات: مضايقات، إشاعات، اعتداء بالضرب المبرح، قص شعر، صراخ، هستيريا، محاولة انتحار، محاولة قتل الفتاة غسلا للعار بالدم، وكلها عناصر موجودة بقوة في صلب سيناريو الفيلم، حاول محمد خان الالتفاف حولها بمهارته المكتسبة من أفلامه السابقة دون جدوى.
وعلى حين أراد محمد خان أن يكون فيلمه تحية إلى الراحلة سعاد حسني، بدت كل أغاني سعاد حسني التي يتم تقطيعها على مدار الفيلم، مقحمة وغير متسقة مع طبيعة المادة الدرامية في الفيلم نفسه، ففتاة بتركيبة هيام الطبقية والعُمرية يجب أن تكون أقرب في اهتماماتها إلى أغاني شيرين عبدالوهاب في أفضل تقدير، لا أغاني سعاد حسني، ممثلة الطبقة الوسطى المصرية في عصرها الذهبي.
________
*العرب

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *